الساحة المصرية في وقتنا الراهن لا تسر عدوا ولا حبيبا. أضحت نسيجا باليا مهلهلا تملؤه الثقوب. بتنا شخوصا باهتة يفترس بعضها بعضا بصورة قد لا توجد وسط حياة الغاب. الكل يتقاتل ويتصارع ويمسك بتلابيب الآخر بمصاحبة قاموس طويل من السباب المقذع والردح الحياني الذي يخدش الحياء. وما أسهل إلصاق تهم الخيانة والعمالة بالآخرين. انفلت العيار كما يقولون لتصبح الفوضي والغوغائية هي السمة الغالبة علينا ويصبح صاحب الحنجرة الأقوي هو البطل والزعيم الذي يري نفسه صاحب الرأي الصائب والفكر المستنير.! هذا في مجال الأقوال أما عن مجال الأفعال فحدث ولا حرج. هناك الضرب والمعارك وتكسير العظام والكر والفر بمصاحبة الطوب والمولوتوف والشماريخ والبلي والخرطوش والاسلحة البيضاء والرصاص الحي. تلك الاشياء التي عرفناها أخيرا وهي تصيب وتحصد للأسف عشرات ومئات البشر من بني ملتنا. فضلا عن ممارسات السلب والنهب والبلطجة وترويع الآخرين وتخريب الممتلكات العامة والخاصة التي تتم بدم بارد وفي وضح النهار دون وجل أو خوف! أما شاشات الفضائيات فتتباري في تقديم آراء من هنا وهناك طوال الاربع والعشرين ساعة لأناس اطلقوا عليهم لفظ النخبة من جميع الفصائل المتناحرة علي الساحة يصبون جم غضبهم علي آخرين ويرد الآخرون عليهم في موجة طويلة لا تنتهي من الاستعلاء والسخرية والاستهزاء وهكذا دواليك حتي مطلع الشمس لتبدأ دورة جديدة من العراك وسط حملات طويلة من المهاترات، وبتنا نسمع مصطلحات غريبة كالاستحواذ والمغالبة والتخوين والعملاء والفلول. حالة من الفوضي الاعلامية تصيب المرء بالغثيان وتجعله حائرا تائها لا يقدر علي التفكير السليم لجسامة التشويش الذي يتعرض له. أما الشارع المصري الذي كان يوما ينعم بالهدوء والأمن والأمان فقد تحول بقدرة قادر إلي ساحات للفوضي والانفلات والحرب والتظاهر والمطالب الفئوية وغير الفئوية ومليونية هنا وأخري هناك وكأن الميادين والشوارع لم تخلق الا لتجمع الحشود البشرية التي تقطع الطريق أمام المارة وتعطل مصالح البشر ناهيك عن كل الأعمال اللا أخلاقية التي طغت علي الساحة وأبرزها التحرش بنسائنا وبناتنا! هذه للأسف الشديد هي صورة مجتمعنا المصري اليوم الذي طالما تغنينا بأمنه وآمانه. فبعد أن كنا نسيجا واحدا متجانسا تسوده روح الألفة والحب والتعاون والايثار أصبحنا فريقين وربما عدة فرق نشك ونشكك في بعضنا لضياع الثقة لتصبح الفوضي هي شعارنا حسبما تنبأت بذلك (الحاجة) كوندي أو كوندليزا رايس منذ سنوات حين بشرتنا بالفوضي الخلاقة والشرق الأوسط الجديد.! ما نحن فيه يا سادة هو طمس متعمد وضياع كامل منظم للشخصية المصرية لو استمر بنا الحال علي ذلك. لأن مصر مستهدفة من قوي عديدة شرقا وغربا، وهناك المتربصون بنا من كل جانب الذين يحرصون علي اذلال مصر صاحبة السبعة آلاف عام من الحضارة والرقي وصاحبة التاريخ والجغرافيا كما قال عمنا جمال حمدان واذلال شعبها صاحب الريادة في كل المجالات وصاحب الأفضال العديدة التي قدمها للجميع بسخاء علي مدي تاريخه. لست أعرف بالضبط ماذا أصابنا.! ولم أكن أتصور في يوم من الأيام أن ينتشر بيننا الحقد والغل والكراهية إلي هذا الحد الذي نهدم فيه البناء فوق رؤوسنا جميعا والذي ندمر فيه الأخضر واليابس علي أرض مصر. ضرب من الجنون لا محالة. وراجعوا معي حالة النشوة والسعادة التي يكون عليها الدهماء والموتورون وهم يلقون حجارتهم وزجاجات المولوتوف علي الممتلكات العامة والخاصة وعلي أشخاص هم أخوة لهم في الوطن.! وما منظر صبية البلطجية وهم يتراقصون بعد إلقائهم النار علي المجمع العلمي العريق ببعيد عن الأذهان.! للعقلاء منا أقول اتقوا الله ألف مرة في بلدكم مصر حتي ننقذ المركب من الغرق قبل أن تبتلعها أمواج التيه والضياع. كفانا فرقة وتباعدا وانقساما وكفانا ما حل بنا من خراب علي مدي الشهور الماضية وليحاول كل منا العمل قدر الامكان علي لم الشمل بدلا من هذا المسلك المشين الذي يوجع القلوب ويدميها. اتمني أن ننحي مصالحنا وأهواءنا الشخصية جانبا لنعلي مصلحة مصر فوق كل اعتبار. فنحن جميعا إلي زوال بينما مصر هي الأبقي. أكاد أجزم أن أمنا الصابرة مصر مصدومة ومكلومة مما نفعله بها بسبب جهلنا وغبائنا وأنانيتنا. وربما ألمح دموعها الحارة وهي تجلس حزينة منطوية تكفكف دمعها حسرة وكمدا علي ما آل إليه حالها وحالنا. فمعذرة وألف معذرة لك يا مصر علي ما اقترفناه في حقك من ذنوب وخطايا. وليعينك المولي جل وعلا علي أن تنهضي من تلك الكبوة القاسية التي سببناها لك لتبقي يا مصر قوية عزيزة مصانة كما عرفتك عصور التاريخ. ولعل عمنا الجميل حافظ بك ابراهيم شاعر النيل كان يقصدنا حين قال: نحن نجتاز موقفا تعثر الآراء فيه وعثرة الرأي تردي.