مقدمة: يناقش هذا البحث "رؤية حماس السياسية" من خلال قضايا محددة وهي "الدين والدولة، والوطنية والعلمانية، والديموقراطية وسلطة الشعب، والتعددية السياسية، وحقوق الإنسان"، بغرض التعرف على موقف حماس النظري والعملي من هذه القضايا، ويعتمد الباحث في مقاربته على المحددات الفكرية والسياسية التي تحدثت عنها وثائق حماس المكتوبة، أو تلك التي وردت في تصريحات قادة الحركة، مع الاستعانة بما قدمه الفكر السياسي الإسلامي في هذا المجال، وبالذات ما قدمته حركة "الإخوان المسلمون". ويعتمد البحث منهج الوصف التحليلي في مقاربة مفردات البحث، دون الإغراق في التتبع التاريخي للمواقف والوقائع إلا عند الضرورة. أولاً: في الفكر السياسي لحماس: ثمة فرق بين "الفكر الإسلامي" و"الإسلام" نفسه. فالفكر الإسلامي هو صنعة المسلمين العقلية لتحقيق مصالح المجتمع، وخدمة المبادئ الدينية عامة. أما الإسلام فهو وحي، وسنن ثابتة. وبناء عليه، فإن الفكر قابل للتطوير والتغيير والتعدد في وجهات النظر، بحكم الواقع المتغير واختلاف المجتهدين، لذا فإن الالتزام بنتائج الفكر مرتبط باتساقه مع القواعد والأصول الإسلامية العامة . إن إدراكنا للفرق آنف الذكر ضروري لفهم رؤية حماس الفكرية والسياسية في قضايا البحث التي تدور حول: الدين والدولة، والوطنية، والعلمانية، والديموقراطية، والتعددية، وحقوق الإنسان؛ وذلك على أساس أن هذه العناوين هي من مكونات الرؤية السياسية الفكرية، وعلى أساس أن الإسلام وضع في مجال السياسة أحكاماً عامة، هي مرجعية ملزمة حاكمة على التفاصيل التي يصطنعها المسلمون لإدارة شؤونهم وخدمة مصالحهم، بحسب مقتضيات ظروفهم الزمانية والمكانية والحضارية المتغيرة. ومن حقهم إقامة المؤسسات، واصطناع الآليات اللازمة لتحويل الأحكام العامة أو المبادئ الإسلامية العامة إلى أعمال منظمة بآليات ومؤسسات محددة. وهذا ما نطلق عليه الفكر السياسي لحماس. حركة حماس حركة تحرر وطني فلسطينية ذات مرجعية إسلامية، وقد عرّفت نفسها في ميثاقها بأنها "حركة المقاومة الإسلامية. الإسلام منهجها، ومنه تستمد أفكارها ومفاهيمها وتصوراتها" . ومع أنها حركة مقاومة تعمل لتحرير الأرض والإنسان فهي "ليست مجموعة عسكرية بل حركة تحرر شامل... تعمل في مختلف المجالات والميادين، ولها أهدافها ورؤيتها السياسية، وهي حركة شعبية تعيش هموم شعبها في الداخل والخارج، وتدافع عن مصالحه وتعنى بخدمته" . وحددت صلتها بحركة الإخوان المسلمين، فقالت عن نفسها "بأنها جناح من أجنحة الإخوان المسلمين في فلسطين" . لا يبدو أن فكرة "الجناح" تتمتع بالدقة الكافية، لأنها قد تعني أن في فلسطين تنظيمين: الأول للإخوان، والآخر لحماس. والواقع ليس كذلك. ويبدو أن كلام أحمد ياسين، في "شاهد على العصر" أكثر دقة حيث قال: "نحن إخوان مسلمين... ونحن امتداد للإخوان في كلّ العالم" . وبناء على ما تقدم يمكن أن نقول: إن مصادر فكر حماس السياسي تتشكل من: 1. الفكر السياسي الإسلامي العام الذي أنتجه المفكرون الإسلاميون قديماً وحديثاً. 2. فكر الإخوان المسلمين السياسي، وفهمهم للإسلام. 3. فكر قادة حماس ومفكروها وكوادرها وأدبياتهم السياسية. وأجد نفسي محتاجاً للمصدر الأول والثاني في مقاربتي لرؤية حماس السياسية، موضوع البحث، لقلة معلومات المصدر الثالث. ولهذه القلة التي وصفها خالد الحروب ب"الندرة" . على مستوى التنظير ما يبررها، كنقص الخبرة الفكرية الخاصة والتجربة السياسية، والانشغال بالانتفاضة والمقاومة وتداعياتها. وقبل أن ندخل إلى قضايا البحث، أود أن أسجل الملاحظات التالية: 1. قلة الدراسات التي تنتمي لحماس، والتي قاربت مفردات البحث بشكل مفصل أو متكامل. وما وجدناه منها يتصف بالعموم، أو ينشغل بالوقائع التاريخية وتطوراتها. 2. لم يتعرض ميثاق حماس بشكل مباشر، أو مفصل لرؤية حماس السياسية، وغلبت عليه الرؤية العامة الأخلاقية، دون الرؤية السياسية المحددة. 3. لم تحظَ قضايا الديموقراطية، والتعددية، والدين والدولة، والوطنية والعلمانية بالأولوية التي حظيت بها المقاومة والدعوة عند حماس. وحين شكل ياسر عرفات السلطة بعد اتفاق أوسلو، لم يدفع هذا التشكيل حماس نحو السياسة وبناء نظرية خاصة بها. 4. إن طبيعة الصراع مع الاحتلال، وانشغال حماس بقضاياه ومخرجاته وتداعياته، مع غياب الأمل بقرب قيام الدولة، أخرج قضايا البحث المذكورة من طريق الاهتمام. 5. لا تمثل حماس تياراً فكرياً خاصاً في فهمها للديموقراطية، بل إن فهمها هو جزء من فهم التيار الإسلامي العام. ولا يخرج فكرها السياسي عن الآراء الراجحة للمفكرين الإسلاميين، المطالبين بالمرونة، والحوار مع منتجات الآخرين والبلاد الديموقراطية. 6. من المفيد أن يستعين البحث بالممارسة العملية لحماس، وبالذات مشاركتها في الانتخابات والحكومة في 2006؛ إضافة إلى القانون الأساسي الفلسطيني إذا احتكمت إليه تجربة حماس السياسية في الحكم. 7. ومن المفيد أن نشير إلى أن الفلسطينيين افتقدوا الدولة منذ سنة 1948، وما زالوا يفتقدونها حتى الآن. ولم تتمكن السلطة من إقامة مؤسسات الدولة، ولا من إعداد ما يلزم من دستور وقوانين منظمة للحياة السياسية بشكل مكتمل. وانصرف اهتمامها نحو إزالة الاحتلال والعدوان، وممارسة الحكم والإجابة على متطلباته اليومية. ثانياً: الدين والدولة: لا تختلف حماس عن جماعة الإخوان المسلمين في رؤيتها للدولة، وفي تحديد وظيفتها، ووجوب إقامتها. الدولة في الفكر الإسلامي "أداة ضرورية" لتنفيذ أحكام الشريعة، وحراسة الدين، وتحقيق مصالح المجتمع وسياسة أفراده. ولأنها كذلك، وحيث لا يستغني عنها مجتمع من المجتمعات، على حدّ تعبير راشد الغنوشي ، جعلت حماس مقاومة الاحتلال، وتقرير المصير، وإقامة الدولة الفلسطينية على رأس مهامها الدعوية والسياسية. تدعو حماس إلى إقامة دولة "إسلامية"، ولا تدعو إلى إقامة دولة "دينية". وفي هذا السياق ترفض فكرة فصل الدين عن الدولة، وتراها فكرة غربية مستحدثة، تنبع من تجربة خاصة لا علاقة للبيئة العربية والإسلامية بها. وفي المقابل، تدعو إلى فكرة "الشمول" التي تجمع بين السياسة والدين، وتسير على نهج حسن البنا في قوله: "الحكم معدود في كتبنا الفقهية من العقائد، والأصول، لا من الفقهيات والفروع، فالإسلام حكم وتنفيذ، كما هو تشريع وتعليم، كما هو قانون وقضاء، لا ينفك أحدهما عن الآخر" . تؤكد حماس على أن السياسة جزء من الدين، فالموقف السياسي عند إبراهيم المقادمة هو فتوى شرعية بشكل من الأشكال . ومن ثم دعا علماء المسلمين إلى الاشتغال بالسياسة قائلاً لهم: "أنتم أولى بالعمل في السياسة، فأنتم تفهمون دين الله، وتفهمون مصالح الأمة" . ودعوة المقادمة هذه تنبع من تجربة خاصة فلسطينية عربية، حيث تفرّد بالحكم الليبراليون واليساريون لعقود طويلة. إن انتقاد حماس والإخوان للدول والحكومات العربية، ينبع من أنها لم تقم بواجباتها الوظيفية في حفظ الإسلام وتنفيذ أحكامه على الوجه المطلوب شرعاً، ولم تحقق للأمة نهضة وعزة وتقدماً. فلسطين ليست دولة، وإنما سلطة بلا سيادة حقيقية، فهي أقل من دولة؛ لذا فإن النقد الذي توجهه حماس إلى السلطة وإلى الدول العربية، يعبّر عن حرص حماس على إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة تقوم بمسؤولياتها التي حددها الفكر الإسلامي، بدون تدخل من "إسرائيل" أو من غيرها. إن رفض حماس لفكرة الفصل وتبني فكرة الشمول لا يعني أنها تدعو إلى حكومة دينية "ثيوقراطية" في فلسطين. فالفكر الإسلامي السياسي، الذي تتبناه حماس، يرفض الدولة "الدينية"، ويدعو إلى دولة "مدنية" ذات مرجعية إسلامية. ولا يقبل وصف دولة الخلافة الراشدة بالدولة الدينية. الأمة في الفكر الإسلامي هي "مستقر السيادة والسلطة، ... والدولة مفوّضة من قبل هذه الأمة للقيام بما يفوّض إليها من صلاحيات ومهام" . وهذا التفويض يمنع الدولة من تجاوز الأحكام القطعية في الشريعة الإسلامية، وقد تكرر رفض الحكومة الدينية على ألسنة قادة الإخوان وقادة حماس، حيث رأى عبد القادر عودة وحسن العشماوي ومأمون الهضيبي، ونقله عنهم آخرون أنه ليست هناك دولة دينية في الإسلام، تدعي أنها صاحبة حقّ إلهي في الحكم، أو أنها لا تخطئ. مع ضرورة التزامها بالأصول الإسلامية. وبالتالي، تستطيع الأمة أن تمارس دورها في التقويم أو العزل . يقول جمال منصور: "ليس في الإسلام حكم ثيوقراطي، يعلن أنه إرادة الله في الأرض...". وأعلن الخليفة الأول بوضوح خضوعه للقانون ولإرادة الأمة بقوله: "أطيعوني ما أطعت الله فيكم فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم" . ثالثاً: الدولة والدستور والقانون: في الدولة المدنية يحتكم أبناء الشعب إلى القانون، وإلى الدستور، الذي يمثّل مرجعية حاكمة للقانون، وكلاهما من وضع أبناء الشعب، وكلاهما يقبلان التعديل والتغيير بحسب آليات وإجراءات محددة في الأنظمة المدنية الديموقراطية. ومن ثم يمكن النظر إلى الدستور والقانون على أنهما معيار على طبيعة الدولة وهويتها. ترفع حماس شعار: "الله غايتنا، والقرآن دستورنا"، وهو الشعار نفسه الذي ترفعه حركة الإخوان المسلمين منذ أيام حسن البنا. غير أن حماس لم تقصد، ولم تقل إن الشعار بديل عن الدستور الذي يقوم الشعب بوضعه، ويتخذه مرجعية حاكمة على نظام الحكم وعلى القانون، بعد إقرار الدستور من الشعب بآلية مناسبة. القرآن لا يحتاج إلى إقرار أو استفتاء عليه، ولكن الدستور في حاجة إليهما، ومن ثم طالبت حماس بما طالب به حسن البنا والإخوان: "أن تكون الشريعة الإسلامية المصدر الأول للقانون" . يفرّق حسن البنا بين الدستور والقانون فيقول: "الدستور هو نظام الحكم العام الذي ينظم حدود السلطات وواجبات الحاكمين وصلتهم بالمحكومين. والقانون هو الذي ينظم صلة الأفراد بعضهم ببعض، ويحمي حقوقهم الأدبية والمادية، ويحاسبهم على ما يأتون من أعمال" . ولما كانت أنظمة الحكم متعددة، وهي من وضع البشر، فضل حسن البنا "نظام الحكم الدستوري". وقال فيه: "إنه أقرب نظم الحكم القائمة في العالم كله إلى الإسلام" . وبرّر ذلك بقوله: إن الباحث حين ينظر إلى مبادئ الحكم الدستوري التي تتلخص في المحافظة على الحرية الشخصية بكل أنواعها، وعلى الشورى، وعلى استمداد السلطة من الأمة، وعلى مسئولية الحكام أمام الشعب، ومحاسبتهم على ما يعملون من أعمال، وبيان حدود كلّ سلطة من السلطات. هذه