قائمة شهداء الواجب والشرف والشجاعة تحوي الكثير من أسماء الرجال الأوفياء الذين قدموا أرواحهم فداء لمصر, وسطروا بدمائهم الذكية أحرفا من نور في سجل الخالدين. وسط هؤلاء الرجال الأبطال يأتي اسم الشهيد عماد الصفتي رائد الصاعقة الذي استشهد في أعقاب زيارة الرئيس الراحل أنور السادات الي القدس...وجاء استشهاده علي أرض مطار لارناكا القبرصي. كان عماد رحمه الله واحدا من أصدقاء مرحلة الصبا وبدايات الشباب, وكان شقيقه الأصغر سعد الصفتي زميلا لي بمدرسة ابي الهول الاعدادية بالجيزة...وبالمناسبة خال الاثنين هو الأديب والناقد الكبير الدكتور علي الراعي...كان عماد وسعيد من رفاق الشلة المتحابة شلة جيل أبناء ثورة يوليو... كنا نلتقي كل مساء في ركننا المعتاد علي ترعة الزمر بأول شارع الهرم امام مسجد سيدي نصر الدين...كان من الرفاق حسن سعيد وعادل الجارحي وصلاح ويسري مبروك وآخرون اضافة الي البطل الشهيد طيار طلال محمد سعد الله...كانت فترة الستينيات من القرن الماضي هي فترتنا الذهبية, فنحن النبت الأخضر الذي تطلعت عيناه علي الدنيا مع بدايات ثورة يوليو وارتوينا في كل لحظات حياتنا برحيق الفداء والوطنية والحب المجرد لأمنا الغالية مصر. أنهيت دراستي الجامعية بكلية دار العلوم وجندت عام1976 كضابط احتياط بقوات حرس الحدود, وتخرجت في كلية الضبا ط الاحتياطي ملازما ثم ملازم اول بهذا السلاح الجميل الذي أكن له كل اعزاز وتقدير وأحمل له كما هائلا من الذكريات سيظل محفورا في الوجدان...ولمن لايعرف أقول ان سلاح حرس الحدود بقواتنا المسلحة هو بالفعل مدرسة عريقة تغرس في المرء ضابطا كان أم جنديا كل معاني الجلد والرجولة الحقة وتحمل المشاق حيث يتواجد رجال هذا السلاح دائما علي جميع أرجاء حدود مصر شرقا وغربا وشمالا وجنوبا لتأمينها من أي أخطار تتربص بها..ويعيش هؤلاء الرجال في ظروف قد تكون بالغة القسوة مما يلزمهم الانتباه واليقظة وسرعة التصرف لانهم يحملون أمانة شرف الدفاع عن تراب مصر...وهاهو حادث رفح الأخير يثبت بجلاء مايلاقيه رجال حرس الحدود من أخطار, وقد وقع الحادث بنفس الفوج الذي أديت فيه خدمتي العسكرية. ذهبت عقب تخرجي في كلية الضبا ط الاحتياط الي مدينة رأس غارب بالبحر الاحمر للالتحاق بوحدتي العسكرية..وهناك التقيت مصادفة بالرائد عماد الصفتي أحد رجال مجموعة الصاعقة الموجودة معنا بنفس المكان علي خليج السويس...التقينا بالاحضان وكانت مصادفة سعيدة أن يجمعنا القدر من جديد...تلازمنا معا في أوقات الراحة عقب انتهاء الأعمال اليومية...كنا نسهر كل ليلة اما عنده أو عندي لتدور بيننا أحاديث الذكريات...كم سهرنا وضحكنا من الأعماق لتلقائية حسن سعيد ودعابات عادل الجارحي ومقالب صلاح مبروك...كان الحوار عن الشلة لاينفض...وكان طلال سعد الله المرح البشوش دائما حاضرا معنا في الحديث ونحن نسترجع الذكريات معه ونستعيد كلماته ومواقفه وعمله البطولي الشجاع الذي قدمه لمصر مسجلا اسمه بحروف من نور علي صفحات سجل شهدائها الابرار...كان طلال رحمه الله ساهرا معنا في ليلته الأخيرة التي ذهب بعدها لاداء مهمته...