فلما كانت الليلة الخامسة والثلاثون.. عاد شهريار من الديوان مريضًا وقرفان. وكانت شهرزاد قد أعدت له طاجن أرز بالحمام، غير الدجاح المحمر والخبز المقمر. لكنه أشاح بيده: لست جوعان، ودخل إلي الحمام أزال عن نفسه غبار اليوم الطويل، وتمدد جنبها علي السرير، لكنه أمسك بالآيباد، يتابع علي تويتر حالة الحداد. وبين اللحظة والأخري يحوقل ويستغفر، ويدعو الله أن يزيل عن مصر هذا الغم ويوقف سفك الدم. يموت الجنود علي الحدود، يموت الصبي علي باب مدرسته، حتي إذا شجعنا الكورة يموت لنا شباب بالكام تورة، وأنشد شهريار من شعر بيرم عاشق النهار: يا أرض مالك كرهتي كل سكانك في يوم زلازل ويوم يجرفنا طوفانك ويوم عواصف ويوم يشتد بركانك راح فين بهاكي وحلمك فين وحنانك؟ رحيمة فاضت لنا بالخير أنهارك جميله متزوقة في وشي أزهارك طروب تعزف لنا الأنغام أطيارك كريمة ما ينقطع نخلك ورمانك قالت شهرزاد، يا ملكي الودود، أحوالك هذه الأيام لا تعجبني، وجهك ممقوت وودك مفقود وبالك عني مشغول أحكي لك وكأنك غير موجود، هي أيام سوداء أنا معك، لكن الفخار ينضج بالنار، وغدًا ينقشع الليل ويطلع النهار، من لم يفهم حكمة الحكماء سيفهم من حكمة النار. الثمن كبير يا مليكي النبيل، مؤسف وموجع للقلب السليم قبل العليل، وكم من قلوب بكت، وكم من حناجر صرخت، ومادمت ذكرت بيرم، فلأزيدنك من زجله بيتًا، أليس هو القائل: يا شرق فيك جو منور والفكر ضلام وفيك حراره يا خساره وبرود اجسام فيك تسعميت مليون زلمه لكن اغنام لا بالمسيح عرفوا مقامهم ولا بالاسلام هي الشموس بتخلي الروس كداهو بدنجان؟ والذين لم يعرفوا مقامهم يا مولاي بالمسيح ولا بالإسلام سيعرفونه اليوم بعد أن أصبحوا ملطشة للأنام. قالت شهرزاد وأخذت تتأمل مع شهريار صدي كارثة المباراة في التويتات والهاشتاجات، من يسب الداخلية ومن يسب الإخوان ومن يسب الأولاد الذين ذهبوا إلي المباراة دون تذاكر لكي ينغصوا علي البلاد. ولما أحست دنيازاد بأن أختها دخلت سكة الحزن مع مليكها، مدت يدها من تحت السرير وقرصتها في رجلها، وقالت: وعدتينا في الليلة الفائتة بقصة جميلة، فاطربينا يا أميرة. قالت معك حق، أخذتني خيبتنا التقيلة. كان يا ما كان، ليس في سالف العصر بل في هذا الزمان، كان هناك اثنان من الأصدقاء اسمهما مسعد وسعيد، أبناء حارة واحدة بدأت صداقتهما منذ بدأا يتدحرجان في أولي خطواتهما، ومع الوقت تعمقت وأصبح أحدهما لا يطيق الفراق عن الآخر، وفي يوم من الأيام، وكانا لا يزالان تلميذين صغيرين، قال مسعد لسعيد إنني يا صديقي لا أحب أن أفارقك أبدًا، وأريد أن تعدني وعدًا. قال حبًا وكرامة. قال سنكبر ونتزوج، وعندما يرزقنا الله بالذرية الصالحة، أحب إذا أنجبت بنتًا أن أزوجها لابنك، وإذا أنجبت ولدًا أن أزوجه لابنتك. ضحك سعيد وقال: وإذا أنجبنا بنتين أو ولدين ماذا نفعل؟ قال مسعد سيرزقنا الله بغيرهما وأحب أن أصاهرك لتصبح رابطة الصداقة رابطة نسب وقرب. وتواعدا علي ذلك، وبالفعل تزوجا وأنجب مسعد فتاة أسماها أمل، وأنجب سعيد ولدًا أسماه رأفت. وأخذ الطفلان يكبران بالقرب من بعضهما البعض مثلما كان أبواهما، وكان رأفت يحب أن يأخذ بيد أمل ويظل يدور بها من الصباح إلي المساء، تلعب معه ألعاب الأولاد ويلعب معها ومع صديقاتها ألعاب البنات، وكان مسعد وسعيد مسرورين ويضحكان من حب الطفلين، وبعد سنوات كبرت أمل وخرطها خراط البنات، وأصبحت مثل البدر في تمامه، وكأن الله خلقها كما أرادت، كما قال الشاعر: كما اشتهت خُلقتْ حتي إذا اعتدلت في قالب الحسن لا طول ولا قصرُ كأنها خُلقت من ماء لؤلؤة في كل جارحةٍ من حسنها قمرُ ولم يكن رأفت أقل حسنًا وبهاءً، إذا رآه القمر يغار. معتدل القد باسم بغمازتين علي الخد، وكان ظريفًا حلو اللسان يعرف كيف يكون الضحك وكيف يكون الجد، وكأن أبو نواس كان يصفه عندما قال: إنّي صرفتُ الهوَي إلي قمَرِ لا يتحدّي العُيونَ بالنّظَرِ إذا تأمّلتَهُ تعاظَمَكَ الإ قْرَارُ في أنّهُ من البَشَرِ ثم يعودُ الإنكارُ معرفةً منكَ إذا قستَه إلي الصورِ مُباحةٌ ساحةُ القلوبِ لهُ يأخذُ منْها أطايِبَ الثّمرِ وكلما كانا يكبران يتعلق أحدهما بالآخر أكثر، وكان الأهل يباركون هذا الحب، وينتظرون اليوم الذي يتمان تعليمهما ويحلمان بيوم زفافهما. وأنجب سعيد أخًا لرأفت أسماه فريد، أما مسعد فرزق بأربعة من الإناث، لأنه كان يبحث عن الولد وعندما ولدت الخامسة، توقف عن المحاولة وتكاثفت عليه هموم أسرته التي كبرت، فصارح صديقه برغبته في السفر إلي الخارج، وقال إن هناك فرصة سفر أمامه كي يستطيع إطعام عياله، قال له سأفتقدك يا صديقي، ولكن هكذا شاءت الظروف، وتمني له التوفيق، وذكره بقول الشاعر: تغرب عن الأوطان في طلب العلا وسافر ففي الأسفار خمس فوائد تفريج هم واكتساب معيشة وعلم وأدب وصحبة ماجد وإن قيل في الأسفار غم وكربةُ وتشتيت شمل وارتكاب شدائد فموت الفتي خيرٌ له من حياته بدار هوان بين واش وحاسد وتوكل مسعد علي الله وسافر إلي أحد بلاد الخليج، وقاسي من الغربة وانعدام الأمان، لكنه كان سعيدًا بقدرته علي توفير احتياجات بناته، وكن يتقدمن في الدراسة رغم غيابه، حتي تخرجت أمل في كلية الطب، لكن رأفت أفسده الدلال، ولم يتزحزح عن الثانوية العامة خطوة، وهرب من البلاد بزعم السياحة، وذهب إلي إيطاليا، وعمل كل الأعمال التي يعمل بها الشباب عندما يسافرون. جمع القمامة، وغسل الصحون، وعندما ترقي أصبح في بار جرسون. وأما ما حدث بينهما فحكاية عجيبة، لو كتبت بالإبر علي آماق البصر لكانت عبرة لمن يعتبر. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.