لا سياسة في الدين ، ولا دين في السياسة • ثورة 25 يناير بقدر ما كشفت المخزون الحضاري المستكن في الشخصية المصرية وهو ما ظهر خلال فترة ميدان التحرير وحتى سقوط مبارك، بقدرما كانت كاشفة وفاضحة لمواقف الكثير من الرموز والتيارات والأحزاب السياسية ، ومن خلال مواقف الناس منها وفيها وبعدها ظهر حجم التطورات الخطيرة وما طرأعلي خريطة الحياة من تغييرات في الناس والقيم والأشياء، ولم تتوقف تأثيراتها على الداخل في مصر وحدها وإنما عكست أيضا حجم الآفات والعاهات التى أصابت المجتمعات العربية والتى كانت كالأمراض المعدية التى تجتاح العالم الإسلامي، وأهمها أفتان ربما لا يلتفت إليهما كثير من الباحثين .وتتلخص في عبارتين يجتمع فيهما البؤس واليأس • الآفة الأولى: هى البؤس السائد لدى علماء السلطة الذين يدعون أنه “ لاسياسة فيالدين” • والآفة الثانية :هى اليأس السائد لدى الجماهيرالذين يقتنعون خطأ أنه “لا دين في السياسة “ • أسباب البؤس في الآفة الأولى كانت نتيجة لتراكمات واختراقات استهدفت تفريخ المؤسسة الدينية العريقة من محتواها وتأميمها لتكون في قبضة الدولة وتحت تصرفها كأي مؤسسة أخرى مثل مثل هيئة كهرباء مصر ، أو هيئة مياه القاهرة مثلا وتحويل العاملين فيها إلى مجرد موظفين مهما كانت مراكزهم في سلم القيادة ، ومن ثم انقسم أهلها إلى فريقين . • فريق الغالبية : وهو فريق يَخدِم السلطان الجائر بشكل غير مباشر ولو بطيبة مفرطة لا تمنع من الاستغفال والاستعمال ، حين يشارك بالنطق والتصريح أو بالسكوت وهو لا يدري. • وفريق يشكل أقلية : وهو فريق يُخدِّم الناس للسلطان الجائر بشكل مباشر وهو يدري . • الفريق الأول خطر، فلكي تخدم عدوك ليس بالضرورة أن تكون غبيا أو خائنا ، يكفي أن تكون عاشقا لذاتك عبدا للكرسي والمنصب . • والفريق الثانى: هو الأكثر خطورة، لأن أهله تحولوا إلى ذئاب ذابوا في سيدهم وهم يعلمون، فلم يبق لله فيهم شئ بعد أن اختاروا السقوط ، ومن ثم فالمجتمع الإسلامي تتحقق فيه المصيبتان ، مصيبة من لا يدري ، والمصيبة الأعظم ممن يدري ويعلم أنه يدرى . • بؤس المصيبتين اللذين تسبب فيهما من لا يدرى ومن يدري يتولد منهما مصيبة ثالثة، لا تقطع أمل الناس فى الإصلاح فقط ، بل تجعل الصلاح الذى يجب أن يتحلى به العالِم والذى يسبق عملية الإصلاح يكاد يكون وصفا نادرا قلما يتحقق ، والنتيجة أن تتحول كل دعوة للإصلاح في نظر الجماهير إلى مجرد "طق حنك"أو "كلام ليل مدهون بزبدة ، فإذا طلع عليه النهار وسطعت عليه الشمس ذاب وتحلل"، كما يقولون في المثل، الأمر الذى يدفع إلى الإحباط واليأس لدى الجماهير. • ومن هنا كان الأمر يحتاج إلى إيضاح يستفيض في شرح جدلية العلاقة بين السياسي والديني، مَن يتبع مَن ؟ ومَنْ يستعمل مَنْ ؟ • في تاريخنا الإسلامى ومنذ عصر النبوة ، يلتقى الرمز السياسي بالرمز الدينى ،وكلاهما يكمل الآخر، وهما معا وجهان لحقيقة واحدة هى الدولة الإسلامية بالمفهوم الحقيقي وليس بالمفهوم المدعى أو المختطف أو المختلط والملتبس. • والتقسيم بين ما هو دينى وما هو سياسي لم يعرف في عصور الازدهار الأولى ،لا لأن الدين كان يشكل الإطار والمرجعية فقط ،وإنما لأنه يشكل المنهج الذى يصوغ فكر الناس ووجدانهم، ويصنع رؤيتهم ورؤاهم وتصوراتهم، وينظم علاقتهم أفرادا وأسرا ومجتمعا ودولة . • باختصار شديد كان الإسلام هو مصدر التشريع والتوجيه والتعليم ، وهو الضابط لكل سلوك، والحكم في كل تصرف، والناس يتعاملون معه كأنه إكسير الحياة ، ففيه وجدوا أنفسهم ، وعرفوا طريقهم وحددوا هدفهم ووجهتهم ، وبه تحققت القيم السيادية في حياتهم "الحرية ،والإيمان ،والعدل ، والكرامة الإنسانية ،" • ومن مبادئه وأخلاقه صاغ الناس نموذجا جديدا للإنسان لم تألفه الدول الكبرى في ذلك الزمان، فتطلعت إليه بإعجاب جماهير الشعوب التى عانت من القهر والقمع والاستبداد ، وهفت إليه قلوب الباحثين عن الحقيقة من كل الأجناس ، ورأت فيه خلاصها من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ، ومن ظلم الناس إلى عدل الإسلام . • رسالة العزة والعدل والحرية والكرامة لخصها لسان أعرابي صاغه الإسلام عقلا وفكرا ووجدانا هو ربعي بن عامر أمام إمبراطور الفرس رستم. • والإسلام قد كان هوالروض الريان الذى أثمر رسالة العزة والعدل والحرية والكرامة ولذلك أحبته وأمنت به وعشقته وتفانت في خدمته شعوب وأمم ،وشيدت من خلاله صرحا حضاريا وثقافيا جديدا كان طابع الرحمة والخلق والعناية بالإنسان وعمارة الكون أهم أركانه وقواعده ، ومنه تشكلت الملامح وقسمات الجمال العامة التى يتضمنها الإسلام منهجا ورسالة حضارية ربانية في مصدرها وإنسانية في أهدافها وغايتها . • في الجانب الآخر خشيته دول وإمبراطوريات ودكتاتوريات مستبدة ، حيث رأت فيه بديلا حضاريا ومنافسا اقتصاديا ، وخصما ثقافيا وأخلاقيا جادا وخطيرا مهددا لوجودها، ورأت في مبادئه تحريضا على استرداد الكرامة والحقوق ورفض الدنية، ومن ثم كان العداء والمكر والكيد ومؤامرات الليل. • في السياق التاريخي تكون المقارنة محزنة بين الماضى والحاضر، فقد كان الأعرابي ربعي بن عامر أعلى قدرا وأكثر احتراما وشرفا من زعامات لها لحى وشوارب لا تجرؤ هاماتهم أن ترتفع أمام كوندا ليزا أو هيلارى كلينتون أو السيد جون كيرى حين يتلقون الأوامر والتعليمات. • والذين حررهم الإسلام يدركون جيدا أن الكلمة لا تستمد قيمتها ووجودها من قدر قائلها فقط ، وإنما أيضا من قدر ومكانة من قيلت له أو قيلت فيه، وبقدر ما فيها من إخلاص وصدق، بقدر ما يضفي الحق عليها من صفات القبول والخلود فتبقي ولا تزول . • فإذا أردت أن تكون كلماتك باقية خالدة ، فاجعلها لله الحي الذي لا يموت . • الرجل الأول ربعي بن عامر حرره الإسلام ففهم هذه