في واقعة هزت ضمير المجتمع المصري، أقدم طفل في الثالثة عشرة من عمره على قتل زميله في محافظة الإسماعيلية بطريقة بشعة تقشعر لها الأبدان؛ لم تكن هذه الحادثة مجرد جريمة عابرة يمكن تجاوزها مع مرور الأيام، بل هي جرس إنذار صاخب ينبهنا إلى ما وصلت إليه بنية التنشئة النفسية والاجتماعية لأبنائنا في زمن الانفتاح الرقمي غير المنضبط، هذا الطفل لم يولد مجرماً، ولم يترب في فراغ، بل عاش في بيئة رقمية مفتوحة بلا حواجز، يبحر فيها عبر الهاتف الذكي، ويتنقل بين مقاطع العنف ومشاهد الدماء، ويصل بسهولة إلى عوالم أكثر عتمة عبر ما يعرف بالدارك ويب، ذلك الفضاء المظلم الذي يتسلل إليه من لا يملك أدوات الوعي أو الحماية، فتنشأ في داخله بيئة مشوشة يتشكل فيها وعي هش، ويترسخ فيها العنف دون أي مقاومة. في الماضي، كانت الطفولة تنشأ داخل دائرة محدودة من الأمان الاجتماعي، بعيدة عن ضجيج العالم واتساعه، وكانت الحارات الصغيرة فضاء للعب البريء، والمدرسة مؤسسة للتربية والتعليم، فكان وعي الطفل يتشكل في إطار واضح المعالم وتحت رقابة مجتمعية حقيقية، وكانت الأسرة والمعلم والجيران هم مصدر الوعي والتربية، وكانت حدود المعرفة واضحة، والرقابة الأسرية حاضرة، أما اليوم، فقد تغير المشهد تماماً، فتجد الطفل يحمل هاتفاً ذكياً في جيبه يتيح له أن يشاهد خلال دقائق ما لا يستطيع رجل بالغ احتماله؛ لقد تراجع دور المربي الحقيقي، وتقدمت الخوارزميات لتلعب الدور الأساسي في تشكيل وعي الطفل، وغابت الرقابة الأسرية لصالح الانشغال اليومي والتشتت المستمر. تشير تقديرات تربوية ونفسية إلى أن أكثر من ثمانين في المئة من الأطفال في العالم العربي يمكنهم الوصول إلى محتوى مفتوح وغير خاضع لأي رقابة حقيقية، هذا الانكشاف المستمر يجعل الحس الإنساني يتبلد، والمشاعر تتقسى، وحدود الصواب والخطأ تتداخل، والتكنولوجيا، بالرغم من أهميتها، إلا أنها حين تُترك بلا ضابط، تتحول من أداة للتنوير إلى أداة للهدم، فالطفل في سنواته الأولى يتعلم من خلال التقليد، فإذا كان النموذج أمامه عنيفاً أو مضطرباً، فإنه يعيد إنتاج هذا النموذج داخله، ومع قضاء ساعات طويلة أمام مقاطع الدماء أو الألعاب التي تقدم القتل كوسيلة للانتصار، يتشبع الطفل بالعنف دون وعي، وعندما يغيب الحوار الأسري والتربية الواعية، يتحول هذا التشبع الصامت إلى سلوك عملي في الواقع. من أخطر ما يجهله كثير من الآباء أن الأطفال والمراهقين قد يتسللون بسهولة إلى الدارك ويب، ذلك الفضاء المظلم الذي لا يخضع لأي رقابة، ويحتوي على أبشع صور الانحراف الإنساني: تجارة السلاح، ومشاهد العنف الموثقة، والجماعات المنحرفة، ومقاطع تزرع في عقل الطفل إحساساً زائفاً بالقوة، هنا يصبح الخيال المظلم فعلاً إجرامياً قابلاً للتنفيذ، وما حدث في الإسماعيلية ليس سوى نموذج صارخ لهذا التحول الخطير. لكن الجريمة لم تولد من فراغ رقمي فقط، بل من فراغ تربوي عميق أيضاً، فالأسرة التي تسلم الهاتف للطفل منذ سنواته الأولى من أجل أن يهدأ أو ينشغل، تتحمل جزءاً من المسؤولية، والمدرسة التي اكتفت بتلقين الدروس وتجاهلت المؤشرات السلوكية والنفسية تتحمل جزءاً آخر، والمجتمع الذي يتعامل مع التكنولوجيا بانبهار غير نقدي، متجاهلًا ما تقتضيه من وعي وضبط، يتحمل الجزء الأكبر وفي صميم هذه المأساة تقف أزمة الأسرة المفككة، لا بوصفها تفصيلاً هامشياً، بل باعتبارها جذراً عميقاً في تكوين السلوك المنحرف، فالطفل الذي ينشأ في بيت تتصدعه الخلافات أو ينهشه الانفصال، يعيش في فراغ عاطفي قاس، يشعر فيه بأنه غير مرئي، لا أحد يصغي إليه، ولا أحد يحميه، وفي مثل هذه البيئات المهزوزة، تتآكل