أمام مسجد سيدي نصر الدين بأول الهرم يقع شارع طلال محمد سعد الله "ترعة الزمر سابقا". منذ أيام كنت سائرا بهذا الشارع. وقعت عيناي علي اللافتة التي تحمل اسم الشارع. توقفت أمامها في إجلال وخشوع وأنا أحدق في حروفها مليا. اقترب مني أحدهم محاولا مساعدتي. ربما تبادر إلي ذهنه اني أحاول فك الخط! سرحت بخاطري إلي سنوات عديدة مضت. إلي فترة الستينيات من القرن الماضي حين كنا طلابا بالمدرسة السعيدية الثانوية. كنا مفعمين بروح الأمل، وكنا نشعر علي الدوام بمزيد من الثقة والزهو والافتخار. فنحن جيل ثورة يوليو الذي طالما تغني بأمجادها. كانت أحلامنا في مجملها وردية مجنحة ترتفع إلي عنان السماء بينما حياتنا وسلوكياتنا بسيطة متواضعة. كنا مجموعة من الأصدقاء نجلس مساء كل يوم علي سور ترعة الزمر التي كانت مياهها تجري في سلاسة. كانت المجموعة تضم حسن سعيد وصلاح مبروك وعادل الجارحي وسعيد الصفتي وأخاه عماد الصفتي رائد الصاعقة فيما بعد الذي استشهد في مطار لارناكا بقبرص عشية اغتيال الشهيد يوسف السباعي. وكان طلال محمد سعد الله واحدا من "الشلة". كنا نضحك ونتسامر كل ليلة ونردد أغاني عبدالحليم التي تربينا عليها وخصوصا أغاني الثورة. بلدي يا بلدي. المسئولية يا أهلا بالمعارك. يا حبايب بالسلامة. بالاحضان. ذات ليلة وغيرها من تلك الروائع التي شكلت وجداننا. كنا وقتها نتقاسم ساندويتشات الفول والطعمية وحبات الترمس والذرة المشوي وأكواب حمص الشام التي يقدمها لنا عم شافعي صديقنا والواقف بعربته الأنيقة إلي جوارنا. في تلك الآونة حدثت نكسة 67. عشناها في البداية ونحن نهلل لانتصاراتنا الساحقة ثم فجأة نزلنا علي جدور رقابنا كما يقولون. لقد عشنا قبلها ليال طويلة ونحن نتابع الدبابات والمصفحات وعربات المدافع التي تنزل من منطقة الهرم ودهشور وبني يوسف متجهة إلي محطة الجيزة لكي ترفع علي القطارات ذهابا إلي سيناء. كان شارع الهرم يمنع فيه المرور ليلا ليصبح طريقا عسكريا وكانت الجنازير قوية جدا لدرجة انها نزعت الاسفلت وقطع الدبش ليبقي الشارع علي الطين.! صدقوني لقد شعرت وقتها بالشفقة علي اسرائيل وقلت في نفسي لماذا لا يشحنون اليهود في عدة مراكب تعيدهم إلي أوروبا أو إلي البلاد التي جاءوا منها بدلا من هذا الدمار الرهيب الذي سيلحق بهم. ولا جدال ان البوق الاعلامي وقتها كان رهيبا وكانت ملصقات هيئة الاستعلامات علي كل الجدران توضح ضراوة الأتون الذي سنشعله لكي تعود فلسطين. وكالعادة كان صوت عبدالحليم يجلجل اضرب إضرب "ولا يهمك ياريس م الامريكان ياريس". وبدأت المعركة وكنا وقتها نؤدي امتحان الثانوية العامة فأدينا يوم السبت 3 يونيو امتحان اللغة العربية وجاء يوم الاثنين 5 يونيو لتبدأ المعركة في الصباح الباكر. ولا يفوتني أن أذكر ان التمهيد للمعركة بدأ بحكاية التهديد بضرب سوريا من قبل اسرائيل ثم طلب مصر رحيل قوات الطواريء الدولية من منطقة مضايق تيران والسيطرة علي مدخل خليج العقبة. ثم المؤتمر الصحفي العالمي الذي أعلنا فيه اننا سنضرب اسرائيل ومن وراء اسرائيل و. و. وأن من لا يعجبه عليه أن يشرب من البحر الأحمر واذا لم يكفيه فليشرب من البحر الأبيض. وهذه