صبيحة يوم18 فبراير عام1978 تناقلت الأنباء خبر اغتيال أديب مصر الكبير يوسف السباعي.. مات الرجل واقفا في بهو أحد فنادق نيقوسيا عاصمة قبرص.. تماما كأشجار نخيل مصر الباسقة علي ضفاف الوادي.. تلقي الرجل رصاصات فلسطينية غادرة وحاقدة ومستهترة وهو الذي عاش حياته مدافعا بقوة عن أبناء فلسطين وشرعية حقهم في الوجود والحياة. تلقيت الخبر بوجوم عبر جهاز ر اديو ترانزستور صغير وكنت وقتها ضابطا احتياطيا بقوات حرس الحدود بمدينة رأس غارب بالبحر الأحمر.. انهمرت دموعي بحرارة علي فقد هذا الرجل النبيل رقيق المشاعر وأسرعت الي صديقي الرائد عماد الصفتي ضابط مجموعة الصاعقة الموجودة معنا بنفس المكان وزميل الدراسة بالمدرسة السعيدية الثانوية.. جلسنا في وجوم ونحن نضرب كفا بكف دون أن نجد أي معني أو مغزي لهذا العمل الخسيس الذي نال من أديب مصر الكبير يوسف السباعي.. ومن تدابير القدر أن عماد الصفتي استشهد في اليوم التالي حين جاءته الأوامر بالذهاب ضمن مجموعة من رجال الصاعقة الي مطار لارناكا القبرصي للقبض علي القتلة وتخليص الرهائن الذين احتجزوهم داخل طائرة بغية الخروج من قبرص فأصابته الرصاصات ليسقط شهيدا علي أرض المطار! *** في هذا الوقت ارتسمت في ذهني علامات استفهام كبيرة وكثيرة وتساءلت لماذا تنتهي حياة يوسف السباعي علي هذا النحو..؟ لو كانوا عرفوا يوسف السباعي أو اقتربوا منه لشلت أيديهم قبل أن تمتد الي هذا الأديب والمفكر الكبير الذي أسعد الملايين بأفكاره وارائه وكتاباته القيمة التي أثرت المكتبة العربية. وحين نتحدث عن يوسف السباعي نذكر له بكل التقدير والاعزاز رد قلبي بين الأطلال اني راحلة فديتك ياليلي أطياف نائب عزرائيل أرض النفاق السقا مات العمر لحظة ليالي ودموع البحث عن جسد نحن لانزرع الشوك جفت الدموع العمر لحظة ليل له آخر ابتسامة علي شفتيه أقوي من الزمن وغيرها كثير مما أضاف الكثير للمكتبة العربية. ونذكر ليوسف السباعي الذي ولد في10 يونيو عام1917 وتخرج في الكلية الحربية ضابطا بسلاح الفرسان ثم مدرسا لمادة التاريخ العسكري بالكلية الحربية أنه أسهم في انشاء نادي القصة واتحاد الكتاب وجمعية الأدباء والمجلس الأعلي لرعاية الفنون والآداب ورأس تحرير مجلة الرسالة الجديدة منذ صدو رها الجديد عام1953 ورأس تحرير مجلة آخر ساعة وعمل رئيسا لمجلس ادارة دار الهلال ووزيرا للثقافة والاعلام ورئيسا لمجلس ادارة تحرير الأهرام ونقيبا للصحفيين وسكرتيرا عاما للجنة التضامن الأفروآسيوية التي استشهد أثناء رئاسته لجلساتها بقبرص دفاعا عن قضية فلسطين! ويوسف السباعي لمن لايعرفه كان كتلة متحركة من الرقة والعذوبة والتواضع ودماثة الخلق و كانت ابتسامته الصافية أول مايقابل بها الجميع صغارا وكبارا علي السواء وقد عاش حياته في كل المناصب التي تبوأها مدافعا عن الأدب العربي وقضاياه وحاميا لكل الأدباء والمفكرين والفنانين مهما اختلفت مشاربهم.. ولم يحدث أن حابي السلطة أو النظام علي حسابهم بل العكس هو الصحيح