كلها يتجلى للباحث أنها تنطبق كلّ الانطباق على تعاليم الإسلام وقواعده في شكل الحكم . وهذه المبررات مجتمعة هي من مبادئ الديموقراطية الأساسية وآلياتها. لا يتجاوز موقف حماس السياسي فكر حسن البنا وموقفه في هذه المسألة؛ غير أن حماس لم تشغل نفسها بمسألة الدستور، ولم تحاول وضع دستور للدولة، لأن الدولة الفلسطينية ليست موجودة، وحماس منشغلة كغيرها من الفصائل الفلسطينية بالتحرر من الاحتلال، وتقرير المصير. لذا لا غرابة في الاستنتاج القائل بأن أهم عيوب الوضع التشريعي والقانوني الراهن في مناطق السلطة الفلسطينية هو"غياب المرجعية الدستورية ممثلة في الدستور" . حين قامت سلطة فلسطينية هي أقل من دولة، على أجزاء محدودة من الأراضي المحتلة في سنة 1994 بموجب اتفاق أوسلو، لم تحاول السلطة وضع دستور لها، وحكمت من خلال أمرين: الأمر الأول: القانون الأساسي المؤقت، الذي عرفته مقدمته فقالت: لقد قرر هذا القانون الأساسي الأسس الثابتة التي تمثل الوجدان الجماعي لشعبنا، بمكوناته الروحية وعقيدته الوطنية، وانتمائه القومي، كما اشتمل في أبوابه على مجموعة من القواعد والأصول الدستورية المتطورة، سواء فيما يتصل بضمان الحقوق والحريات العامة والشخصية على اختلافها بما يحقق العدل والمساواة للجميع دون تمييز، أو فيما يخص مبدأ سيادة القانون وتحقيق توازن بين السلطات، مع توضيح الحدود الفاصلة بين اختصاصات كلّ منها، بحيث تكفل لها الاستقلالية من ناحية، والتكامل في الأداء من ناحية أخرى . وقد حددت المادة 4 منه علاقة الدين بالدولة فقالت: "الإسلام هو الدين الرسمي في فلسطين، ولسائر الديانات السماوية احترامها وقدسيتها". وحددت المادة 5 منه طبيعة نظام الحكم فقالت: "نظام الحكم في فلسطين نظام ديمقراطي نيابي، يعتمد على التعددية السياسية والحزبية، ويُنتخب فيه رئيس السلطة الوطنية انتخاباً مباشراً من قبل الشعب". وقرر القانون الأساسي مبدأ سيادة القانون في المادة 6 منه فقال: "مبدأ سيادة القانون أساس الحكم في فلسطين، وتخضع للقانون جميع السلطات والأجهزة والهيئات والمؤسسات والأشخاص" . وقد رأى جمال منصور في القانون الأساسي توازناً معقولاً، وهو بالرغم من بعض الملاحظات الخاصة، إلا أنه يُعدُّ أساساً مقبولاً لنظام سياسي يشمل معظم المستلزمات الديموقراطية . وقد التزمت حماس به في الحكم بعد فوزها في انتخابات 2006، ورئاستها للحكومة العاشرة، وما زالت ملتزمة به بالرغم من حالة الانقسام. يعرّف جمال منصور دولة القانون بقوله: "هي الدولة التي تخضع فيها أعمال الحكومة وشئونها لنظم وقواعد وقوانين محددة" . و"سيادة القانون مبدأ مقبول ومنسجم مع روح الإسلام" . ويحسب الباحث أن هذا التعريف قد انطلق من تجربة واقعية في فلسطين شهدت تجاوزات خطيرة للقانون الأساسي من السلطة التنفيذية. والأمر الثاني: هو الحكم من خلال مفهوم القيادة النضالية التاريخية، والكاريزمية الشخصية للقائد، وهو ما وصفه هشام شرابي منتقداً المجتمع الأبوي: "السلطة فيه بيد أناس قلائل يتكلمون عن الشعب، ولا يتكلمون إليه، ويظنون بطبيعة تفكيرهم أنهم لا يخطئون" . وفي الأمر الثاني تسكن المخالفة الصريحة لسيادة القانون، ولمفهوم الديموقراطية، والقيادة النضالية والتاريخية، وصفة جيدة للاستبداد، لذا نادت حماس بسيادة القانون، وجعلته ملزماً للحاكم وللمحكومين على السواء . وأسفر موقفها هذا عن حالة نزاع وخلاف مع السلطة الحاكمة. رابعاً: حماس والوطنية: هناك انسجام وتكامل بين المفاهيم الدينية والمفاهيم الوطنية عند حركتي حماس والإخوان المسلمين، وتتغلب عندهما الأبعاد الدينية على غيرها من الأبعاد التي جاءت بها الفكرة الوطنية والقومية التي سادت أوروبا في عصر النهضة. ويبدو أن مفهوم الوطنية لم يكن محدد الدلالة حتى عند من نادوا بها في العالم العربي في بواكير العصر الحديث، إذ قدّمها بعضهم على أنها بديل عن "الإسلامية" التي هي الرابطة الأكثر اتساعاً عند الإخوان المسلمين. يقول حسن البنا في موازنة له بين مفهوم الوطنيين للوطنية، ومفهوم أبناء الإخوان للوطنية فيقول: إن كان دعاة الوطنية يريدون بها حبّ هذه الأرض وألفتها والحنين إليها... فذلك أمر مركوز في فطرة النفوس من جهة، مأمور به في الإسلام من جهة أخرى. وإن كانوا يريدون أن من الواجب العمل بكل جهد في تحرير الوطن من الغاصبين، وتوفير الاستقرار له... فنحن معهم في ذلك أيضاً، وقد شدد الإسلام في ذلك أبلغ التشديد. وإن كانوا يريدون بالوطنية تقوية الرابطة بين أفراد القطر الواحد... فذلك نوافقهم فيه ويراه الإسلام فريضة. وإن كانوا يريدون بالوطنية تقسيم الأمة إلى طوائف متناحرة وتتضاغن وتتراشق بالسباب... فتلك وطنية زائفة لا خير فيها لدعاتها ولا للناس . إنه مع غياب تحديد دقيق متفق عليه لمفهوم الوطنية في تلك الفترة المبكرة التي شهدت رواجاً للوطنية والقومية وتراجعاً للرابطة الإسلامية، فرّق حسن البنا بين نوعين من الوطنية: الأولى حقيقية، والأخرى مزيفة. ونظر إلى المزيفة من خلال الواقع الذي جسّدته في مصر وفي غيرها من الأقطار العربية في تلك الفترة، والتي تقوم على التعصب "للقطرية" وتقسيم الأمة إلى طوائف متناحرة. الوطنية الزائفة عند الإخوان وعند حماس أيضاً، هي القطرية المتناحرة الطارئة على عالمنا العربي والإسلامي، والتي جاءت مع الاستعمار، ومع غلبة المادية والقومية والجغرافيا على أوروبا. لقد ساعد دعاة الوطنية بمفهومها الجغرافي الضيق، بشكل غير مباشر، على بعث الرابطة الإسلامية من تحت الركام لتملأ وعاء الوطنية والقومية بمفاهيم إسلامية تقوم على العقيدة، ولا تقف عند الجغرافيا والجنس ولا عند تقسيمات " سايكس – بيكو Sykes-Picot agreement"، كما وقف عندها دعاة الوطنية القطرية. يقول حسن البنا: "اتسع أفق الوطن الإسلامي، وسما عن حدود الوطنية الجغرافية، والوطنية الدموية، إلى وطنية المبادئ السامية، والعقائد الخاصة الصحيحة" . لا تتجاوز حركة حماس في مفهومها للوطنية ما قاله المؤسس حسن البنا، حيث يقول ميثاقها: "الوطنية من وجهة نظر حركة المقاومة الإسلامية جزء من العقيدة الدينية... وإذا كانت الوطنيات المختلفة ترتبط بأسباب مادية بشرية وإقليمية، فوطنية حركة المقاومة الإسلامية لها كلّ ذلك، ولها فوق ذلك، وهو الأهم، أسباب ربانية تعطيها روحاً وحياة" . إذا كان مفهوم الوطنية عند الإخوان وعند حماس يقوم في أحد أبعاده الرئيسية على العقيدة والمبادئ السامية ورفض القطرية المتناحرة، فإنه يقوم في بعده الثاني على ما يمكن تسميته بمفهوم "الدفاع المشترك" عن الوطن العربي والإسلامي وحماية حقوقه ومصالحه، وهو دفاع يرتقي إلى مستوى الواجب الديني، أو قُل الفريضة الواجبة. يقول حسن البنا في الوطن الإسلامي: "إن المحافظة على كلّ شبر أرض من أرضه فريضة إسلامية يسألنا الله عنها بين يديه" . ويقول: "... كلّ بقعة فيها مسلم يقول (لا إله إلا الله محمد رسول الله) وطن عندنا له حرمته وقداسته وحبه والإخلاص له، والجهاد في سبيله" . إنه لمن البدهي أن تتقبل حركة حماس هذا المفهوم وترحب به مع ما يسكن الواقع العربي من مفارقة سلبية بين النظرية والتطبيق. لذا جعلته جزءاً من ميثاقها لأن فلسطين هي المستفيد الأول منه، فقالت: "... ليس أبلغ في الوطنية ولا أعمق من أنه إذا وطئ العدو أرض المسلمين صار جهاده والتصدي له فرض عين على كلّ مسلم ومسلمة" . وتمثل فكرة التحرير بعداً ثالثاً في مفهوم حماس للوطنية، وهو بُعد يرتبط بسابقيه (العقيدة، والدفاع المشترك)، حيث يقول أحمد ياسين "بما أن وطننا محتل، فنحن نريد أن نحرر وطننا، إذن فنحن لدينا قضيتان هما قضية العقيدة وقضية الوطن" . ويخاطب خالد مشعل العرب بعد بيانه لعيوب القطرية، فيقول "تعالوا معنا وشاركونا المسئولية، فلا يصح أن تحجب القطرية أمتنا عن دورها الحقيقي في قضية فلسطين" . ومن ثم تبنّت حماس في استراتيجيتها السياسية نحو التحرير العمق العربي والإسلامي، وحمّلت مسؤولية التخلف والهزيمة بشكل كبير للدولة القطرية المتناحرة، وإن "المنطق القطري لا يلبي ولا يستجيب حتى لمتطلبات القطرية التي اختارها البعض وحصر نفسه فيها" ، يقصد في ظلّ التكتلات الدولية الكبيرة. ودعت حماس في برنامج كتلة التغيير والإصلاح الانتخابي: "إلى توطيد العلاقات مع العالم العربي والإسلامي في كافة المجالات بوصفه العمق الاستراتيجي لفلسطين" . وأشرك حزب الخلاص الوطني الإسلامي (الذي أسسته حركة حماس) الأمة العربية والإسلامية في تحمل مسؤولية التحرير، فقال في مبادئه "إن العرب والمسلمين يشكلون أمة واحدة ويقع على عاتقهم تحرير فلسطين" . لا تتعارض "الإسلامية" مع "الوطنية" في الفكر الإسلامي ولا عند الإخوان، ولا عند حماس. فجميعهم ينظر إلى الإسلامية على أنها وعاء واسع يسع الوطنية والقومية، وتتقبل مفاهيمهما الإيجابية وتزيد عليهما الأبعاد العقيدية، والدفاع المشترك، والتحرير؛ إضافة إلى بُعد رابع مهم هو "الوحدة العربية". ومن ثم ينفي حسن البنا عن مفهوم الإسلام للوطنية تهمة تمزيق الأمة العربية والإسلامية التي تتألف اليوم من أقطار متعددة، ومن عناصر دينية مختلفة، لأن الإسلام وهو دين الوحدة والمساواة كفل هذه الرابطة بين الجميع ما داموا متعاونين على الخير: چ ڃ چ چ چ چ ڇ ڇ ڇ ڇ ڍ ڍ ڌ ڌ ڎ ڎ ڈ ڈژ ژ ڑ ڑ ک چ (سورة الممتحنة، آية 8) . وإذا رجعنا إلى برنامج "كتلة التغيير والإصلاح" التي تمثّل حركة حماس في المجلس التشريعي الفلسطيني، نجد حضوراً كبيراً للبعد الرابع من مفهوم الوطنية، حيث ورد فيه أن الشعب الفلسطيني وحدة واحدة، في كافة أماكن تواجده، وهو جزء لا يتجزأ من الأمة العربية والإسلامية؛ چڀ ٺ ٺ ٺ ٺ ٿ ٿ ٿچ (سورة الأنبياء، آية 92) . ومن الواضح أن النص لا يقف عند المفهوم السياسي لوحدة الأمة العربية، بل يضفي عليه مفاهيم دينية تعطيه قدراً من القداسة، على أساس أن الأمة العربية هي جزء من الأمة الإسلامية، وأن الإسلام يشملهم جميعاً. ويرفض البرنامج الدعوات العرقية والإقليمية والقطرية والطائفية، التي تستهدف تجزئة الأمة، ويدعو إلى تشجيع أيّ مسعى للوحدة بين أيّ قطرين عربيين أو إسلاميين أو أكثر، وصولاً إلى الوحدة الشاملة . وقد جعل حزب الخلاص الوطني الإسلامي دعم التضامن الإسلامي وتبني القضايا العربية والإسلامية واحداً من أهدافه . ويمكن النظر إلى تحالفات حماس مع غيرها من الفصائل