في مثل هذا الشهر عام1978 اغتيل يوسف السباعي في قبرص, حيث كان يرأس اجتماعا للجنة التنفيذية لحركة تضامن الشعوب الإفريقية الآسيوية, وكان المجرمون الذين اغتالوه ينتمون الي إحدي المنظمات الفلسطينية. وكان ذنب يوسف السباعي أنه كان ضمن رجال الصحافة الذين صاحبوا الرئيس أنور السادات في رحلته التاريخية الي القدس. ومن مهازل القدر أن اجتماع قبرص كان بغرض تأييد القضية الفلسطينية, وهي قضية تبناها يوسف السباعي, سواء في حركة التضامن الافريقي الآسيوي, أو في حركة كتاب آسيا وإفريقيا, أو في كتاباته الصحفية, لقد اغتال الفلسطينيون أكبر مدافع عن قضيتهم, ومازلت أذكر جنازة يوسف السباعي التي تحولت الي مظاهرة ضد الفلسطينيين وضد القضية الفلسطينية, فيوسف السياعي لم يكن مجرد شخصية رفيعة ذات مكانة رسمية, ولكنه كان أيضا محبوبا من جانب الجماهير, محبوبا كشخصية لم تفعل إلا الخير لمن يعرفهم ومن لا يعرفهم, شخصية أسعدتهم بما كتب من قصص وروايات ومسرحيات, أسعدتهم بابتسامته الدائمة التي كانت تقدم مقالاته في الأهرام وفي الجرائد والمجلات الأخري. وقد أعادت لي هذه المناسبة ذكريات سنوات ماضية لا أريد أن أذكر عددها, فهي ذكريات عمر بدأ شابا في العشرينيات وانتهي في سن السبعينيات, خمسون عاما علي الأقل هي علاقتي وصداقتي وعملي مع يوسف السباعي, وكما يقول الانجليز دعونا نبدأ من البداية, كانت البداية في الثلاثينيات من القرن العشرين حين كانت أسرتي وعميدها عبدالحميد حمدي, أستاذ العلوم, وأسرة طه السباعي( قبل أن يصبح باشا ووزيرا) نسكن في نفس العمارة في روض الفرج التي كانت في ذلك الوقت مقر اقامة أصحاب المهن من الطبقة المتوسطة من مهندسين وأطباء ومدرسين, طه السباعي هو عم يوسف, وأذكر أن كان له في نفس سني ابنة تزوجت بعد ذلك من يوسف السباعي وابن اسماعيل الذي أصبح من كبار الاخصائيين في جراحة السرطان, كان يوسف السباعي يزور عمه من وقت لآخر وكنا نناديه دائما أبيه يوسف كما جري العرف في ذلك الوقت لاحترام من هم أكبر منك سنا, ولي ذكريات لطيفة لتلك الفترة قد أكتب عنها حين أخط سيرة حياتي. ثم مضت سنون, بل عشرات من السنين ومضي كل منا الي غايته, وسافرت الي لندن عام1945 لأعمل سكرتيرا للمعهد المصري ثم ملحقا ثقافيا, وفي تلك الفترة التي استمرت12 عاما كنت أصدر مجلة باللغة الانجليزية تعبر عن أحوال مصر وكان من ضمن ما نشرته ترجمات لقصص مصرية قصيرة بقلم كتابنا في ذلك الوقت, وكان منهم يوسف السباعي, ولعل البعض لا يعرف أن يوسف السباعي, بالإضافة الي رواياته ومسرحياته كان يكتب القصة القصيرة وكانت له مجموعة بالذات امتازت بروح الفكاهة وأذكر أنني كنت أقرأ في تلك المجموعة وأضحك بصوت عال واعتقدت زوجتي أنه أصابني الجنون فشرحت لها فكاهة يوسف السباعي فشاركتني في الضحك. وبعد12 عاما في لندن عدت الي مصر لأدرس في كلية المعلمين ولكن يوسف السباعي اتصل بي وطلب مني العمل معه في المجلس الأعلي للفنون والآداب الذي أسسته حكومة الثورة, وعين يوسف السباعي أمينا عاما له, وفعلا استطاع أن ينقلني من الكلية الي المجلس وكان تابعا لرئاسة الجمهورية, واني أذكر ما قيل في ذلك الوقت من أن المجلس هو محاولة لحكومة الثورة في احتواء العمل الأدبي والفني, وكان هناك في ذلك الوقت ما أطلق عليه مندوب الثورة في الوزارات المختلفة بما فيها وزارة الخارجية, ولكن يوسف السباعي أثبت أنه ليس مندوب الثورة بين الكتاب, بل ممثل الكتاب والفنانين لدي حكومة الثورة, كان المجلس مكونا من كبار الكتاب مثل طه حسين والعقاد والمازني وحسين مؤنس ومندور وغيرهم ومن كبار الفنانين, وبمعني