فلما كانت الليلة الرابعة والثلاثون.. قالت شهرزاد، فإن الفتي يا مولاي لما دخل الفيللا وأحس بالرهبة من فخامة المفروشات تخلي عن حذائه وسار حافيًا وراء عروسه المليحة، ثم إنه حاول أن يلاطفها، لكنها رفضت وقالت: ليس قبل أن تقص علي حكايتك من أولها إلي آخرها. قال يا ملاكي أري في عينيك هلاكي، اعفني من هذه النظرة المرتابة فأنا لست إنسان الغابة، قالت: إذًا قل لي أي إنسان أنت، ومن أين أتيت؟ قال لها لست أدري، وأنشد من شعر إيليا أبي ماضي: قد سألت البحر يوما هل أنا يا بحر منكا؟ هل صحيح ما رواه بعضهم عني وعنكا؟ أم تري ما زعموا زوار وبهتانا وإفكا؟ ضحكت أمواجه مني وقالت لست أدري! أنا يا سيدتي ابن النيل الوقور، أو هكذا تقول خادمتك أم الشعور، وبالمناسبة هي أمي التي لا أعرف غيرها. في ليلة من الليالي وكانت عائدة من الشغل مهدودة، أرادت أن تشم الهواء قبل أن تعود إلي حارتها المسدودة. وجلست علي شاطيء النيل، وكانت الليلة مظلمة بلا قمر أو حتي ضوء قنديل. وإذ هي علي تلك الحال أخذتها غفوة فأرادت أن تريح جسمها، ومدت ساقها فشعرت بشيء طري تحتها، ثم سمعت الشيء الطري يبكي، ففزعت ولمت رجلها، لكن البكاء كان يرتفع ويصم أذنها، فقامت وتحسست قطعة اللحم المصرورة في منديل، ولم تكن سوي ذلك الطفل الجميل، الذي يقف بين يديك يا مدموزيل. وبسط يديه في حركة استعراض، كما يفعل الممثلون الأوغاد. لكنها لم تستجب لرغبته في المزاح، وأشارت إليه ليكمل الحكاية وفي عينيها ألف سؤال وألف غواية. قال: حسب حكاية أم الشعور فإنها أخذتني ومن البرد دثرتني، وقالت هو رزق أرسله الله لي، وأسمتني "رزق" وكانت متزوجة من خمس سنوات ولم يرزقها الله ببنين أو بنات، واشترت معزة مرضعة من أجل إرضاعي. واحتفظت بالجدي الصغير حتي كبرت وعرفت أخي في الرضاعة. وظلت العروس علي حالة العبوس، لا تستجيب للمزاح، وهي تشعر علي صدرها حجر لا يريد أن ينزاح، قالت له: وكيف احتلت معها هذه الحيلة لتتزوجني علي غش؟ قال قبل الحيلة لا بد أن تعرفي شيئًا عن أيامي النيلة؛ فبعد أن تبنتني أم الشعور أربعة أعوام وبضعة شهور، لم أعد ابنها الحيلة. حملت دون علاج، وفرحت وفرح زوجها المرحوم بفتاة أسمياها نجوم، ولا أدعي أنهما أساءا معاملتي، أو فرقا بيني وبين ابنتهما الحقيقية، لكن الأيام لا تدوم علي حال كما قال المعري: المَرْءُ رَهْنُ مَصَائِبٍ لا تَنْقَضِي حَتي يُوَارَي جِسْمُهُ في رَمْسِهِ فَمُؤجَّلٌ يَلقَي الرّدي في أهلِهِ وَمُعَجَّلٌ يَلقَي الرّدي في نَفسِهِ مات أبي بالتبني، وحزنت عليه حزنًا شديدًا. وكان علي أم الشعور أن تضاعف عملها لتعولنا، وأنا أشعر بثقل عبئي عليها، وكنت أحاول أن أثبت لها أنني أستحق تضحياتها وأجتهد في دراستي حتي تخرجت في كلية الحقوق، ومضت سنوات لا أجد عملاً أرد به الجميل للمرأة التي ربتني، أو حتي أحمل عنها هم نفسي، وأصبت بالاكتئاب، ووجدت أن الطريقة الأسهل هي الانسحاب. قررت أن أنتحر وأخلص نفسي من الهوان والعجز، وقلت أنا من النيل وإلي النيل أعود، ومضيت في منتصف ليلة ظلماء لألقي بنفسي في الماء، وإذا بصياد يقفز من مركبه وينقذني. وبعد أن أخرجني إلي الشاطيء أخذ يوبخني. وهو يضرب كفًا بكف، متعجبًا لأنه علي ثلاثة أيام متتالية يخرج ليبحث عن رزقه من الأسماك فيأتيه رزقه بشرًا. قلت له من قال لك أن تتدخل فيما لا يعنيك وتصطاد مالا يرضيك؟ أنا أردت الفرار من هذه الدنيا للنار، فلما سمع كلامي رق لحالي وقال قم يا ابني وكل ليل لابد له من نهار. وقمت وانصرفت برهبة ولم أقو من بعد علي معاودة القرار، رغم أنني لم أر النهار، ولم أر من فقري أو يأسي فرار. وذات يوم كنت ألعب في موبايل أم الشعور، فرأيت صورك، وسحرني وجهك البنور، فتغير حالي من المرار إلي السرور، وكأن صفي الدين الحلي كان يقصدني عندما قال: كيفَ الضلالُ وصبحُ وجهكَ مشرقُ وشَذاكَ في الأكوانِ مِسكٌ يَعبَقُ يا مَن إذا سَفَرتْ مَحاسنُ وجهِه ظلتْ به حدقُ الخلائقِ تحدقُ أوضحتَ عذري في هواكَ بواضحٍ ماءُ الحيا بأديمهِ يترقرقُ فإذا العذولُ رأي جمالكَ قال لي: عَجَباً لقَلبِكَ كيفَ لا يَتمَزّقُ لقد تمزق قلبي يا سيدتي، ولكنه ليس تمزق اليائس، وأفضيت بسري إلي أمي، أم الشعور، فعملت معي هذا المعروف وأنا منك مكسوف، لكنني أحبك ولن أعيش من بعدك، فماذا تقولين، يا حبيبتي فأنت بيدك موتي وحياتي، فجذبته إليها، واحتضنته بيديها وعينيها، وغابا عن الوجدان. قالت دنيا زاد: ما أحسن حديثك يا أخت وأعذبه! قالت فأين ذلك مما أحدثكم به الجمعة القادمة إذا الملك أبقاني، ولم يذبحني ذبح داعش للرهينة الياباني. وأدركها الصباح فسكتت عن الكلام المباح.