الفلسطينية، وبالذات تحالف الفصائل العشرة الذي تشكلت جذوره الأولى في تشرين الأول/ أكتوبر 1991، الذي ضمّ فصائل علمانية ويسارية إضافة إلى الحزب الشيوعي، على أنه دليل على مرونة حماس في فهمها للوطنية، حيث لا تجد تعارضاً بين الوطنية والإسلامية في علاقاتها العملية مع الآخرين، ويرجع هذا في تقدير الباحث إلى امتزاج الوطنية بالإسلامية وبفكرة الدفاع المشترك والتحرير. تتعامل حماس مع "الوطنية" كمفهوم وكدعوة على مستوى الداخل الفلسطيني والتحالفات من منطلق سياسي أكثر وضوحاً، يقوم على تجميع الأطراف الفلسطينية على قاعدة حماية الحقوق الفلسطينية والتحرير، وتؤكد دائماً أن الوطن يتسع للجميع بغض النظر عن الاختلافات الأيديولوجية والمواقف السياسية المختلفة، وتؤكد أن "الشعب الفلسطيني وحدة واحدة في كافة أماكن تواجده" . وتقول "فلسطين... وطن لكل الفلسطينيين في الداخل والشتات بكافة توجهاتهم الدينية والعرقية والسياسية" ، وترفض الزعم القائل بأن مفهومها الإسلامي للوطنية يمكن أن يمزق الشعب ويبعث على التنازع الطائفي، فقد أكد ميثاقها على أنه "في ظلّ الإسلام يمكن أن يتعايش أتباع الديانات الثلاث: الإسلام والمسيحية واليهودية في أمن وأمان" . وتتعامل حماس مع مفهوم الوطنية على مستوى العلاقات العربية من المنطلق السياسي نفسه، لذا تجدها ترفض استخدام القوة والعنف في حلّ المشاكل بين الدول العربية، ومن هذا المنطلق وقفت ضدّ غزو صدام حسين للكويت في آب/ أغسطس 1990، ودعت إلى عودة الكويت بلداً حراً عزيزاً، يسهم بطاقاته وثرواته في تنمية الوطن العربي، وطالبت بتسوية القضية بين الكويت والعراق في الإطار العربي الإسلامي . ويدعو خالد مشعل إلى التدرج في الخروج من الحالة الراهنة الموصوفة بالقطرية وبالتفكك السياسي العام، وبالذات على المستوى الرسمي، حيث يرى أن المستوى الشعبي أكثر عافية من الرسمي . إن الأبعاد التي حمّلتها حماس للوطنية تنطلق من مستويين: الأول ديني، والآخر سياسي، وبينهما تمازج وتكامل. خامساً: حماس والعلمانية: يبدو أننا في حاجة إلى التفريق بين النظرية والممارسة عند مقاربتنا لموقف حماس السياسي من العلمانية. وقبل ذلك نود أن ننّبه القارئ إلى قلة المعلومات التي تُنسب إلى قادة حركة حماس في هذا الموضوع، إذ لم نعثر في مصادر الحركة الرسمية على اهتمام كبير به، ولم نعثر على تفاصيل لرؤية حماس وموقفها السياسي منه. إن قلة المعلومات، أو قُل ندرتها، في وثائق الحركة الرسمية أو في كلام القادة، يرجع إلى أسباب عديدة منها: انشغال حماس بقضية إدارة الصراع مع الاحتلال والتحرير كأولوية، لا تقبل مزاحمة العلمانية وغيرها من الأفكار الأيديولوجية، التي تتسع لها التعددية السياسية والحزبية؛ ومنها الحفاظ على العلاقات الداخلية الفلسطينية، وحماية ساحة العمل الوطني من الخلافات ومن المعارك الجانبية. إن تبني منظمة التحرير لفكرة الدولة العلمانية الديموقراطية يتعارض مع رؤية حماس للدولة الإسلامية، ومع مفهومها لعلاقة الدين بالدولة، الأمر الذي يعني أن أيّ صراعات أيديولوجية جديدة يمكن أن ترهق الفصائل الفلسطينية والمجتمع أيضاً، لذا خففت حماس من الحديث في العلماني؛ ولأن الاهتمام بالأيديولوجيا هنا لا يقدّم ولا يؤخر ما دامت الدولة غير موجودة، والتحرير يحتاج إلى الجميع. إنه في ضوء ما تقدم نقول: إنه يمكن تحديد موقف حماس من العلمانية في مستويين بينهما قدر من التباين: الأول نظري، والآخر عملي. 1. على المستوى النظري: وهنا تتغلب الأيديولوجية التي تفسر العلمانية باللادينية، أو كفلسفة مناهضة للدين، وتدعو إلى فصل الدين عن الدولة، حيث يقول ميثاق حماس "... والفكرة العلمانية مناقضة للفكرة الدينية مناقضة تامة، وعلى الأفكار تبنى المواقف والتصرفات وتتخذ القرارات..." . ويحسب الباحث أن النص يفتقر إلى الدقة، ويفتقر إلى التفصيل، فالعلمانيون ليسوا سواء، والقرارات لا تتخذ دائماً بناء على الأفكار الأيديولوجية أو الفلسفية، وحماس نفسها اتخذت مواقف سياسية، وتصرفت بناء على المصالح وتجاوزت النظريات الفكرية. لقد رفضت حماس علمانية منظمة التحرير وقالت "... ويوم تتبنى منظمة التحرير الإسلام كمنهج حياة فنحن جنودها" . ولكن هذا الشرط لم يصمد طويلاً، وأسقطته حماس في مواقفها السياسية والعملية بعد ذلك. إن رفض حماس لوحدانية تمثيل منظمة التحرير للشعب الفلسطيني يرجع إلى سببين رئيسيين: الأول يستند إلى علمانية منظمة التحرير، والثاني لأن حماس ليست شريكاً في منظمة التحرير الفلسطينية وغير ممثلة في مؤسساتها، والإقرار بوحدانية التمثيل يعني أن حماس تلغي نفسها. لقد تعطل دخول حماس إلى منظمة التحرير على مدى السنوات الماضية وحتى تاريخه لأسباب عديدة منها ما ذكرناه آنفاً، ومنها ما يتعلق بنسب التمثيل في المجلس الوطني، ومنها ما يتعلق بالانتخابات لإعادة بناء المجلس الوطني واللجنة التنفيذية، ومنها ما يتعلق باختلاف المشاريع السياسية في مقاربة الصراع مع الاحتلال. النص المقتبس من الميثاق نصّ أيديولوجي قاطع الدلالة، يتضمن حكماً عاماً لا موقفاً سياسياً، وتُعدُّ الأحكام العامة القطعية إحدى عيوب الميثاق بشكل عام، كما نبّه إلى ذلك خالد الحروب وغيره ، وطالبوا حماس بإعادة النظر فيه. 2. على المستوى العملي: إننا إذا انتقلنا في مقاربة موقف حماس من العلمانية من النظرية إلى الممارسة العملية، ألفينا حماس تتبنى مواقف مرنة تكشف عن مفارقة بين النظرية والممارسة؛ حيث شاركت حماس في بناء تحالفات سياسية عديدة مع فصائل فلسطينية علمانية ويسارية لمواجهة الاحتلال، ولمواجهة اتفاقية أوسلو وتفرّد حركة فتح بالقرار الفلسطيني. إن الممارسة العملية لحركة حماس دفعت الباحثين إلى القول بأن "حماس تجاوزت عائق العلمانية في تحالفاتها مع الآخرين" . وبعضهم فسره على أنه ازدواجية موقف، لكنه بالنسبة لحماس كان ممارسة مشروعة، ضمن المباح، وضمن فقه المقاصد، الذي يراعي المصالح العليا والأولويات عند التفاعل مع الواقع. ويمكن إرجاع موقف حماس العملي هذا إلى ثلاثة أسباب هي: أ. الوضع السياسي الفلسطيني العام الذي يغلّب العمل من أجل التحرير على النظرية والخلافات الأيديولوجية. ب. تزايد قوة حماس واتساع نفوذها . ج. تطور فكر حماس السياسي وتجربتها في الحكم وتحمل المسؤولية العامة . إنه وبغض النظر عن الأسباب التي تفسر تطور موقف حماس وتحالفها مع فصائل علمانية ويسارية، فإن موقفها المرن كسر "تابو إسلامي" ما زال آخرون يتمسكون به، وهو ما أكده فتحي الشقاقي الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي بقوله: "أبدت حماس مرونة واضحة تجاه التحالفات داخل الحركة الفلسطينية مع فصائل المعارضة، وكسرت تابو إسلامياً تقليدياً بهذا الشأن" . لقد تجاوزت حماس في تحالفاتها "القاعدة الشرطية" التي وردت في الميثاق، إذ احتفظ أطراف التحالف كلّ لنفسه بفكره ورؤيته، وعملوا معاً في المساحات المشتركة. لذا يرى الباحث أن فكرة التحرير والدولة التي تحتل البند الأول في أجندة العمل الوطني الفلسطيني تسهل مهمة تجاوز العلمانية. يقول عيسى النشار وهو من قادة حماس: "حماس لا تخسر شيئاً باحتكاكها بالآخرين، لكونها صاحبة دعوة بالدرجة الأولى، وهي تلتقي مع كلّ فصيل يتبنى النضال من أجل دحر الاحتلال" . ويقول خالد مشعل: "إننا لسنا من دعاة الانعزال عن الواقع، بل سياستنا التفاعل معه والتأثير فيه" . لقد تجاوزت حماس تحت قيادة خالد مشعل الميثاق، وتخلت عن شرط ترك العلمانية للمشاركة في منظمة التحرير، واكتفت بالتركيز على مبادئ الديموقراطية والتعددية والانتخابات، ولم يعد الميثاق قيداً على موقفها السياسي. وهذا مؤشر على نضج في تعامل حماس مع مفهوم الديموقراطية، وتغليب فقه الأولويات والمقاصد المستوعبة للواقع على النظريات المجردة في الممارسة السياسية. لقد شاركت حماس في انتخابات 2006 تحت سقف القانون الأساسي المنظم لاختصاص السلطات والمتضمن للقوانين. وحين فازت بالأغلبية في المجلس التشريعي، وكُلفت برئاسة الحكومة، عرضت على الفصائل الفلسطينية العلمانية واليسارية والإسلامية مشاركتها في الحكومة وتحمّل المسؤولية. ولم تقف العلمانية عقبة أمام عرضها، ولم تقف الإسلامية عقبة أمام الآخرين، حيث جاء رفضهم المشاركة لأسباب سياسية. تنتقد مناهج حماس التربوية والفكرية العلمانية بوصفها فلسفة فكرية وسياسية تدعو إلى فصل الدين عن السياسة وعن الدولة، ولكن هذا الموقف الانتقادي يبقى في إطار البناء الداخلي للتنظيم، ولكنها حين تتعامل مع الفصائل الفلسطينية العلمانية تنحاز إلى قاعدة المصالح العليا والواقعية السياسية في تحديد موقفها السياسي. بمعنى أن اختلاف الرؤى الأيديولوجية لا يمنع شرعاً ولا عقلاً من التعاون في قضايا الوطن والأمة ومقاومة الاحتلال وتحرير الأرض. وتحتاج قيادات حماس أحياناً إلى بذل مزيد من الجهد لإقناع أبناء التنظيم وغيرهم في الإجابة على أسئلتهم حول المفارقة بين النظرية والممارسة في تعامل حماس مع العلمانية. من جهة أخرى، تجاوز حزب الخلاص الوطني الإسلامي، الذي انبثق عن حركة حماس في سنة 1996 هذه المفارقة، ولم يتعرض للعلمانية في نظامه الداخلي أو في علاقاته مع الآخرين، وجعل من أهدافه الرئيسية بناء المجتمع الفلسطيني المدني . سادساً: حماس والديموقراطية: 1. الديموقراطية والشورى: يعد مفهوم الديموقراطية من المفاهيم السياسية التي تنتمي في جذورها إلى البيئة الغربية والفكر الغربي. وينظر إليها الفكر الغربي على أنها تمثل النموذج الأمثل للنظام السياسي الحرّ في مواجهة الاستبداد. ويثير المفهوم والمصطلح في البيئة العربية والفكر الإسلامي جدلاً حول علاقة الديموقراطية بمفهوم الشورى عند المسلمين، باعتبار أن الشورى مصطلح إسلامي بنص صريح القرآن، ويمثل البديل النقي عن مفهوم الديموقراطية الوافد على المسلمين من المجتمعات الغربية والمحمّل بفلسفاتهم وبتجاربهم السياسية. لا يحظى مفهوم الديموقراطية بتقبل كامل عند المتدينين من أبناء الحركات الإسلامية، إذ يرفضه بعضهم ولا يستخدمه في خطابه السياسي، ويتقبله بعضهم ويتساهل في استخدامه في خطابه السياسي وفي الممارسة العملية أيضاً؛ على أساس أنه نظام مؤسسي وآليات عمل لمواجهة الاستبداد، قام على وضعها البشر لحماية حقوق الفرد والمجتمع معاً. ومن اللافت للنظر تشدد بعض المسلمين في رفضهم، وإصرارهم على استخدام مصطلح