نلف نلف ونرجع إلي نقطة البداية, نبتكر ونبدع ونعود من حيث بدأنا, نطور ونغير ونفتكس ثم نجد أننا لم نفعل شيئا. كم من حديث نسمعه, وندوة نعقدها, ومؤتمر ننظمه وتقرير نرفعه, ودراسة نمولها, ومركز نؤسسه, ومقر نجدده بغرض تطوير التعليم وتجويد الأداء وتخريج أجيال جديدة من أمل مصر علي قدر من التعليم الجيد يواجهون به الحياة بشكل أفضل. عقود طويلة مضت ونحن نقلب في السحلب. فهذا مركز تطوير المناهج الذي تم الصرف عليه شيء وشويات علي مدي سنوات طويلة وقد انسحبت أخباره ولقاءاته ومؤتمراته وإنجازاته من صفحات التعليم والتطوير إلي صفحات الأكشن والإثارة. وحتي هذه اللحظة مازال الموقع الالكتروني لوزارة التربية والتعليم يحفل بقوائم انجازات تطوير المناهج المدرسية. ومنها علي سبيل المثال لا الحصر, نجاح الوزارة في دمج المفاهيم والقضايا المعاصرة في المناهج المدرسية, حيث تم دمج21 مفهوما وقضية عالمية ومعاصرة في المناهج, منها حقوق الانسان حقوق المرأة ومنع التمييز ضدها حقوق الطفل ومقاومة أعمال الأطفال الوعي القانوني الوعي الضريبي ترشيد الاستهلاك التربية من أجل المواطنة الديمقراطية القانون الدولي الانساني وغيرها. كما تم تشكيل لجنة الحكماء لوضع أسس تقييم وتطوير مناهج مرحلة التعليم الثانوي وبعضوية أساتذة خبراء في المواد العلمية والأدبية والعلوم التربوية يعدون أفضل الأساتذة في مصر. ولسنوات طويلة تم تزيين الصورة وكأن ما تم عمله في مجال التطوير والتحديث والتجويد أقرب ما يكون إلي المعجزات. كله تمام فعملية مراجعة المناهج مستمرة لا كلل فيها أو ملل, والمفاهيم والقضايا المعاصرة يتم دمجها وتحديثها بطريقة فعالة, والتكنولوجيا الحديثة باتت جزءا لا يتجزأ من العملية التعليمية المدرسية, والعمل جار علي قدم وساق لتخفيف الأحمال الثقيلة والهموم العتيدة الملقاة علي كواهل الطلاب والطالبات والمعروفة باسم الحشو الفارغ للمناهج الدراسية. أما توجه المناهج, فهو قد صار مخاطبا سوق العمل, وملبيا احتياجات الألفية الثالثة بكل معاييرها ومقاييسها. وبمعني آخر, فإنه ليس في الإمكان أبدع مما هو حاصل الآن. ورغم أن الرؤية بالعين المجردة, والخبرة الشخصية من خلال ليالي المذاكرة مع الأولاد, وكلاكيع التجهيز لأيام الامتحانات, وزوابع الحصول علي الدرجات والتقييمات كلها كانت تشير إلي عكس ذلك تماما. ولكن رغم كل شيء, فقد كان الكثيرون يغمضون أعينهم عن كل تلك الحقائق الواضحة وضوح الشمس. فليس من المعقول أن تضحك علينا الحكومة, وتقول لنا أن التعليم زي الفل, في حين أننا نراه زي الفجل. وليس من الوارد أن يخبيء المسئولون علينا حجم التدهور الحادث في مستوي الطلاب الذين يحرزون مجاميع تضاهي تلك التي كان يحرزها أينشتين وفولتير, ثم نأتي نحن ونقول إن الأولاد لا يعرفون الفرق بين الألف وكوز الذرة. وليس من المعقول أن تبذل الحكومة كل هذا الجهد الذي تتحدث عنه لمكافحة مافيا الدروس الخصوصية وعصابات المراكز التعليمية, ونيجي إحنا وندعي عليها ظلما وزورا وعدوانا أن الدروس الخصوصية صارت هي القاعدة وعدم وجودها هو الاستثناء. الحقيقة المرة وسارت الأمور علي هذه الحال, حتي أيام قليلة مضت حين بدأت الحقيقة المرة تتبدي أمام أعيننا. فلا التعليم جيد, ولا المناهج فتاكة, ولا الطلاب فاهمون حاجة, ولا حتي القائمون علي أمر تطوير المناهج وتحديثها قاموا بعملهم. ليس هذا فقط, بل ان مباني المدارس ليست مطابقة