وكان في قمة سعادته وتفاؤله وكانت ضحكاته الصاخبة تملأ المكان. أثناء تلك الأيام فاجأنا الرئيس السادات كما فاجأ العالم بزيارته الشهيرة للقدس... وقع الزيارة علينا كرجال قوات مسلحة كان رهيبا... اشتد خوفنا علي الرجل وهو يهبط علي سلم الطائرة... جلسنا متجاورين في ميس الضباط نحبس أنفاسنا... كنا نضغط علي المقاعد والطاولات الموضوعة أمامنا في حركات لا إرادية... كانت قلوبنا معه بالفعل وهو يمد يده مسلما علي من نسهر الليالي في فيافي مصر لحمايتها منهم ومن غدرهم...! وقع الزيارة كان مفاجئا وكان تفكيرنا وقتها عاجزا عن الاستيعاب.. مرت بنا فترات طويلة من الصمت... كان المرء يروح ويجيء صامتا ومندهشا وهو يسرح في مجموعة من الأفكار المتلاطمة محاولا فهم مغزي ما يدور خصوصا ونحن جيل الثورة الذي عاني ويعاني الكثير والذي قدم أبناؤه العديد من التضحيات وقد رأينا بأعيننا أحداث56 و67 و73. توالت الأحداث بعد ذلك في سرعة متلاحقة وكم كانت الدهشة تبدو واضحة في أعين الجنود ونحن أمامهم في طابور الصباح... كان الجنود ينظرون دائما إلي جهة الشرق من خليج السويس حيث سيناءالمحتلة وهم يفكرون فيما يمكن أن يحمله الغد القريب. توالت الأحداث بعد ذلك وجاء سفر الأديب الكبير يوسف السباعي إلي قبرص لرئاسة المؤتمر الافرو أسيوي لمناصرة شعب فلسطين في قضيته العادلة وحقه في الحياة وكان هذا الأمر الشغل الشاغل ليوسف السباعي الذي طالما دافع عن أبناء فلسطين منذ حارب علي أرضها عام1948 وهو ضابط بالقوات المسلحة. ويوسف السباعيرحمه الله رمز كبير من رموزنا الأدبية والفكرية وصاحب رصيد كبير من الابداع الأدبي والفني اثري به الأدب والمكتبة العربية. وعلي الجانب الانساني كان السباعي كتلة كبيرة من المشاعر المرهفة المتحركة وكان هادئا متواضعا دمث الخلق إلي حد كبير... وقد اسعدني الحظ بلقائه عدة مرات أيام الجامعة وقت ان كان يرأس دار الأدباء واتحاد الكتاب ونادي القصة محدثا مزيدا من الدفء والحياة في كل المجالات الأدبية والثقافية... سافر يوسف السباعي إلي قبرص دفاعا عن فلسطين وأثناء حضوره أعمال المؤتمر إذ بثلاثة من أفراد إحدي الفصائل الفلسطينية يقابلونه بوابل من الرصاص في بهو الفندق الذي يشهد أعمال المؤتمر... سقط يوسف السباعي شهيدا بأيد فلسطينية وآخر كلماته كانت دفاعا عن فلسطين..! في تلك الليلة جلست مع عماد الصفتي غير مصدقين ما حدث... لماذا فعلوا ذلك مع الرجل؟ لماذا.. لماذا... لكن لا إجابة... بكينا علي تلك النهاية المأساوية لرمز من رموز الرومانسية في أدبنا العربي... رويت لعماد كيف كان السباعي بسيطا متواضعا وكيف كان حاميا لكل الأدباء والمفكرين... وكيف كان في كل المناصب التي تولاها عونا لكل صاحب فكر أو موهبة... بل ورويت له مزيدا من الذكريات أيام كنا نلتقي به وهو يرأس ندوات دار الأدباء العامرة مساء كل أربعاء... ما لفت نظري في تلك الليلة أن عماد كان شارد الذهن وكأنه يهيم في واد بعيد وكانت ابتسامته خافتة لا تفارق شفتيه. صبيحة اليوم التالي ذهبت إلي عماد... لم أجده ضمن أفراد مجموعته... أخبروني انه سافر في مهمة إلي قبرص مع عدة أفراد من رجال المجموعة حيث صدرت لهم الأوامر بالذهاب إلي مطار لارناكا بقبرص لتخليص الرهائن الذين احتجزهم القتلة بغية الخروج من قبرص... وهناك دارت المعركة وسقط عماد الصفتي شهيدا رحم الله عماد الصفتي رائد الصاعقة الذي انضم إلي صفوف شهداء الواجب.