الشورى، الأمر الذي أثار شكوكاً في الغرب حول موقف الفكر السياسي الإسلامي، وحركات الإسلام السياسي من الديموقراطية، لذا رأينا أن نبدأ بتعريف الشورى. تتعدد تعريفات الشورى في الفكر الإسلامي، غير أن جميعها ارتكز على مكنونين، الأول منهما هو: حقّ الأمة أو من ينوب عنها في إبداء الرأي في الشأن العام والشراكة في صناعة القرار. والثاني هو: اشتراط عدم مخالفة قرارات مجلس الشورى لأي من النصوص القطعية والمبادئ الإسلامية العامة، التي لا تقبل أن تكون محلاً للتشاور أو الاجتهاد . يعرّف بسام عطية الشورى بقوله: "إنها استطلاع ومعرفة رأي الأمة أو من يمثلها في القضايا التي تخصها بمجموعها أو فئة منها، بشرط عدم المصادمة للنصوص الشرعية قطعية الثبوت والدلالة المجمع عليها إجماعاً له صفة التأبيد" . يفهم من التعريف أنه ليس للحاكم أن يقطع في أمرٍ ذي مغزى من أمور الشأن العام قبل النقاش والتداول بإشراك الأمة، أو من ينوب عنها في المؤسسة الشورية أو "البرلمان". وتُعدُّ هذه المبادئ معايير حاكمة وقياسية في الممارسة الشورية وما يصدر عنها من قرارات، ولا يثير مفهوم الشورى بهذا المعنى أيّ خلاف بين المفكرين الإسلاميين؛ بينما تثير الديموقراطية بعض الاختلاف عندهم، لذا رأينا أن نقارب تعريفاتها بإيجاز بحسب طبيعة البحث. من أقدم التعريفات وأكثرها شيوعاً وإثارة في الأوساط الإسلامية قولهم في الديموقراطية أنها تعني "حكم الشعب بالشعب وللشعب" ، وهو تعريف تحول لاحقاً إلى حكم الأكثرية وإلى نواب الشعب المنتخبين، وتعرّفها موسوعة السياسة بأنها: " نظام سياسي اجتماعي يقيم العلاقة بين أفراد المجتمع والدولة، وفق مبدأ المساواة بين المواطنين، ومشاركتهم الحرة في صنع التشريعات التي تنظم الحياة العامة" ، ومن تعريفاتها أيضاً أنها: "ذلك الترتيب المنظم الذي يهدف إلى الوصول إلى القرارات السياسية، والذي يمكن من خلالها للأفراد اكتساب السلطة بالحصول على الأصوات عن طريق التنافس" ، وأنها حكم جماعي قائم على الانتخابات . تتضمن تعريفات الديموقراطية آنفة الذكر مبادئ مشتركة حاكمة منها: سلطة الشعب أو الأمة، وحكم الأكثرية، والشورى، والانتخابات. ويرى المفكرون أنه يمكن قياس حالة الديموقراطية إجرائياً في مواقع العمل، من خلال مؤشرات قياس ذات دلالة، ومنها: حالة حقوق الإنسان، والتعددية السياسية والحزبية، والحريات، وفصل السلطات، واستقلال القضاء، ونزاهة الانتخابات، والتداول السلمي على السلطة، والرقابة والمساءلة . وهي مقاييس أضافتها الخبرة الديموقراطية إلى مفهوم الشورى، الذي قرر المبادئ العامة للحياة السياسية، وترك التفاصيل والآليات للخبرة البشرية ومقتضيات الزمان والمكان. لقد واجهت حماس الاستبداد من خلال الدعوة إلى الممارسة الديموقراطية، وتبنت معاييرها آنفة الذكر، واستخدمتها كمرادف للشورى بمفهومها الإسلامي في الممارسة. ولم تنشغل بالبحث فيما بينها من نقاط اختلاف؛ الأمر الذي يعني أن حماس تعاملت مع مفهوم الديموقراطية في الإطار العام المناقض للاستبداد ولحكم الفرد، والتزمت بآليات العمل الديموقراطي في الممارسة، وإن ظلت تفضل استخدام مصطلح الشورى على مصطلح الديموقراطية في وثائقها المكتوبة ؛ لأن مصطلح الشورى يتوافق مع رؤيتها الإسلامية، ولأن مصطلح الديموقراطية يثير خلافاً عند الجماهير المسلمة لما يحمله المصطلح الغربي من ظلال سلبية ترتبط بالفلسفة حيناً، وبالممارسة الغربية المشوهة غالباً. لم تحاول حماس اختيار تعريف بعينه من التعريفات الكثيرة للديموقراطية، ولم تحاول إنشاء تعريف خاص بها. وظلت حماس تتعامل مع مفهوم الديموقراطية بشكل عام، وتركز على الآليات والمؤسسات التي غدت جوهر الديموقراطية عندها. ويفهم من كلام جمال منصور أن حماس تعاملت بتوجس مع مصطلح الديموقراطية، لكونه من بضاعة المستعمر. ولكن حالة التوجس هذه أخذت تتراجع في الساحات الإسلامية وعند حماس أيضاً، بعد المقاربات العديدة التي قدمها المفكرون المسلمون لتخليص المصطلح من بيئته ومن سلبياته، والتركيز على مكوناته ومعطياته الإيجابية. إنه في ضوء التطور الذي تَقبَّل المصطلح، وكَشفَ عن إيجابياته الراجحة، اختار جمال منصور وهو من قادة حماس تعريف موسوعة السياسة آنف الذكر، مع تأكيده أن الديموقراطية ليست عقيدة وإنما منهج وآليات عمل لاتخاذ القرار . لم تتعرض قيادات حماس، ولا أدبياتها إلى جدلية العلاقة بين الشورى والديموقراطية، وتركت ذلك للمفكرين المسلمين، لأن حماس ليست حركة ثقافية، وإن كانت رعاية الثقافة جزءاً من اهتماماتها، وإنما هي حركة تجمع بين هويتها الإسلامية وبين كونها حركة مقاومة وتحرر وطني، كما أشار إلى ذلك خالد مشعل ، ومن ثم فهي ترفض الاستبداد والاحتلال، وتتقبل نقيضهما، أيّ الحرية والعدالة، وهما متوفران في الديموقراطية. لقد واجهت حماس في تجربتها السياسية في الحكم عناصر فلسطينية من الدائرة السلفية ترفض الديموقراطية وتكفّر من يتبناها، ورفضت منطقهم وزعمهم بأن من يشارك في انتخابات المجلس التشريعي ويتبنى الديموقراطية يعطي حقّ التشريع للشعب من دون الله ، ويتخذ أرباباً من دون الله. لأن قولهم هذا قول مرسل، يفتقر إلى المنطق والدليل ويخالف الواقع ومحكم الشريعة معاً. وبعبارة أخرى، فإن حماس تؤمن بالاحتكام إلى شرع الله، كما تؤمن أن الممارسات الديموقراطية لا يجب أن تتعارض مع النصوص الشرعية قاطعة الدلالة؛ لكنها تؤمن في الوقت نفسه بوجود مساحات واسعة مشتركة مع الديموقراطية تقع في دائرة المباح وفق المقاصد والأولويات، كما تؤمن حماس بالتدرج وبناء المجتمع المسلم، وإيجاد البيئة المناسبة لتطبيق أحكام الإسلام. إن المجلس التشريعي في فلسطين والكتل البرلمانية فيه تعمل في دائرة المباح التي تركته الشريعة لاجتهادات الناس. ومن هنا رأت حماس، أن الإسلام قد شرع الشورى كمبدأ عام، وترك تفصيلاته وآلياته لظروف الزمان والمكان والإنسان بما يحقق المصالح العامة للمجتمع والأمة ، وهذا ما يتوافق مع الديموقراطية. يظلم المتشددون الإسلام مرتين: مرة عندما يقارن بالديمقراطية. ومرة عندما يقال إنه ضدّ الديمقراطية، إذ المقارنة بين الاثنين خاطئة، وادعاء التنافي خطيئة. والمقارنة متعذرة من ناحية المنهجية بين الإسلام الذي هو دين ورسالة تتضمن مبادئ تنظم عبادات الناس وأخلاقهم ومعاملاتهم، وبين الديمقراطية التي هي نظام للحكم، وآلية للمشاركة، وهي عنوان محمل بالعديد من القيم الإيجابية . إن ما يحرم اقترافه في مجالس الشورى من تشريعات تتعارض مع ما أحلته الشريعة الإسلامية أو حرّمته، يحرم اقترافه أيضاً في المؤسسات الديموقراطية، سواء بسواء، فالشورى في البيئة العربية والإسلامية يمكن أن تمثل الأسس أو الخلفية الفلسفية للديموقراطية، ويمكن أن تشكل الديموقراطية الوسائل والآليات والمؤسسات التي تطبق هذه الأسس . إن الديموقراطية "صورة غربية من الشورى الإسلامية" على حدّ تعبير توفيق الشاوي ، وإن النظم الديموقراطية قامت بوضع هذا المفهوم الإسلامي موضع التطبيق، من خلال آليات عملية. لذا يمكن الاستفادة من هذه الآليات التي تنسجم مع القيم والمبادئ الإسلامية. وإن إنكار هذه الآليات وردها هو لصالح بديل لا يمكن قبوله، وهو الاستبداد السياسي أو الحكم الفردي المطلق، بحسب رؤية راشد الغنوشي ، التي تُعدُّ رؤيته مقبولة عند حماس وعند قادتها. 2. الشورى ملزمة: إنه إذا كانت (الشورى/ الديموقراطية) كمبادئ وآليات عمل محل اتفاق، فإن مسألة "إلزامية" قرارات مجالس الشورى، هي موضع اختلاف عند المفكرين المسلمين. إذ يرى بعضهم أنها ملزمة ابتداء وانتهاء مع اعتماد مبدأ الأغلبية في إجراءات اتخاذ القرار، منعاً لتفرد الحاكم أو السلطة التنفيذية بالقرار فيما يتعلق بمصالح الشعب العليا، التي هي من اختصاص مجالس الشورى. ويرى آخرون أنها غير ملزمة انتهاء، في أحوال كثيرة فصّلها العلماء . ولقد اختارت حماس الرأي الأول وقرّرته في نظامها الداخلي فقالت: "الشورى الملزمة هي الأساس المعتمد في اتخاذ القرار..." . هذا الاختيار يجسّد موقفاً سياسياً وتنظيمياً ثابتاً لحماس، كان قد أكّد عليه الشيخ أحمد ياسين من معتقله للقيادة في سنة 1993، حيث قال لهم: "الشورى عندنا ملزمة، لا يجوز أن ينفرد شخص أو بعض أشخاص في قرار يحدد مستقبل دعوتنا ]يعني حماس[ وأيّ قرار تتخذه الأغلبية سيكون ملزماً للجميع" . وتؤكد الممارسة العملية لمؤسسات حركة حماس التزام قادتها وكوادرها بإلزامية الشورى، حيث ردّ مجلس الشورى العام قرارات عديدة للمكتب السياسي الذي يمثل السلطة التنفيذية في الحركة. لقد اختارت حماس إلزامية الشورى في نظامها الداخلي، ولم تشغل نفسها بالتفاصيل الخلافية التي انشغل بها المفكرون. فقد رأت في مبدأ الإلزام ما يحصّن قراراتها من الخطأ ويمنع التفرد والاستبداد، وحين شاركت في انتخابات المجلس التشريعي للسلطة الفلسطينية سنة 2006، التزمت بمبادئ القانون الأساسي ومواده التي تعطي المجلس حقّ المصادقة على الحكومة، وحقّ نزع الثقة منها، وحقّ مراقبتها ومحاسبتها، وتعتمد قراراته بالأغلبية. وقرارات الأغلبية ملزمة للحكومة . ب. في تطبيقات الديموقراطية: إن معظم الجدل حول مفهوم الديموقراطية وتطبيقاته في الفكر الإسلامي الحديث يتركز حول مسائل بعينها، ومنها: مسألة سيادة الشعب، والانتخابات، ومبدأ الأغلبية، والفصل بين السلطات، والتعددية السياسية والحزبية، وحقوق الإنسان وحرياته. وهي مسائل سنقف عندها من خلال ثلاثة تطبيقات هي: أ. الانتخابات وسيادة الشعب. ب. التعددية السياسية والحزبية. ج. حقوق الإنسان وحرياته. نستهدف من خلالها التعرف إلى موقف حماس ومقاربتها السياسية لهذه المسائل. أ. الانتخابات وسيادة الشعب: 1. الأمة مصدر السلطات: من مسائل الديموقراطية الأكثر التباساً عند بعض من جمهور المسلمين مبدأ "أن السيادة للشعب، وأن الأمة هي مصدر السلطات". ومصدر الالتباس عندهم يأتي من ربطهم بين مفهوم هذه العبارة، ومفهوم التشريع بالوحي. فإذا كانت الأمة هي مصدر السلطات، ومن سلطاتها سلطة التشريع من خلال المجالس النيابية أو البرلمانية، فأين نضع التشريع الإلهي من ممارسة هذه المجالس؟ ويأتي الالتباس مرة ثانية من كون هذه العبارة آنفة الذكر، هي من نتاج الفكر الغربي والديموقراطية الغربية، التي عزلت الدين عن السياسة وعن التشريع، وقالت بحكم الشعب للشعب، الأمر الذي تطلب من المفكرين المسلمين تقديم مفهوم إسلامي لهذه العبارة على نحو يرفع الالتباس، ويجلّي الحقيقة. لقد رأى المفكرون المسلمون أن التشريع نفسه مقيد في النظم الديموقراطية وفي الشورى بالدستور. وفي الدستور مبادئ حاكمة لمعالجة أيّ تعارض محتمل بين الشريعة الإسلامية، التي هي عادة المصدر الرئيسي أو الأول للتشريع، وبين القوانين في دساتير البلاد العربية والإسلامية. وإذا قاربنا موقف حماس من هذه المسألة وجدناها تتقبل ما ضمّنه الفكر الإسلامي للعبارة من معانٍ وحقوق للأمة ومنها: حقّ الأمة في اختيار من يحكمها، ويتم ترجمة هذا الحق في العملية الديموقراطية من خلال الانتخابات وصندوق الاقتراع وقرار الأغلبية. ويرى بعض المفكرين المسلمين أن نظام الانتخابات يحقق مقصد نظام "البيعة" الذي عرفه وطبّقه المتقدمون، والذي يعطي الأمة الحق في تعيين الحاكم وعزله. والبيعة ركن أساسي من أركان الشورى في الإسلام . ويحقق مفهوم "العقد" بين الحاكم والمحكومين. حيث يُوجِب العقد على الحاكم القيام بواجباته والوفاء بها، فإن نكث أو قصر فللأمة الحق في عزله وفسخ العقد معه. وتعدّ الانتخابات الآلية الأسهل في عصرنا الحديث لتحقيق مفهوم البيعة ومفهوم العقد، وتقدم آلية سلمية لفسخ العقد وإجراء العزل من خلال الانتخابات التي تجري كلّ أربع سنوات في كثير من الدول . يفرّق محمد عمارة بين البيعة الدينية والبيعة السياسية، لأن البيعة الدينية تعني: الدخول في الدين والإيمان به، وهي واجبة، والخروج عليها ردّة. أما البيعة السياسية فهي للحاكم، أو للدولة، وهي اختيارية، ويجوز فيها المعارضة، أي الامتناع عن الدخول فيها. وهي بيعة ترتبط بأمور دنيوية، ويجوز فيها تعيين الحاكم وخلعه. أما الأمور المرتبطة بالعبادات فلا علاقة لها بهذه البيعة السياسية. تُلزم حركة حماس أفرادها بالبيعة "التنظيمية"، وهي من هذا النوع السياسي الذي بيّنه محمد عمارة، حتى وإن اصطبغ نصها بصبغة دينية ، وقد جاءت لتعزيز فكرة الولاء والالتزام التنظيمي. إنها بيعة سياسية لا يترتب على الخروج منها أيّ أحكام أو مسؤوليات دينية. كما لا يترتب على من لم يدخل فيها أيّ أحكام أو مسؤوليات دينية. البيعة عند حماس هي بيعة تنظيمية وسياسية، تعطي المبايع حقوقاً تنظيمية تشبه تلك الحقوق التي تُعطى للأفراد في الأحزاب الليبرالية واليسارية، من مثل المشاركة في الانتخابات الداخلية للحركة. ومن نقض بيعته التنظيمية فقد حقوقه التنظيمية فحسب. 2. الترشح والدعاية: الترشح والدعاية من مبادئ ومستلزمات الانتخابات في النظام الديموقراطي، حيث لا انتخابات بدون دعاية وبدون ترشيح الأفراد لأنفسهم أو ترشيح الحزب لهم. غير أن من المفكرين الإسلاميين فريق يرفض مبدأ الترشيح والدعاية، ويمنعه اعتماداً على فهمهم لبعض النصوص الدينية، ومنها الحديث الشريف: "نحن لا نولي أمرنا من يطلبه أو يحرص عليه" . وتأخذ حركة حماس بمبدأ المنع هذا في انتخاباتها الداخلية، حيث ورد في اللائحة الداخلية للانتخابات ما نصه: "لا يجوز الترشح للمناصب في جميع مراحل العملية الانتخابية، ولا يجوز عمل دعاية انتخابية" . غير أنها تأخذ بمبدأ الترشح والدعاية المقرر في الممارسة الديموقراطية في الانتخابات التشريعية العامة، والانتخابات البلدية، وانتخابات المؤسسات والنقابات ومجالس الطلبة، ولا ترى بأساً في ذلك. ومن ثم يمكن القول إن لحماس موقفين من مبدأ الترشح للانتخابات والدعاية لا موقفاً واحداً. وغالباً ما نجد تأثيراً واضحاً للموقف الثاني على الانتخابات الداخلية، حيث تضبط الحركة بعض المخالفات لمبدأ المنع والحظر في الانتخابات الداخلية. ومن جهة أخرى، يفهم فريق آخر من المفكرين المسلمين أن الترشح المذموم في طلب الإمارة هو المرتبط بالغش والخداع، والدعاية المضللة، وقالوا: إن الهدف من الترشح هو "الإعلان" عن استيفاء المرشح للشروط والمؤهلات اللازمة للمنصب . ومما يعزّز رأي الفريق الثاني هو واقعيته في مواجهة التطورات، ومشاركة الحركات الإسلامية في الانتخابات العامة، وأخذها بالأساليب والآليات التي تأخذ بها الأحزاب الأخرى الليبرالية واليسارية؛ بعد أن صار الترشيح والدعاية للمرشحين جزءاً من واقع الحياة السياسية في البلاد العربية والإسلامية، إضافة إلى كونه من مستلزمات العملية الديموقراطية. ولتوجيه هذه الإجراءات إسلامياً، رأى يوسف القرضاوي في عملية اختيار الناخب للمرشح أنها بمثابة شهادة تزكية شرعية له، يُسأل عنها شرعاً، كما يسأل عن شهادته في قضايا أخرى؛ لذا أوجب على الناخب تحري الاختيار على أسس شرعية لا حزبية، قاعدتها الأمانة والقوة لقوله تعالى چ ے ے ۓ ۓ ڭ ڭ چ . 3. مبدأ الأغلبية: من المبادئ الديموقراطية في الانتخابات، وفي أعمال المجالس النيابية، اتخاذ القرارات بأغلبية الأصوات كما تحدّدها النصوص الإجرائية؛ إذ ثمة تعطيل للعمل والحياة عند طلب الإجماع، لأن الإجماع غالباً ما يكون مستحيلاً. ويبدو أن لمبدأ الأغلبية أساس وتقبّل في الفكر الإسلامي، إذ يقول فهمي هويدي: الصواب له معياران من الناحية الموضوعية، لا ثالث لهما. فإذا كان في المسألة نصّ شرعي قطعي، لا مجال فيه للظن أو الاجتهاد، فهو معيار الصواب الذي ينبغي أن يتقيد به الجميع في أمة الإسلام. خارج ذلك النطاق الضيق والمحدود، فالرأي رأي الأمة، والصواب هو ما تتفق عليه أغلبية ممثليها. ولا صواب يمكن أن يفوق أو ينسخ رأي الأغلبية، وما دون ذلك يعد تسويغاً للهوى والاستبداد، وتعريضاً لمصالح الأمة لمخاطر الصدفة التي قد تصيب وقد تخيب . يبدو أن مبدأ الأغلبية لم يعد موضع نقاش في الحركات الإسلامية، ولا محط اختلاف في الإجراءات العملية، وتأخذ به حركة حماس حتى، وإن كان هناك ثمة احتمال لأن يكون رأي الأقلية هو الصواب في مرات قليلة. ويرى محمود الخالدي "أن مبدأ الأغلبية قاعدة وضعية، وليست قاعدة إسلامية ثابتة" . ولكن المسألة في الممارسة العملية عند حماس لا تتعلق بالصواب والخطأ، ولا بإسلامية القاعدة أو وضعيتها؛ لأن الصواب والخطأ فيما فيه اجتهاد هو مسألة نسبية، ويرتبط بتحقيق المصالح، وتبسيط آليات اتخاذ القرار، لأن الإجماع شبه مستحيل ولا يصلح آلية في اتخاذ القرارات . تأخذ حماس بمبدأ الأغلبية في انتخاباتها الداخلية، وتأخذ به في قرارات الإعادة، وفي إجراءات أخرى؛ بل وتأخذ به في الانتخابات العامة، وإدارة المجالس التشريعية والنقابية، وتقبل بفكرة الاستفتاء العام في القضايا التي تستدعي ذلك. 4. مبدأ فصل السلطات: من مبادئ الديموقراطية وإجراءاتها فصل السلطات، التنفيذية والتشريعية والقضائية، بعضها عن بعض، فصلاً يستهدف تحقيق العدالة ومنع الاستبداد، ومنع تغول السلطة التنفيذية، صاحبة المال والأدوات، على السلطتين التشريعية والقضائية. لقد أكد الفكر السياسي الإسلامي على أهمية هذا المبدأ، غير أنك تجد بين المفكرين المسلمين اختلافاً في درجة الفصل، وهل يكون تاماً، أم نسبياً، أي مخففاً . إذ يرى راشد الغنوشي أن الفصل بين السلطات في الإسلام يجب أن يكون على قاعدة التعاون بين السلطات لا على قاعدة التنازع والتنافس، لأن الدولة بمجملها هي أداة تنفيذية وتخضع لسلطة الأمة . ونجد لحماس في مسألة فصل السلطات موقفين: أحدهما على المستوى العام داخل المجتمع حيث تطالب بفصل السلطات لمنع الاستبداد، ولمنع تغول السلطة التنفيذية على غيرها من السلطات، ولا ترفض فكرة التعاون بينها، وتتفهم مسؤولية الدولة بكافة سلطاتها، بناءً على ما ورد في القانون الأساسي الفلسطيني . ولا تعارض في التطبيق فكرة التعاون التي أشار إليها الغنوشي واختارها جمال منصور . ثم إن مفهوم المعارضة عند حماس في العمل الحزبي والمجلس التشريعي يختلف عن مفهومه عند الغرب، حيث ترى حماس أن المعارضة في الإسلام ملزمة بالتعاون مع السلطة التنفيذية الحاكمة لأن المعارضة الحزبية القائمة على التنازع، وتصيد الأخطاء لإسقاط الحكومة، والقفز إلى مكانها يضعف الدولة، وربما يضر بمصالح الشعب؛ وهو ما نبه إليه إبراهيم المقادمة في محاضراته. وقد رأى حسن البنا في تنازع الأحزاب المصرية دوافع شخصية وحزبية، جعلته يرفض، على وجه شخصي، الحزبية في فترة التحرر من الاستعمار . أما الموقف الثاني فلعل حالة الفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية غير مكتملة تماماً على المستوى الداخلي لحركة حماس، إلا أن الفصل الموجود، والصلاحيات المتوفرة للسلطتين التشريعية والقضائية، يُعدّ حالة متقدمة قياساً بالاتجاهات والأحزاب المماثلة لحماس في العالم العربي والإسلامي. ثمّ إن هذه السلطات تعاني من العمل في ظروف استثنائية بسبب الاحتلال والحصار الإسرائيلي في الداخل، وبسبب صعوبة العمل والحركة والقدرة على الاجتماع، خصوصاً بعد خروج حماس من سورية، والترتيبات الأمنية المتعلقة بذلك في الداخل والخارج. ب. التعددية السياسية والحزبية: الاختلاف سنة كونية. والتعددية السياسية تعبير عن مبدأ الاختلاف، وتنظيم للاختلافات في المجتمع . وهي عند محمد سليم العوا التسليم بالاختلاف، لأنه واقع لا ينكره عاقل، والتسليم به حقّ للمتخالفين لا يملك أحد أن يحرمهم منه . وتقتضي التعددية الإيجابية، إن صحّ هذا الوصف، اعتراف المتخالفين بعضهم ببعض، مع "إرادة العيش المشترك" . وحين تغيب إرادة العيش المشترك تكون التعددية سلبية. يُقسِّم يوسف القرضاوي الاختلاف إلى قسمين: الأول اختلاف تنوع، والآخر اختلاف تضاد. وليس في الأول خطر على تماسك المجتمع والأمة، لأن التنوع يفضي إلى التكامل . ومقابله، أي التضاد، يفضي إلى التشرذم والانشقاق، وهو خطر على تماسك المجتمع. وفي الثاني، قال حسن البنا بعد معايشته للحياة الحزبية في مصر: "يعتقد الإخوان أن هذه الحزبية قد أفسدت على الناس كلّ مرافق حياتهم، وعطّلت مصالحهم، وأتلفت أخلاقهم، ومزّقت روابطهم، وكان لها في حياتهم العامة والخاصة أسوأ الآثار" . ومن ثم أحاط المفكرون المسلمون التعددية والحزبية بضمانات، تمنع التجاوزات، وتمنع تحول التعددية إلى اختلاف مذموم شرعاً وعقلاً. يرى يوسف القرضاوي في التعددية السياسية ما يمنع الاستبداد . وهي ضرورية لتحقيق العديد من القيم الإسلامية كالحرية والمساواة والشورى . وفي التعددية يمكن أن نجد حلاً لمشكلة الأقليات، وتنظيماً للحقوق والخلافات على قاعدة المواطنة، التي تعني أن الوطن لجميع أبنائه، وجميعهم لهم حقوق متساوية. لا ديموقراطية بدون