قدرة الطفل على بناء صورة متماسكة لذاته، وتضطرب رؤيته للعالم من حوله، وحين تنشغل الأم المنفصلة بصراعاتها اليومية، وينهمك الأب في العمل خارج المنزل حتى يغيب حضوره التربوي والنفسي، يتحول وجوده إلى ظل لا يملأ الفراغ، فيجد الطفل نفسه معلقاً بين غيابين: غياب الحاضن العاطفي، وغياب السند التربوي، وهنا تتسلل المؤثرات الخارجية بلا حواجز لتملأ هذا الفراغ، فيصبح الهاتف المحمول أقوى من صوت الأسرة، والمشهد العنيف على الشاشة أقدر على التشكيل من أي توجيه أبوي؛ إن هذه الحالة ليست عرضاً طارئاً، بل مفتاحاً لفهم عمق ما حدث، لأن غياب الدفء العائلي والرقابة الواعية يفتح الباب واسعاً أمام التشوه النفسي والسلوكي. المدرسة من جانبها بدت في هذه الواقعة بعيدة كل البعد عن دورها التربوي، كثير من مدارسنا اليوم أصبحت مؤسسات امتحانات لا مؤسسات تربية.... المعلم مثقل بالأعباء، والإدارة منشغلة بالأوراق، والمناهج لا تترك مساحة لبناء الوعي العاطفي والسلوكي، والسؤال هنا من كان يراقب هذا الطفل؟ من لاحظ تحولاته؟ من التقط إشارات الغضب الكامن أو الانفصال الوجداني؟ لو كانت هناك برامج حقيقية للكشف المبكر عن الاضطرابات السلوكية والنفسية في المدارس، لربما تم احتواء الأمر قبل أن ينفجر على هذا النحو المروع. ولا يمكن إغفال أن الخطاب المجتمعي نفسه يسهم في تفاقم الأزمة، ففي كثير من البيوت، يُمنع الطفل من التعبير عن خوفه أو حزنه أو غضبه، ويُطلب منه أن يكون "رجلاً" قبل أن يفهم معنى الرجولة، وتُكبت مشاعره، وتتراكم داخله حتى تنفجر في سلوك عدواني قد يوجهه نحو نفسه أو نحو غيره.. إن الصحة النفسية للطفل ليست رفاهية، بل قضية أمن مجتمعي، وقد أثبتت تقارير نفسية عالمية أن الإهمال العاطفي وضعف الحوار داخل الأسرة يزيدان من احتمالات السلوك العدواني لاحقاً. الجريمة التي وقعت في الإسماعيلية ليست مجرد مأساة أسرية، بل مؤشر خطر على تحلل منظومة الحماية النفسية والاجتماعية؛ فهذا الطفل لم يتحول إلى قاتل في يوم واحد، بل عبر سنوات من الإهمال، والمشاهدة السلبية، والرقابة الغائبة... إن المسؤولية لا تقع على فرد واحد، بل على منظومة كاملة: السوشيال ميديا التي تفتح الأبواب أمام العنف دون ضوابط، المدرسة التي لم تعد تقرأ عيون طلابها، الأسرة التي تفتتت أدوارها، والمجتمع الذي لا يملك ثقافة وقائية حقيقية. الحل لا يكون بالصراخ ولا بالتنديد، بل ببناء وعي جماعي جديد؛ علينا أن ندرك أن الطفل الذي يشاهد ويُهمل ويُترك دون رعاية نفسية قد يتحول إلى خطر على نفسه وعلى غيره، لا بد من برامج حقيقية للتربية النفسية في المدارس، ومنح الأخصائيين الاجتماعيين والنفسيين مساحة حقيقية لممارسة دورهم لا مجرد ملء أوراق، ولا بد أن تعود المدرسة إلى دورها الإنساني، والأسرة إلى دورها الحاضن، والسوشيال ميديا إلى مساحة مسؤولة، لا فوضى مفتوحة. ولأنني أنتمي إلى الحقل الجامعي وإلى قسم اللغة العربية تحديداً، فإنني أؤمن بأن اللغة ليست فقط أداة للتعبير، بل أداة للتشكيل أيضاً، كيف نتحدث مع الطفل عن العنف؟ كيف نصوغ له مفاهيم الغضب والاختلاف والكرامة؟ كيف يسمع يومياً كلمات القتل والدم وكأنها مفردات عادية؟ نحن بحاجة إلى ثورة في الخطاب لا تقل أهمية عن الثورة في التشريعات. هذه الجريمة ليست صفحة يمكن طيها، إنها جرس إنذار صريح، إذا لم نلتقطه الآن، فقد نستيقظ على جرائم أشد وأقسى... الطفل القاتل ليس وحشاً جاء من فراغ، بل ابن بيئتنا وثقافتنا وتربيتنا وسوشيال ميديا عصرنا، وواجبنا الآن ألا نلعنه فقط، بل أن نفهم كيف وصل إلى هذا الحد، وكيف نمنع أطفالاً آخرين من أن يسيروا في الطريق نفسه.