للمواصفات, والمعدات في حال وجودها غير صالحة للاستخدام, والمدرسون غير موجودين, والطلاب مزوغون, ومنظومة التعليم ومن قبلها التربية في موقف حيص بيص. والكل يتابع صولات وزير التربية والتعليم الدكتور أحمد زكي بدر في تعقب المخالفين, وإيقاف الفاسدين, ومعاقبة المخطئين وجولاته في القيام بنفسه بهذه المطاردات التي تستنزف بالطبع جانبا كبيرا من وقته وجهده. ورغم أن مثل هذه التحركات تستحق التحية البالغة للوزير الذي قرر أن يتكبد عناء تعقب المخطئين بنفسه, علهم يكونون عبرة لأمثالهم, إلا أننا نشفق علي الوزير من أن تستنزف هذه الانشطة وقته الذي نطمح أن يكون الجانب الأكبر منه مخصصا للبحث الحقيقي في عملية التطوير التي طال انتظارها والعمل الفعلي علي الارتقاء بالجودة التي فقدنا الأمل في تحقيقها والآن وقد اتضحت الحقيقة وهي ان ما كان يقال من قبل حول الارتقاء بالعملية التعليمية يشوبه الكثير من عدم الصحة وقلة الدقة ان لم يكن انعدامها تماما فقد حان الوقت للنظر الي ما تقدمه مصر لابنائها من تعليم. 14 سنة خدمة ماذا يتعلم ابناؤنا في المدارس؟ وما المحصلة النهائية التي يخرج بها الطالب بعد انتهاء العام الدراسي؟ وما حجم الفائدة التي تعود عليه فعليا من المناهج التي افني في صمها14 سنة من الخدمة؟ هذا بالنسبة لمن عاصروا الصف السادس الابتدائي بالاضافة الي عامين كي جي وان, وكي جي تو, ونشيل منها عاما لمن عاصروا المرحلة الابتدائية وهي خمس سنوات فقط وهل بالفعل يكتسب ابناؤنا مهارات وملكات ويتم صقل مواهبهم وقدراتهم الخاصة التي يظهرونها؟ ام نه يتم وأدها وكبتها وخنقها منعا لوجع الدماغ وحتي يتمكن المدرس من ان يدخل الفصل ويقول الكلمتين ويخلص؟ اسئلة كثيرة تطرح نفسها, لاسيما في ضوء التقرير الذي اجده مزعجا جدا لما ورد فيه من حقائق واقعية نعرفها جميعا, لكننا كنا نغمض عيوننا عنها حتي لا نصاب بالاكتئاب وحتي لا يعترينا الشعور بقلة الحيلة وانعدام القدرة علي تغيير الوضع المزري فالتقرير الصادر عن لجنة القيم في وزارة الدولة للاسرة والسكان قبل ايام جاء اشبه بدش المياه الباردة الذي قد يفيق النائمين في العسل. فقد اتضح ان كله ليس تماما ولا حاجة وان كتب التاريخ لا تركز الا علي سير الحكام وان حكاية المواطنة والانتماء ومفهوم الواجبات والحقوق تكاد تكون غير موجودة ورغم تضمين الكثير من المناهج مفاهيم خاصة بحقوق الاطفال, الا انها تخلو تماما من اي ذكر لنصوص تلك الحقوق في قانون الطفل. المواطنة ليست جرجس. ورغم اشادة التقرير بتضمن منهج الدراسات الاجتماعية للصف الخامس الابتدائي درسا عن الاثار القبطية, واشادته كذلك بالجملة اليتيمة التي وردت في منهج الصف السادس الابتدائي عن الوحدة الوطنية وهي ان الشعب كله ثار في ثورة1919 مسلمين ومسيحيين ضد الاحتلال البريطاني, الا انني شخصيا اري ان حكاية كتابة عبارات مثل وحدة صفي الامة واندماج قطبي الوطن و تماسك لحمة البلد ويحيا الهلال مع الصليب وغيرها من العبارات الدرامية لا تجد اذانا مصغية لدي الصغار, فهم وإن كانوا صغارا, لكنهم ليسوا اغبياء ولا تافهين ولا يسهل الضحك عليهم وخداعهم, بل هم اكثر ذكاء منا بمراحل فكيف ألقن الصغير في المدرسة بان مصر شعب واحد بمسلميه ومسيحييه, ثم يعود الي البيت لتوبخه امه انه لعب مع مينا لو كان هو مصطفي او انه اكل من سندوتش احمد لو كان هو بيتر؟! فتعليم اسس المواطنة, وزرع مباديء احترام الاخر لا