تعددية سياسية، ولا تعددية بدون أحزاب منظمة وقوانين ضابطة. وللأحزاب في النظام الديموقراطي مهام عديدة، سواء أكانت في الحكومة أم في المعارضة. ومع أهميتها ودورها، فقد اختلفت مواقف المفكرين المسلمين منها اختلافاً لا ينبع من مبدأ التعددية السياسية الحزبية نفسه، وإنما ينبع عند من يرفضون الحزبية من واقع الممارسة السلبية لها في بلادهم. وربما أضاف بعضهم إلى رفضه ورود الحزبية في القرآن بصيغة الذم. وهو سبب مردود، لأنها وردت في مواضع أخرى بصيغة المدح. ومن ثم لم يبحث الرافض لها في ماهية المذموم نفسه. ورفعاً للالتباس، حصر محمد سليم العوا الذم في الأحزاب التي تقوم على الكفر والشرك ومعاداة الإسلام والمسلمين ، وبالتي تثير التشرذم والانقسام في الأمة كما ذكر حسن البنا. وذلك اشتراط إسحاق الفرحان على الأحزاب عدم مخالفتها للمبادئ والأصول الإسلامية . يعرّف يوسف القرضاوي الحزب السياسي بقوله: "هو مجموعة من الأعضاء الذين يلتقون على أفكار معينة، ويرون أنها الأقرب إلى الصواب" . ويشترط على الحزب الاعتراف بغيره من الأحزاب، وألا يقوم على أسس إقليمية أو عرقية أو دينية أو ما شابه من ذلك . وتعد الأحزاب في العصر الحديث المؤسسة الأكثر نضجاً وقدرة بين مؤسسات المجتمع على قيادة النظام السياسي الديموقراطي وتطويره؛ وهي الأكثر جاهزية للتفاعل مع مسائل الديموقراطية: كالانتخابات وتداول السلطة، وتحقيق مبدأ المراقبة والمحاسبة، وتنظيم المعارضة البرلمانية. ولا يتصور أحد أن تقوم معارضة سياسية فاعلة من دون أحزاب قوية. إن غياب الأحزاب وغياب المعارضة القوية الهادفة يعني الاستبداد نفسه. ولا تثير الأحزاب الشيوعية مشكلة كبيرة لدى كثير من المفكرين المسلمين في النظام الديموقراطي عند الحديث عن التعددية السياسية الحزبية، بالرغم من الإقرار بوجود اختلاف بينهم. إذ يتفقون على القواعد الأصولية الحاكمة ومنها أن الأمة هي مصدر السلطات، وأن أبناء الأمة يمارسون سلطاتهم بآليات سليمة ومنها الانتخابات الدورية، ومن هؤلاء المفكرين يوسف القرضاوي والغنوشي والعوا "ما دام ذلك ضمن نطاق حرية التعبير عن الرأي" . على أن هذه الأحزاب يمكنها معارضة الموقف السياسي والدولة، لا أن تنشغل بمعاداة العقيدة الإسلامية. ويتقبل العوا فوز الحزب الشيوعي بالحكم إذا أعطته الأمة ثقتها في انتخابات حرة ونزيهة، ويرجع فوزه في هذه الحالة إلى تقصير الأحزاب الإسلامية . ويرى حسن الترابي، وهو ربما ينطلق من واقع التجربة السودانية، أنه لا مصلحة في قيام أحزاب شيوعية ملحدة . بينما يربط محمد حسين فضل الله بين السماح بقيامها والوضع الدولي، إذ يمكن عنده السماح للأحزاب غير الإسلامية بالظهور إذا تطلب الوضع الدولي أو الظروف الضاغطة ذلك؛ أي إن الأمر عنده مرحلي . يُظهر ما سبق ثراء في الفكر الإسلامي السياسي في مقاربته لمسألة التعددية السياسية والحزبية؛ غير أنا نلاحظ ندرة في مقاربات حماس الفكرية المتخصصة لهذه المسألة. فقد تعاملت حماس مع هذه المسألة بإشارات عامة وعبارات فضفاضة، ويرجع هذا فيما نحسب لانشغال حماس بفكرة التحرير، والبحث عن الدولة؛ هذا من ناحية، ولاكتفائها بالمنتج الفكري الذي قدّمه قادة الحركة الإسلامية ومفكروها كحسن البنا، والقرضاوي، ومحمد العوا، وراشد الغنوشي، وحسن الترابي وغيرهم، وهي تنهل مما قدموه بلا تحفظ، وبما يتناسب مع الوضع الفلسطيني. لا نجد فرقاً بين أقوال حماس وتطبيقاتها في مسألة التعددية، وبين ما جاء في هذه المصادر مما أشرنا إليه آنفاً. وعليه، يمكن النظر إلى هذه المصادر على أساس أنها تعويض للنقص الذي يلمسه الباحث في التنظير السياسي لحماس. يقارب ميثاق حماس "التعددية الفصائلية الفلسطينية بشقيها: الوطني والإسلامي" فيقول: "الحركات الوطنية على الساحة الفلسطينية تبادلها [يعني حماس] الاحترام، وتقدر ظروفها، والعوامل المحيطة بها، والمؤثرة فيها، وتشدّ على يدها، مادامت لا تعطي ولاءها للشرق الشيوعي أو الغرب الصليبي من أجل تحرير فلسطين" . ويقول في الشق الإسلامي: "تنظر حركة المقاومة الإسلامية إلى الحركات الإسلامية الأخرى نظرة احترام وتقدير، فهي إن اختلفت معها في جانب أو تصور، اتفقت معها في جوانب وتصورات، وتنظر إلى تلك الحركات، إن توافرت النوايا السليمة والإخلاص بأنها تدرج في باب الاجتهاد..." . في هذين النَّصيْن مقاربة سياسية يغلب عليها الصياغة العامة والرؤية الأخلاقية، التي تؤكد على الاحترام والتقدير بشرطين: الأول: ألا تعطي هذه الفصائل ولاءها للشرق والغرب، دون أن تحدد مفهومها للولاء، الذي يمنع الاحترام والتقدير، وآليات المنع وكيفياته. وهذا الشرط أكثر وضوحاً وتحديداً عند المفكرين الإسلاميين، الذين رفضوا إقامة الأحزاب الشيوعية الملحدة لمعاداتها للدين. وهو يتعارض أيضاً مع الرأي الراجح الذي يتقبل الأحزاب جميعاً ويتقبل فوز الحزب الشيوعي بالسلطة إن أعطته الأمة الفوز والسلطة في انتخابات حرة ونزيهة؛ وهو أمر يتقبله أحمد ياسين مؤسس حماس. والثاني: هو العمل من أجل تحرير الأراضي المحتلة. والتحرير فكرة مقدمة ومقدرة في فلسفة التعددية الفلسطينية، وعند الفصائل المقاومة والأحزاب السياسية معاً. إن ميثاق حماس يقرر موقفها مما هو قائم على الأرض، أكثر مما يقارب التعددية من منظور فكري سياسي، وعلاقتها بالديموقراطية، ومناقضتها للاستبداد. ويتكرر الموقف نفسه القائم على "الاحترام" عند قادة حماس ومنهم أحمد ياسين؛ إذ يقول في علاقة حركته مع حركة فتح: "نحن تجاوزنا هذه الخلافات في الانتفاضة، واندمجنا في المقاومة، وعاد التعاون... لا توجد الآن خلافات ]يقصد اقتتال[. الخلافات الموجودة حول وجهات نظر سياسية: أوسلو، ومسار أوسلو، ولكن بالنسبة لنا كفصائل مقاومة مجاهدة لا توجد بيننا خلافات أو صراعات" . لم يعرف المجتمع الفلسطيني الحزبية السياسية بمفهومها السياسي، المفصل والمتكامل، كما عرفه الغرب، أو كما عرفته الدول المستقرة، على أساس أن الحزب تجمع منظم، ونظام يستهدف الوصول إلى الحكم منفرداً، أو مؤتلفاً مع غيره من الأحزاب ؛ إذ طغى العمل المقاوم على التنظير والاهتمامات السياسية. ولا تمثل منظمة التحرير الفلسطينية حالة حزبية مؤتلفة حقيقية، بل هي حالة من الممارسة النضالية، يقوم التمثيل فيها على المحاصصة "الكوتا"، وليس على التنافس الحزبي البرامجي . الحياة الحزبية تحتاج إلى الاستقرار والعلنية، وهذه المبادئ تفتقدها الساحة الفلسطينية، وبسبب المقاومة أخذت حماس كغيرها من فصائل العمل الوطني والإسلامي بالسرية، والعمل تحت الأرض في كثير من أنشطتها. ومن ثم عرَّفت حماس نفسها بأنها حركة مقاومة وليست حزباً سياسياً. وحين قررت حماس أن تنشئ حزباً سياسياً سنة 1995، لأسباب موضوعية تتعلق بالحركة وبالبيئة المستحدثة بعد أوسلو، دون أن تكون هناك حياة سياسية ناضجة في فلسطين، ودون أن تكون هناك قوانين منظمة للأحزاب، لم يمتد حزب الخلاص الوطني الإسلامي الذي أنشأته في غزة إلى الضفة الغربية بقرار من حماس نفسها. ولم تُعطِ حماس، في الوقت نفسه الحزب، مساحة عمل واسعة ومستقلة تحفظ له شخصيته وتقدمه، لذا تراجع إلى الخلف، وتحول لاحقاً إلى عنوان ومقر ويافطة. وكان ذلك لحساب الحركة نفسها، الأمر الذي قد يفهم منه تراجعاً سلبياً عن مفهوم التعددية السياسية والحزبية، على الأقل عند خصوم حماس؛ بينما فهم الكثير من قادة حماس أن الأمر غير متعلق بالاختلاف على التعددية؛ وأن المسألة لم تنضج بما يكفي لاتخاذ قرار إن كان هذا الحزب سيكون هو واجهة هذه التعددية، أم أن حماس نفسها ستتابع ممارسة هذا الدور على أساس أنها هي نفسها اللافتة الحزبية المعنية بهذه المهمة، وأن القرار في النهاية كان مع متابعة حماس لهذا الدور، كما تفعل معظم الفصائل الفلسطينية. إنه من الصعب فيما يبدو، أن تنجح الأحزاب السياسية في ظلّ فصائل عمل مقاومة تستهدف التحرير، ومن الصعب أيضاً أن تتنازل فصائل المقاومة عن مكانتها ودورها لأحزاب سياسية. لذا لم تنشئ حركة فتح حزباً سياسياً، بالرغم من مطالبة بعض قياداتها الشابة بإنشائه. ويجدر هنا القول إن حزب الخلاص الوطني الإسلامي قدم في نظامه الأساسي المعتمد سنة 1995 مشروعاً حزبياً أكثر تقدماً واتساعاً من الفصائل في مفهوم الديموقراطية والتعددية الحزبية؛ التي قال فيها إنها "حقّ مكفول للجميع في إطار الشرع والقانون" . ومع ذلك نستطيع أن نقول في حقّ حماس والفصائل أمرين: الأول: أن حركة حماس والفصائل الأخرى تقوم ببعض الأعمال والسياسات التي تقوم بها الأحزاب السياسية. لذا فهي تملأ ما يمكن تسميته بالفراغ الحزبي بمفهومه الفلسطيني بشكل آخر. والثاني: إن هذه الفصائل مهيأة تنظيمياً لكي تتحول إلى أحزاب سياسية، حين يتم التحرير وتقوم الدولة المستقلة المستقرة، وتتهيأ ببيئة صالحة لحياة حزبية متطورة. لقد حاولت السلطة في عهد ياسر عرفات أن تتقدم خطوة نحو إقامة حياة حزبية تعددية من خلال مشروع قانون الأحزاب لسنة 1995، الذي أعده ديوان الفتوى والتشريع . وقد حدد القانون الأساسي الفلسطيني طبيعة الحكم في فلسطين بأنه "نظام ديمقراطي نيابي يعتمد على التعددية السياسية الحزبية" . ولكن القانون لم يصدر حتى كتابة هذه السطور. ويرجع هذا في ظنّ الباحث إلى عدم نضج الحالة الحزبية في فلسطين، والتي تعني: الانتخابات الحرة النزيهة، والتداول السلمي على السلطة، وتشكيل معارضة تقوم بالمراقبة والمحاسبة...إلخ . الأمر الذي استنتج منه جمال منصور ما يمكن تسميته بموقف مثير للشك في موقف السلطة من التعددية الحزبية الحقيقية . وهنا يجدر ذكر بعض المعوقات الرئيسية أمام التعددية السياسية والحزبية كما يراها الباحث: 1. الإرث السياسي الفصائلي والثوري، وتقاليده المتباينة أحياناً مع مقتضى العمل الحزبي كالمحاصصة، والقيادة التاريخية، والتفرد السياسي، وغياب التداول والبرامج السياسية. 2. تداخل مرحلتي التحرر والبناء، وآثار ذلك على التردد، وعدم وضوح التوجه عند القوى الفلسطينية، إضافة إلى الحضور الإسرائيلي في هذا الشأن. 