العبارة ولذلك مارس عزته وحريته ، ولم يسمح لأكبر أمبراطور في ذلك الوقت أن يجرح من دينه قلامة ظفر، فتحدث معتزا بدينه ،شارحا لرسالته ، لذلك بقيت كلماته ومواقفه خالدة ، بينما زعامات اليوم تتحرج من انتمائها لدينها بعد أن انخلعت منه وتحولت إلى موالى وعبيد، ومن ثم فلم يؤبه لها ، ولو جلست على بحار من الثروة، فبعد أن هانت على الله فقد هانت حتى على كلاب الأرض. ومن يهن يسهل الهوان عليه ........ ما لجرح بميت إيلام • الإسلام بما يمثله من منهج ورسالة ورموز ومرجعيات كان يقود السياسي ويرسم له على الطريق خطاه. • والسياسي كان تابعا للدينى وكان يشكل السلطة التنفيذية للدولة ، بينما الإسلام يشكل المرجعية والإطار العام. • ظل الأمر كذلك فترة من الزمن ، فكان السياسي لا يستمد شرعيته إلا من الدين، وكان للرمز الإسلامي من النفوذ وسلطات الرقابة ما يمكنه من محاسبة السياسي وعزله إن تجاوز أو أساء. • المسافة بين رجل السياسة ممثلا في الحاكم ، وبين الرمز الدينى ممثلا في العالِم أو الإمام لم تكن شاسعة، ولم تحمل ثنائية التناقض والتضاد، لأن الحاكم في ذلك الوقت لم يكن أكثر من خادم منفذ لإرادة الأمة ، ومرآة تعكس وعيها وولايتها عن طريق الشورى وبعيدا عن أي غطرسة بما يقدمه وبغير مَّنٍّ ولا أذى . • كما لم تكن تحركه المصالح الخاصة لنفسه أو لحزبه وطائفته، وإنما تحكمه مصالح الأمة، وقد يغلب عليه الدهاء والمكر، ولكن ليس له أكثر من وجه، ولا يتقلب مع الأحداث . • الرمز السياسي في الإسلام يحكمه منهج وقيم وأخلاق ، ومن ثم لم يكن معصوما ، وآراؤه لا تستعلي على الحوار والمناقشة والأخذ والرد، وكل مايمتاز به أنه يستمد قوته من الشورى وولاية الأمة التى اختارته ، ولديه مسؤولية يسأل عنها ويحاسب عليها أمام الأمة مصدر السلطات. • الرمز السياسي ممثلا في الحاكم ينظر إليك على أنك مخلوق لسيده فيرعى فيك حق من خلقك ، فأنت أخوه في العقيدة، فإن لم تكن، فأخوه في الوطن، فإن لم تكن فأخوه في الإنسانية، وحركته وسلوكه وفعله وتأثيره يجب أن يرتبط في الوعي العام والخاص بمبدأين اثنين هما: الشورى وولاية الأمة، ومن ثم فهو يترفع عن النفعية والشللية، ولايراك وسيلة لدعمه حين يحتاج إليك في الانتخابات ، ولا يبيع لك الوهم بمعسول القول، ولا يخدعك بوعود وعهود لا وفاء فيها ولا احترام لها، ولا ينظر إليك على أنه هو الصياد وأنت الفريسة. • في عصور الاستبداد والقحط السياسي تنفصل السياسة عن الدين بحجة أن الدين ثابت والسياسة متغيرة، وأن الدين مقدس والسياسة نجاسة ، وأن الدين وحي الله، والسياسة فعل الإنسان ، ومن ثم فلا سياسة في الدين ، ولا دين في السياسة ، وكأنما يراد ألا تكون للسياسة أخلاق أو ضوابط من قيم، • فمن أين جاء هذا الشعار الكارثي ، وأين ولد وكيف دخل غازيا في ثقافتنا ؟ هذا ما سنعرض له في المقال القادم إن شاء الله .