تأتي بالجمل التي لا تتنفس هواء خارج وريقات الكتاب ودرجات الكراسة, وهي لا تنتقل من مرحلة التلقين الي التنفيذ الا عمليا. واعود الي لب الموضوع. وضع التعليم المدرسي كارثي. والكارثة الاكبر هي ان نعمل نفسنا مش واخدين بالنا نحن في حاجة ماسة الي اعادة صياغة التعليم برمته من جذوره, وليس البناء علي الجذور الموجودة حاليا, لانها لا تصلح الا للتقطيع علي طبق السلاطة السؤال هو من اين نبدأ؟! اعتراف لابد منه وبما انني أتكلم عن التعليم, فأنا مدينة للجميع باعتراف فقد كانت فترة طفولتي ومراهقتي في زمن كان فيه الدرس الخصوصي اشبه بالكلمة الشائنة التي تعرض صاحبها للمساءلة. فهو اما عيل خيبان لا ينتبه للشرح في الفصل, ومن ثم يحتاج الي شرح مواز. او هو عيل فسدان, يعتمد علي جيب بابا المتخم في تمويل عملية التعليم الموازية, او هو عيل غبي يعجز عن فهم الشرح في الفصل. ومن ثم كانت فضيحة لو تم اكتشاف خضوع بنت من بنات المدرسة لحكاية الدرس الخصوصي تلك, وكانت القلة التي تلجأ الي هذه الطريقة تلجأ اليها في الخفاء خوفا من القيل والقال. وافخر بانني اجتزت كل السنوات الدراسية دون درس خصوصي واحد, بل كنت ضمن ال30 الاوائل علي الجمهورية في امتحان الثانوية العامة, وهو ما رسخ لدي القناعة بان الدرس الخصوصي انما هو رجس من عمل الشيطان وموبقة من موبقات الزمان. ولان بقاء الحال علي ما هو عليه امر شبه مستحيل, ان لم يكن هو المستحيل بشحمه ولحمه, فقد كنت اعتقد انني سأربي اولادي علي ما تربيت عليه. فطالما هم ملتحقون بمدرسة ذات مستوي جيد, وطالما لدي وزوجي القدرة علي مساعدتهم في دروسهم تظل مسألة الدروس الخصوصية في دائرة الممنوع والمكروه. الا ان ما حدث قلب الدنيا رأسا علي عقب فقد ثبت ان نظام التعليم يساعد علي تدهور العلاقة بين الاهل والابناء فالنظام عقيم, والمحتوي سيئ, والمنظومة تنقصها حلقات عدة. وكانت النتيجة ان الصراع اليومي من اجل اجبار الابناء علي الالتصاق بكراسي المكاتب بغرض صم وحفظ ما في المناهج من عقد وكلاكيع واساليب تناول سخيفة وسطحية حتي للمعلومات التي تتسم بالطرافة والتشويق ادي الي تدهور مستمر في العلاقة بيننا كقوة متسلطة متحكمة في منابع الترفيه ومصادر الانبساط وبينهم كمواقع مصب لرغبات الآباء والامهات الذين تعتريهم فوبيا التفاخر بان الابناء احرزوا نسبة102% و104% وغيرها من طرف الفشخرة والمنظرة التعليمية, والتي غالبا ما تسفر عن خريجي جامعات ينضمون الي جحافل العاطلين واشباه العاطلين الحاملين لشهادات عليا خاوية من أي قدرات او ملكات مناسبة لخوض سوق العمل. وكان القرار الحاسم الذي طالما قاومناه, الا وهو تحويل الابناء من النظام الدراسي المصري الي نظام الديبلوما الامريكية فإما هذا او الوقوع المدوي والمزري في براثن اباطرة الدروس ودورات اللف علي مراكز الدروس الخصوصية والحق يقال ان هذا القرار انقذ علاقتنا بالابناء فالنظام فيه قدر كبير من احترام آدمية الطلاب, وتشجيع لقدرتهم علي الإبداع, وتحفيز لملكاتهم الفردية, بالاضافة الي عدم اغفال الجانب الترفيهي الذي لا يخلو من فوائد تربوية وتعليمية. والسؤال هو الا نمتلك القدرة علي اعادة صياغة نظام تعليمي مدرسي يخرج لنا افرادا واثقين من انفسهم, قادرين علي الابداع دون خوف او قهر, ولديهم من الثقة والقدرة ما يؤهلهم لأن يكونوا اضافات جديدة في المجتمع, وليس مجرد اضافات عددية, لان العدد ليس بالضرورة في الليمون.