3. غياب الأساس القانوني المنظم للحياة السياسة، وعدم صدور قانون الأحزاب. ويستنتج من هذه المعوقات: أن حالة التردد بين الفصائلية المقاومة وبين الحزبية السياسية المستقرة، ستظل سائدة في المرحلة الراهنة . لقد واجهت حماس معوقات التعددية السياسية الحزبية في وقت مبكر، ودعت إلى نظام ديموقراطي حقيقي، وإلى تعددية سياسية وحزبية بقوانين منظمة، وإلى إعادة الاعتبار لسلطة الشعب من خلال الانتخابات. وفي هذا قال أحمد ياسين: " أنا أريد دولة ديمقراطية متعددة الأحزاب، والسلطة لمن يفوز في الانتخابات، ... حتى لو فاز الحزب الشيوعي فسأحترم رغبة الشعب الفلسطيني" . وكان قوله هذا في سنة 1989، أي قبل قيام السلطة الفلسطينية بموجب اتفاق أوسلو في سنة 1994. وهو ما أكده محمود الزهار بقوله: "إن حماس تحترم رأي الشارع الفلسطيني ولو كان عكس رغبتها، لكن على الآخرين أيضاً أن يحترموا رأي الشارع الفلسطيني إذا قال نعم للإسلام" . وبهذا ندرك أن حماس تميل إلى التعددية السياسية المفتوحة بغير شرط، وهو الرأي الذي رجحه العديد من المفكرين والعلماء المسلمين كما تقدم آنفاً. ويرى علي الجرباوي أن حماس "ضمنت لنفسها موقعاً مميزاً في المشهد السياسي الفلسطيني بقبولها بالتعددية الأيديولوجية في الساحة الفلسطينية، وتعاملها مع تلك الساحة على أساس ذلك الواقع مؤكدة منهجاً براغماتياً" . لقد نظرت حماس إلى التعددية السياسية والحزبية، بوصفها أداة لتنظيم الخلافات السياسية وغير السياسية وإدارتها بآليات ديموقراطية سلمية. لذا أكدت على لسان قادتها أنها ترفض العنف الداخلي، وترفض الاغتيالات السياسية رفضاً مطلقاً، وتطلب من الآخر الفلسطيني المعاملة بالمثل. يقول عبد العزيز الرنتيسي: "حماس ستعارض الحكم الذاتي، ولكنها لن تستخدم العنف ضدّ أيّ طرف يسير في طريق الحكم الذاتي، وتطلب من الآخرين أن يحترموا أيّ طرف يقول رأيه... وتحترم اجتهادات الآخرين، ولا نجد حرجاً في التعاون مع أيّ طرف آخر بما يخدم القضية الفلسطينية" . وقد أكدت سيرة حماس العملية على قبولها للتعددية، وإيمانها بالحوار الوطني، وإدارة الخلافات الداخلية بطرق سلمية، ودخلت في تحالفات الفصائل العشرة. وحين شكلت حماس حكومتها في سنة 2006، بعد الفوز بالانتخابات عرضت المشاركة على الفصائل الفلسطينية كافة، بما فيها الحزب الشيوعي الفلسطيني. وما زالت حماس تدعو إلى تشكيل حكومة ائتلاف وطني موسعة، لأن أعباء القضية الفلسطينية الثقيلة لا يقدر عليها فصيل لوحده، بل هي في حاجة إلى الجميع. يؤكد خالد مشعل على خصوصية الوضع الفلسطيني، فيضيف إلى الديموقراطية ونتائج الانتخابات فكرة "الشراكة"، فيقول: "بناء المؤسسات والمرجعيات الوطنية الفلسطينية ينبغي أن يكون دائماً على أسس ديمقراطية، وفي مقدمتها الانتخابات الحرة النزيهة، المتكافئة الفرص. يضاف إليها مبدأ الشراكة والعمل الائتلافي، فلا يصح أن نكتفي بالانتخابات... إن الشراكة يجب أن تكون في كلّ المراحل بصرف النظر عن نسب النجاح" .
ج. حقوق الإنسان وحرياته: من مبادئ الديموقراطية الأساسية: مبدأ حقوق الإنسان وحرياته. ويبدو أنه الأساس الذي انطلق منه الفكر الإسلامي الحديث في الربط بين الديموقراطية والشورى، حيث يحظى هذا الأساس في مفرداته، أو يكاد أن يحظى باتفاق المفكرين المسلمين . ولا تكاد تجد، في الوقت نفسه، اختلافاً بين ما تضمنه "البيان العالمي لحقوق الإنسان في الإسلام"، الصادر في باريس سنة 1981، وما تضمنه "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان The Universal Declaration of Human Rights" الصادر عن الأممالمتحدة، حول حقوق الإنسان وحرياته . إن جلّ الحقوق التي نصت عليها المواثيق الدولية للإنسان بشكل عام لا تتعارض، بحسب عصمت سيف الدولة مع ما أقرته الشريعة الإسلامية من حقوق وحريات . بل إن يوسف القرضاوي يرى أن الإسلام كان أسبق من الديموقراطية، فيما قررته من قواعد ومبادئ وحقوق . تُعرَّف حقوق الإنسان بأنها: مجموعة من الحقوق الطبيعية التي يمتلكها الإنسان، وهي لصيقة بطبيعته، وتظل موجودة وإن لم يتم الاعتراف بها، أو انتهكتها سلطة ما . وتُعرَّف الحرية بأنها: فعل الإنسان لما يريد مع تحمل المسؤولية . فهي ترتبط عادة بحق الاختيار وبتحمل المسؤولية عنه . إن حماية حقوق الإنسان وحرياته هي "أساس الحكم في الإسلام"، كما صرح بذلك محمد الغزالي. ولأنها كذلك، فهي بحاجة إلى ضمانات سياسية وقانونية لحمايتها من العدوان، ومن الاستبداد؛ لذا ضمنتها الدول الديموقراطية دساتيرها. وما فتئ المفكرون المسلمون يطالبون بها . وقد خصص القانون الأساسي الفلسطيني الباب الثاني منه لموضوع الحقوق والحريات العامة من المادة 9-34 . يتميّز الفكر الإسلامي عن الديموقراطية في مقاربته لحقوق الإنسان وحرياته، فيجعل منها "واجبات" لا يقبل التنازل عنها، ولا يقبل عدوان الآخرين عليها، ويربطها بإقامة الدين، لأن بعضها ضروري لسلامة البدن والعقل أولاً، وللاهتمام بشؤون العبادة وإقامتها ثانياً. بينما هي مقرّة في الغرب بسلطة القانون. وهي عندهم مطالب سياسية أكثر من كونها قيماً أساسية لبناء المجتمع . وتنظر حماس إلى هذه الحقوق والحريات بوصفها قيماً يجب أن تحظى باحترام السلطة والمجتمع معاً. ويرى محمد سليم العوا أن الدفاع عن حقوق الإنسان وحرياته واجب في الإسلام من ثلاثة وجوه، هي: 1. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 2. التعاون على البر والتقوى. 3. رفع الظلم عن الناس . وتعدّ هذه الوجوه الثلاثة من أسس العمل الدعوي والسياسي لحركة حماس، وهو حقّ فردي وحقّ جماعي، يقول إبراهيم المقادمة: "... كلّ إنسان يستطيع أن يقول كلمة الحق ولا يخاف في الله لومة لائم، ويجب على الحاكم أن يسمع الحق وينصاع للحق" . ويُقسّم بعض المفكرين حقوق الإنسان على تعددها إلى ثلاثة أقسام، هي: 1. الحقوق والحريات السياسية. 2. الحقوق والحريات الفردية. 3. الحقوق التي ترتبط بالحاجات الإنسانية الضرورية من اقتصادية واجتماعية . تحظى الحقوق والحريات السياسية بالأولوية وبالاهتمام عند المفكرين وعند الممارسين لحقوقهم، لكونها جزءاً مهماً من الحريات الشخصية، وضامنةً للحريات الأخرى. وتشتمل الحقوق السياسية على حقّ الاقتراع، وحرية الكلام، وحرية البحث، والحق في انتخابات عادلة ونزيهة، تجرى في فترات متكررة معقولة، والحق في تشكيل الاتحادات والأحزاب السياسية... إلخ. هذا من ناحية، وتشتمل على الحق في تولي الوظائف العامة في الدولة بلا تمييز أو إقصاء، بشرط توفر الأهلية من ناحية ثانية . إن من يتمتع بحريته السياسية يلزمه أن يتمتع بحقوق أخرى مثل التعليم، وتأمين ضروريات الحياة، إذ إن العلاقة وثيقة بين ما هو شخصي وما هو سياسي . وهناك من جعل الحرية السياسية هي الديموقراطية بعينها . إن تمتع أفراد الشعب بحقوقهم وحرياتهم السياسية، يعني أنهم يتمتعون، بناء على ذلك، بحقوقهم الأخرى، لأن مواطن التنازع مع السلطة تقع في باب الحقوق والحريات السياسية. ولضبط ممارسة الأفراد لحرياتهم الفردية والعامة وضع الإسلام قواعد ضابطة، منها: 1. تجنب الإساءة إلى الآخرين. 2. ألاّ تخرج الحريات عن تعاليم الشريعة وحدودها. 3. الحريات المطلوبة تهدف إلى قول الحق والدفاع عنه بلا تطاول . وإن ممارسة هذه الحقوق تتطلب توازناً دقيقاً بين الفرد والجماعة من ناحية، وبينهما وبين السلطة من ناحية ثانية؛ بما يحفظ حقوق الأفراد والجماعات، ويحفظ للسلطة دورها وهيبتها أيضاً. قلنا إن الحريات السياسية ضامنةٌ لغيرها من الحريات والحقوق؛ لذا انشغلت حركة حماس بالحريات السياسية، وقاومت الاستبداد، وتعرضت للاعتقالات، وللإقصاء من الوظائف العامة، بالرغم من أن مقاومتها كانت سلمية، وبلا عنف. إلا أنها في مواضع قليلة، اضطرت للدفاع عن حقوقها بالقوة كما حدث في 14/6/2007. يقول جمال منصور: "إننا في مقدمة ركب الداعمين لاحترام حقوق الإنسان وتأمين تلك الحقوق للناس جميعاً، وتيسير سبل ممارسة الحرية في إطار النظم الأخلاقية والقانونية. وإن العدوان على الحقوق والحريات تحت أيّ شعار —ولو كان الإسلام نفسه— يمتهن إنسانية الإنسان" . إن نظرة حركة حماس لحقوق الإنسان وحرياته هي عينها نظرة حركة الإخوان المسلمين، وهي عينها نظرة الفكر الإسلامي المعاصر، الذي أشرنا إلى بعض جوانبه آنفاً. وهي نظرة تقوم على أمرين: الأول تقبل المبادئ العالمية والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان وحرياته، وعلى رأسها الإعلان العالمي الصادر عن الأممالمتحدة في سنة 1948، لأنها تتفق مع ما قررته الشريعة الإسلامية. لذا فهي تطالب أنظمة الحكم والسلطات بتأمين هذه الحقوق لكافة الناس، دون تمييز على الهوية أو الدين. والثاني أن ممارسة الإنسان لحقوقه وحرياته لها ضوابط محددة في الشريعة والقوانين، وقد أشرنا إليها آنفاً. وعلى المستفيدين سواء أكانوا أفراداً، أم جماعات، أم سلطات الالتزام بهذه الضوابط. لقد دخلت حماس إلى الديموقراطية من باب حقوق الإنسان وحرياته، حين رأت أن المجتمعات الغربية تتقدم نحو العدل والمساواة والنهضة بفضل حالة الحريات العامة، وبفضل تمتع أفراد المجتمع بحقوقهم الإنسانية، في ظلّ حماية الدولة الديموقراطية، ووعي الرأي العام وسلطانه؛ في الوقت الذي تعيش فيه المجتمعات العربية والإسلامية حالة من الاستبداد والحكم الشمولي، والعائلي، وتعتدي فيها السلطات على حقوق الأفراد والجماعات وحرياتهم، وتقمع الرأي العام، وتزيّف إرادة الشعب في انتخابات شكلية تجري لذر الرماد في العيون. إن تاريخ حماس العملي حافل بمقاومة عدوان السلطات الحاكمة على حقوق الإنسان الفلسطيني وحرياته. وأدبيات حماس تمتلئ بالدعوة إلى الحريات العامة، وممارسة الإنسان لحقوقه كاملة، ويمكن الاسترشاد هنا بموقف حماس من منظمة التحرير، وموقفها السياسي من اتفاقية أوسلو، ومن اعتقال السلطة لقادتها وكوادرها في ضربة سنة 1996. والقاسم المشترك الذي يجمع هذه المواقف هو مطالبة حماس بحقوقها السياسية والإنسانية بشكل عام، وبحقوق أبناء المجتمع من سلطة فلسطينية ضاقت ذرعاً بهذه الحقوق وبهذه المطالب، فلجأت إلى العنف والقمع، وظلت حماس متمسكة بمبدأ سلمية دعوتها ومطالبها. ويمكن النظر إلى مقاومة حماس للاحتلال الإسرائيلي من باب تمسك حركة حماس بحقوقها الوطنية، وبحقوقها الإنسانية التي أقرتها المواثيق الدولية؛ حيث مثّل الاحتلال الإسرائيلي النموذج الأكثر بشاعة وقسوة في عمليات انتهاك حقوق الإنسان الفلسطيني وحرياته. وإن تعاون حركة حماس وحكومتها في غزة مع بعثة الأممالمتحدة لتقصي الحقائق بشأن النزاع في غزة United Nations Fact–Finding Mission on the Gaza Conflict للتحقيق في جرائم الحرب في العدوان الإسرائيلي