حيث كان يصر علي اعلاء شأنهم وتحقيق الكثير من الانجازات لهم في هذا المضمار.. ولعل ذكاءه ودبلوماسيته قد حققت الكثير في هذا المجال. *** أذكر أنني التقيت يوسف السباعي للمرة الأولي عام1968 وكنت وقتها طالبا بكلية دار العلوم.. ذهبت اليه ضمن مجموعة من محبي الفكر والأدب لحضور ندواته ولقاءاته العامرة مساء كل أربعاء بدار الأوبرا بشارع قصر العيني.. وبالمناسبة كلما مررت علي المكان الذي أصبح خرابا أترحم علي أيام يوسف السباعي.. حين سلمت عليه للمرة الأولي ظللت صامتا لبرهة وأنا أتأمله بابتسامته الهادئة وأناقته ونقاء سريرته, ولاأخفي ان كما كبيرا من السعادة شملني حين اقتربت من هذا الرجل الشامخ الذي قضيت الساعات تلو الساعات ملتهما سطوره وكتاباته عبر انتاجه الوفير والغزير أرهفت السمع باهتمام لكلمات يوسف السباعي من خلال ندوات الدار وجلست معه مرارا بمكتبه بالدور العلوي استمد منه الرأي والمشورة.. وكلما ازدادت اللقاءات ازددت يقينا أن انتاجه الأدبي الذي يفيض رقة وعذوبة ومشاعر صادقة و رومانسية مفرطة ماهو الا صورة صادقة لمشاعر هذا الانسان الجميل الذي أثري حياتنا الأدبية المعاصرة وأن يوسف السباعي حين يكتب انما ينقل صورة صادقة لكل ماتختلج به نفسه من مشاعر وأحاسيس. *** ذات مساء كنا نقف علي سلم دار الأدباء انتظارا لقدوم يوسف السباعي ليرأس ندوة حوارية مع الأديب الكبير يحيي حقي انتاجه الأدبي. وكان ضمن المجموعة كاتب شاب غريب الأطوار ذو فكر يساري كثيرا ماكان يهاجم يوسف السباعي مع زملائه حيث أنهم خارجون لتوهم من المعتقل.. وتناسوا ان يوسف السباعي بذل جهدا كبير ا للتوسط لدي الرئيس عبد الناصر للافراج عنهم في ذلك الوقت كان يوسف السباعي يرأس تحرير مجلة آخر ساعة وكان يقدم مقالته الافتتاحية بعبارة شهيرة هي كلما قابلتك لاأجد ماأهتف به علي شفتي سوي أهلا. مرت لحظات وتوقفت سيارة السباعي امام الدار لينزل منها بأناقته المعتادة وابتسامته الهادئة فاذا بهذا الشخص يندفع نحوه قائلا: يوسف بك.. يوسف بك. مد له يده قائلا: أهلا يافلان رد الآخر عليه: كلما قابلتك لاأجد ماأهتف به علي شفتي سوي..... ونطق لفظا معيبا جارحا..! أذكر أن الأرض دارت بي وأنا أشهد هذا الموقف المباغت, وتعلقت عيناي بيوسف السباعي لأري رد الفعل المباشر له لهذه الاساءة أو الاهانة التي ألقيت في وجهه! فاذا بالسباعي يضحك من الأعماق كما يقولون ويضع يده علي كتف هذا الشخص متسائلا: ايه يافلان.. أنت زعلان مني ولا ايه..؟ فرد عليه الآخر في صلف وغرور: طبعا زعلان.. أنتم تعيشون في فيلات وقصور وتركبون أفخر السيارات وتأكلون مالذ وطاب ونحن لانجد شيئا. فقال السباعي: أنت محتاج حاجة.. عايز فلوس..؟ فرد الآخر في استفزاز: عايز خمسين جنيها. فنظر يوسف السباعي الي سكرتيره حسين رزق قائلا: ياحسين اعط فلانا مائة جنيه ونظر للآخر قائلا: أرجوك.. لما تكون عايز مني حاجة تعالي وانت هاديء. رحم الله يوسف السباعي شهيد الأدب والفكر والفن والرومانسية.