آخر كان أهل الأدب والفن هم المسئولين عن تسيير نشاطاتهم وكان ذلك قبل انشاء وزارة الثقافة, وقد استطاع المجلس أن يحقق الكثير من المكاسب ومنها تكوين اتحاد الكتاب والفرع المصري للقلم الدولي ومشروع الكتاب الأول, وينظم ندوات للشعر والقصة, لقد كان للمجلس الذي كان من حظي المشاركة فيه نشاطات عديدة, لعل أهمها هو اعفاء الأعمال الأدبية بما فيها الترجمة من الضرائب ولعل مصر هي الدولة الوحيدة التي يتمتع فيها الأدباء بهذا الاعفاء. كنت بجوار يوسف السباعي في كل هذه المكاتب وارتبطت حياتي المهنية به حتي اغتياله, ولم تكن علاقتي به مجرد علاقة مهنية, بل قد تمت بيننا صداقة أعتز بها وأنظر إليها علي أنها أعمق وأقوي صداقة كسبتها في حياتي, لقد جعلني يوسف السباعي توأم روحه في كل ما حققه, وعندما عقد أول مؤتمر لتضامن الشعوب الإفريقية الآسيوية في القاهرة في ديسمبر1957 كان رئيسه أنور السادات وكان في ذلك الوقت أمين عام المؤتمر الإسلامي, وكان يوسف السباعي أمين عام مؤتمر التضامن واختارني نائبا له, وكانت حركة تضامن الشعوب الإفريقية الآسيوية فرصة لنا للسفر الي بلاد لم نكن نتخيل أن نزورها, لقد زرنا معا, يوسف السباعي وأنا, الصين واليابان وماليزيا وإندونيسيا وسنغافورة والهند ومنغوليا, كما زرنا معا غانا وغينيا وتنزانيا وعقدنا اجتماعات عند جبل كلمنجارو, وكانت ذكريات في كل هذه البلاد, ذكريات أصبحت جزءا من حياتي وأصبحت مسجون هذه الذكريات. ولعل من أهم ما حققه يوسف السباعي, وأنا معه, كان في نطاق حركة كتاب آسيا وإفريقيا, إذ بعد نجاح مؤتمر التضامن خرجت منه حركات متعددة للشباب والمرأة والاقتصاد والقانون, ولكن لعل أهمها كانت حركة الكتاب, لقد عقد أول مؤتمر لكتاب آسيا وإفريقيا في طشقند في ديسمبر1958, وكان وفد مصر برئاسة د. خلف الله أحمد وعضوية عدد من كتابنا منهم عبدالرحمن الشرقاوي وعائشة عبدالرحمن وسهير القلماوي وعبدالعاطي جلال وكنت أنا عضوا وسكرتيرا للوفد. وكان من قرارات المؤتمر إنشاء مكتب دائم لكتاب آسيا وإفريقيا وتقرر مكانه في كولومبو عاصمة سيلان( سريلانكا الآن) وتم اختياري مندوبا لمصر في ذلك المكتب, وحين عقد المؤتمر الثاني في القاهرة عام1962 تقرر نقل التمكتب الي القاهرة وانتخب يوسف السباعي أمينا عاما للمكتب واختارني نائبا له. وبدأ المكتب نشاطا مكثفا, استطعنا أن نتصل بعدد من كتاب آسيا وإفريقيا وكانت الصعوبة في كتاب إفريقيا الذين كان الاستعمار يقيدهم في الفن ولكن استطعنا فعلا أن نصل إليهم وعرفنا العديد من كتابهم, ثنوايتسي من نيجيريا وألكس لاجوما من جنوب افريقيا وماريو داندرادي وغيرهم, ونشرنا لهؤلاء الكتاب والشعراء في مجلة لوتس التي كنا نصدرها باللغات العربية والفرنسية والانجليزية والتي تعتبر بحق كنزا أدبيا لا نظير له للأدبين الإفريقي والآسيوي, وكان يوسف السباعي هو رئيس تحرير المجلة واختارني نائبا لرئيس التحرير حتي عينت عام1969 مستشارا ثقافيا في بولندا وتشيكوسلوفاكيا وألمانيا الشرقية وأخذ مكاني الصديق الراحل عبدالعزيز صادق والروائي الكبير ادوارد الخراط. وهكذا تسرح الذكريات حتي نصل الي آخر مقابلة لي مع يوسف السباعي وكان ذلك في اليوم الذي كان يستعد فيه للسفر الي قبرص لحضور اجتماع اللجنة التنفيذية, وكنت في ذلك الوقت تحت العلاج في المستشفي العسكري بالمعادي وزارني يوسف السباعي ومازلت أذكر كلماته: هذه المرة الأولي يا مرسي لا تصحبني في رحلتي فقلت له: يوسف بك( هكذا كنا نناديه) هذا اجتماع غير مهم ولا داعي لسفرك, فرد:مهم لأنه يناقش قضية فلسطين, وهما كلهم يومين وأعود, وسافر ولكنه لم يعد.