على غزة في 2008/2009، وتقبلها لتقرير جولدستون Goldstone Report بعد صدوره، ومطالبتها الأممالمتحدة بتنفيذ بنوده، لدليل كبير على تمسك حماس بحقوق الإنسان، وتقبلها للمواثيق الدولية المنظمة لهذه الحقوق. من يُردِ التعرف على موقف حماس من قضايا حقوق الإنسان والحريات العامة، والسياسية على وجه الخصوص، فعليه تتبع مسيرة حركة حماس العملية يوم أن كانت حركة دعوية تربوية في السبعينيات أولاً، ثم يوم أن شاركت في المقاومة مع بداية الانتفاضة الأولى سنة 1987 ثانياً، ثم يوم أن شاركت في العملية السياسية والانتخابات في سنة 2006 ثالثاً. ففي المرحلة الأولى تبنت مبادئ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتعاون على البر والتقوى، ورفع الظلم عن الناس، كأسس ثابتة وآليات عمل للدفاع عن حقوق الإنسان وحرياته في مواجهة الاستبداد. وجمعت في المرحلة الثانية بين العمل التربوي الدعوي على مستوى الداخل الفلسطيني، والمقاومة الشعبية والإعلامية، ثم العسكرية على مستوى الاحتلال الإسرائيلي، تأكيداً منها على هذه الحقوق. وفي المرحلة الثالثة شاركت في العملية السياسية والانتخابات ببرنامج سياسي جوهره نشر الحريات ورعاية حقوق الإنسان، وقد شهدت مرحلتها في الحكم ورئاسة الوزراء تقدماً في ملفات حقوق الإنسان، والتعاون مع مؤسسات المجتمع المدني الحقوقية، بالرغم من الظروف الصعبة التي لا تخلو من أخطاء استثنائية فرضها الواقع وفرضتها البيئة. يطالب إبراهيم المقادمة السلطة بإعطاء الشعب حرياته الحقيقية فيقول: "نريد أن تسود بيننا حرية الرأي الحقيقية، التي شرعها الإسلام في ظلّ نظام حكم عادل، يكفل حقوق الإنسان الصحيحة، وأولها حقه في ممارسة إنسانيته بكرامة. ونريد أن يكون لنا نظامنا القانوني والقضائي الخاص بنا، والذي لم تدخله الأهواء والمصالح الاقتصادية الطارئة لطبقة من الطبقات" . لم يكن المقادمة مرتاحاً لعمل مؤسسات السلطة في تلك الفترة حيث بدت مؤسساتها شكلية فاقدة للصلاحيات أمام تغول الأجهزة الأمنية؛ حيث كان واحداً ممن اعتقلوا وعذبوا عذاباً شديداً سنة 1996. إن تجربة حسن البنا حين رشح نفسه لانتخابات البرلمان المصري، وتجربة إخوان الأردن ومشاركتهم السياسية في البرلمان وفي الحكومة أيضاً، وتجربة حماس في انتخابات 2006، وممارستها الحكم بحسب القانون الأساسي الفلسطيني، ثم مشاركة حزب العدالة والحرية في مصر في الانتخابات بعد ثورة 25/1/2011، وفوز محمد مرسي برئاسة الجمهورية، لهي في مجموعها الدليل العملي على تقبل حركة حماس وحركة الإخوان للديموقراطية واحترام آلياتها ومؤسساتها؛ ومن ثم تمسكها بحقوق الإنسان وحرياته، ورفضها لبعض المواقف السلفية والمتشددة التي تكفّر الديموقراطية والانتخابات. ومن المبادئ المقررة عند الإخوان وعند حماس أن من حقوق الإنسان وحرياته عند الاختلاف مع السلطات الحاكمة أن تلجأ الأطراف إلى الدستور، وإلى القانون، وإلى البرلمان، وإلى القضاء، وإلى الرأي العام من خلال وسائل سلمية، للوصول إلى تأييد ما تراه صواباً من موقفها. إن أخذ حماس بهذه الإجراءات يعني أن حماس تقرّ بأن الأمة مصدر السلطات (بما لا يتعارض مع النصوص القاطعة للإسلام)، وتقبل أن تعمل بموجب آليات العمل والمؤسسات التي أنشأتها الديموقراطية الحديثة، في الدفاع عن حقوقها وحقوق الإنسان وحرياته العامة. إن التفاتة بسيطة إلى البناء الداخلي لحركة حماس يعطيك فكرة جيدة عن الممارسة الديموقراطية لحركة حماس بين أعضائها والمنتسبين إليها، فثمة أمير، ومجلس شورى، ومجالس إدارية، وقادة أقاليم ومناطق. وكلهم يصلون إلى مناصبهم من خلال الانتخابات الحرة، التي لا تصاحبها دعاية أو تزكية بحسب قانون حماس للانتخابات الداخلية. ويتمتع الناخبون بكل حقوقهم التنظيمية، وحقوقهم الإنسانية، وحرياتهم بعدالة ومساواة بحسب اللوائح المقررة في مجالس الشورى. وتأخذ حماس بمبدأ تداول السلطة على مستوى التنظيم حيث تحدد اللوائح للأمير دورتين متتاليتين، لكل دورة أربع سنوات، وهو مبدأ أساسي في الديموقراطية. ولقد أعرضت حماس عن رأي جماعة من المفكرين ترى أن الأمير في النظام الإسلامي يمكن أن يبقى مدى الحياة. إن تطبيقات حماس العملية تقول إنها تأخذ بما كتبه المفكرون الإسلاميون عن الديموقراطية والشورى، ومن ثم فلا يوجد عندها انفصام بين النظرية والممارسة إلا في حالات استثنائية. في أدبيات حماس كلام كثير عن "العدل والمساواة" بين الناس، بغض النظر عن الدين والجنس واللون، وتنظر إليهما بوصفهما قيماً ترتبط بالدين وبالحقوق الإنسانية. وإن نظرتها إلى العدل والمساواة تصطبغ بموقف سياسي في التعامل مع المجتمع الدولي ومؤسسات الأممالمتحدة، حيث تشتكي حماس من انحياز المجتمع الغربي ومجلس الأمن ل"إسرائيل". إن أهم ما تأخذه حماس على الديموقراطية الغربية هو غياب العدل والمساواة في كثير من المعاملات التي تتعلق بالحقوق الفلسطينية والصراع مع الاحتلال. سابعاً: حماس وحقوق الأقليات: لا توجد تاريخياً مشكلة طائفية في فلسطين، لا قبل احتلال فلسطين ولا بعد الاحتلال الصهيوني لها. ولا توجد مشكلة أقليات دينية أو إثنية في تاريخ فلسطين، حيث قامت العلاقة بين الأسرة المسيحية وهو الاسم الأفضل عند المسيحيين، وبين الأغلبية الفلسطينية المسلمة على قاعدتي التسامح والمواطنة؛ فجميع سكان فلسطين لهم حقوق متساوية، وعليهم واجبات محددة بشكل متساوٍ أيضاً. يقول خالد مشعل: "نحن نتعامل مع الأخوة المسيحيين كمكون أساسي من مكونات الشعب والوطن، وكجزء فاعل في معركة النضال ضدّ الاحتلال، بعيداً عن حسابات أن هذا مسلم وهذا مسيحي. نحن شركاء في الوطن، والجميع له حقوق وعليه واجبات" . لا يشكل المسيحيون في فلسطين حزباً سياسياً، ولا فصيلاً من فصائل المقاومة يخصهم وحدهم، وأسباب ذلك معروفة، وهم يتواجدون في جلّ الفصائل الفلسطينية، وبالذات الجبهة الديموقراطية، والجبهة الشعبية، فضلاً عن حركة فتح، وبعض قيادتهم شغلت مناصب مهمة في السلطة الفلسطينية، وفي الدائرة الضيقة لياسر عرفات، ومنظمة التحرير. ولأن حماس حركة إسلامية وطنية تحررية انتبهت جيداً إلى المسيحيين وغيرهم وحددت موقفها في الميثاق الذي صدر عنها وقالت: "إن حركة حماس حركة إنسانية، ترعى الحقوق الإنسانية، وتلتزم بسماحة الإسلام في النظر إلى أتباع الديانات الأخرى. لا تعادي منهم إلا من ناصبها العداء، أو وقف في طريقها ليعيق تحركها أو يبدد جهودها" . وفي إشارة إلى حالة التعايش والتسامح التاريخيين في فلسطين، يقول الميثاق "في ظلّ الإسلام يمكن أن يتعايش أتباع الديانات الثلاث: الإسلام والمسيحية واليهودية في أمن وأمان، ولا يمكن أن يتوفر الأمن والأمان إلا في ظلّ الإسلام. والتاريخ القريب والبعيد خير شاهد على ذلك" . لا تعادي حماس اليهود بسبب دينهم ومعتقداتهم، وإنما من قام منهم بالاعتداء واحتلال فلسطين وطرد الفلسطينيين منها بقوة السلاح؛ فموقف حماس غير مرتبط ب"الاعتقاد" وإنما بمجابهة "الاعتداء" . إن حماس لا تتخذ أيّ مواقف معادية لأحد استناداً إلى فكره وعقيدته، وإنما تتخذ مثل هذه المواقف عندما يتحول هذا الفكر والعقيدة إلى ممارسة عدوانية أو تخريبية، وتؤكد على أن الصراع مع الصهيونية المحتلة هو صراع حضاري. وينقل خالد الحروب ما يمكن تسميته بمبادئ سياسية محددة لعلاقات حماس مع المسيحيين ومنها: 1. نصارى فلسطين جزء لا يتجزأ من الشعب الفلسطيني والأمة العربية وهويتها الحضارية. 2. للنصارى من الحقوق المدنية ما لبقية أبناء الشعب الفلسطيني والأمة العربية. 3. تذكيرهم بأهمية ارتباطهم بمقدساتهم وأرضهم من منطلقات دينية ووطنية. 4. التأكيد على أهمية اشتراكهم في الحياة السياسية والكفاحية للشعب الفلسطيني في فترة الاحتلال وبعد التحرير، والعمل على استقطابهم في العمل والمؤسسات الوطنية . وقد فتح حزب الخلاص الوطني الإسلامي، وهو ذراع سياسي لحركة حماس، أبوابه أمام المسيحيين على قاعدة المواطنة. وفاز في انتخابات 2006 على قائمة حماس حسام الطويل، وهو شخصية مسيحية مرموقة، وشارك الوزير جودة جورج مرقص، وهو مسيحي من بيت لحم، في حكومة حماس برئاسة إسماعيل هنية 2006. وبشكل عام فإن تمسك حركة حماس بالدفاع عن حقوق المسيحيين في فلسطين يقوم على قاعدتين: دينية وديموقراطية. إن نظرة تقييمية لحضور أبناء الأقليات في الوظائف العليا، وفي المجلس التشريعي تكشف عن أن حضور أبناء الأقليات في المواقع الرسمية والشعبية هو حضور قوي وفعال، أكبر من مجرد نسبة العدد لمجمل السكان؛ فالحضور في المجلس التشريعي مضمون بنظام "الكوتا" للمسيحيين والسومريين، فضلاً عن فتح كلّ الأماكن لهم ليتنافسوا عليها كمجمل الشعب. ولذلك لهم فرصتان . ويرى جمال منصور أن نظام "الكوتا" يكرس الطائفية، وينافي الديموقراطية، ولكنه يتقبله لأن الأسرة المسيحية تتقبله وتشعر معه بالإنصاف . وإذا عدنا إلى برنامج كتلة التغيير والإصلاح الانتخابي التي تمثّل حماس في المجلس التشريعي الفلسطيني، نجد أن البند رقم 10 من السياسة الداخلية يدعو إلى "ضمان واحترام حقوق الأقليات في كافة المجالات على قاعدة المواطنة الكاملة" . ويدعو البرنامج إلى "الحفاظ على الوقف الفلسطيني الإسلامي والمسيحي وحمايته من الاعتداء والتلاعب..." . وهذه دعوة في غاية الأهمية في مواجهة العدوان الإسرائيلي على الحقوق المسيحية والإسلامية بالشراء وبالتهويد والمصادرة خاصة في مدينة القدس. ودعا البرنامج إلى: "العدالة وتكافؤ الفرص لجميع المواطنين في التعيين والعمل والترقية" . وهذه المبادئ تشمل أبناء الأقليات بالضرورة. وبالرغم من أن "إسرائيل" هي التي تستدعي الدين وتوظفه في الصراع، فإن حماس لا ترى أن الدين هو الذي أوجد الصراع والمقاومة، بل الاحتلال هو الذي أوجد هذه الحالة، يقول خالد مشعل: "لا نحارب الصهاينة لأنهم يهود، بل نحاربهم لأنهم محتلون، السبب وراء حربنا مع الكيان الصهيوني ومقاومتنا له هو الاحتلال، وليس الاختلاف في الدين" . إن تمسك حماس بحقوق الأقليات هو جزء من تمسكها بحقوق الإنسان عامة كما قررتها الشريعة، وكما قررتها المواثيق الدولية، ومما يزيد من تمسكها بها أن الفلسطيني هو الأكثر تضرراً في العالم من الاحتلال ومن انتهاكه لحقوق الإنسان في فلسطين، دون أن يحظى الفلسطيني بحماية دولية تحمي حقوقه بدرجة متساوية مع حقوق الآخرين في العالم. المصدر: مركز الزيتونة للدراسات