الاشياء كلها استخدمتها اسرائيل بمكر وخبث شديدين حين صورت للعالم انها تريد السلام بينما العرب علي هذه الحالة الوحشية. وقد صورت هذا كله في فيلم سينمائي أسمته "حرب الأيام الستة" كان ينال تصفيق الأوروبيين حين عرض عليهم بعد أن تم لها هزيمة العرب "المتجبرين" ودحر جيوشهم في سيناء والجولان والضفة الغربية. كانت الاغاني الحماسية تلهب عواطفنا وقتها. دع سمائي فسمائي محرقة. ثوار ثوار. وكان صوت احمد سعيد يدوي في حماس. أسقطنا 17 طائرة للعدو ثم 50 طائرة ثم 150 ثم ثم. وها هي تل ابيب علي بعد 17 كيلو فقط. ابشروا يا عرب. هللوا يا عرب. ثم فجأة سكون تام وحالة غريبة من التعتيم الاعلامي ليخرج علينا خطاب التنحي الشهير! دارت بنا الارض وقتها وأصبنا جميعا بحالة انعدام الوزن وكان الجميع يسيرون في الطرقات مذهولين مطأطي الرؤوس يحاولون فهم مغزي ما حدث. وكان الجميع فاغري الأفواه في دهشة من هول الصدمة. وبالمناسبة فقدت خالي في تلك الأحداث كما فقد كل بيت مصري واحدا من ابنائه الذين أحرقهم أتون "النابالم" علي رمال سيناء. المهم ان الكلية الجوية اعلنت عن قبول دفعات استثنائية. كنا قد حصلنا علي الثانوية العامة فتقدمنا جميعا واجتزنا الاختبارات. كان كل منا يحرص علي المشاركة في معارك رد الشرف لمصر. لكن طلال محمد سعد الله كان اسعدنا حظا. لم يتم قبولنا لاننا لم نحقق درجة 6/6 شارب في اختبارات البصر بينما نجح هو واصبح طلال طالبا بالكلية الجوية فاحتفلنا به احتفالا كبيرا. ثم تخرج وتدرج حتي وصل إلي رتبة النقيب. كنا نلتقي بطلال في كل اجازة يحصل عليها وكنا نسهر كعادتنا علي سور ترعة الزمر. وكان كعادته دائما يفيض مرحا وبشرا. وكان يشعر بالزهو وهو يروي لنا حكايات تدريباته الشاقة وطيرانه فوق السهول والوديان ومياه البحر الابيض ومزايا طائرات الميج 17و23.21 والسوخوي.و.و كنا وقتها ندرك ان قلوبنا جميعا معه استعدادا لمعركة رد الشرف والأخذ بالثأر وجاءت ليلة كان طلال سيسافر إلي وحدته بعدها في الصباح الباكر. كان طلال سعيدا ومتفائلا إلي أقصي الحدود. وكانت ضحكاته المجلجلة تملأ المكان. وبالمناسبة طلال كان انيقا ووسميا جدا. ألح الجميع عليه عدة مرات ان يذهب إلي بيته القريب منا لكي يستريح لكن كان مصرا علي البقاء ليسمعنا مزيدا من دعاباته. وفي تمام الثانية صباحا تركنا طلال بعد أن احتضن كلا منا طويلا في مشهد غريب.! صدقوني. لقد تعلقت عيناي بطلال في رحلة عودته وكل منا ذاهب إلي بيته. وقتها تأملت من بعيد وفي داخلي معاني غامضة يعجز المرء عن ادراك كنهها. بعد يومين بالضبط نزلت علينا الأخبار كالصاعقة. أصبنا جميعا بالشلل التام. وتحجرت الدموع في المآقي لفترة طويلة ثم انهمرت في غزارة خصوصا ونحن نستعيد لقاءنا "الأخير" معه. طار طلال في سرب مكون من 3 طائرات وكان قائدا للسرب. عبروا خليج السويس حسبما تحدد لهم في مهمتهم القتالية. تغلغلوا في عمق سيناء في منطقة عيون موسي وضربوا المواقع المحددة لهم. مناطق شئون ادارية للعدو واماكن رادار ومدفعية ونقاط استطلاع. احدثوا مزيدا من الدمار لان ضرباتهم كانت موجعة وقاسية، وحين استداروا ثلاثتهم طريق العودة "حسب رواية زميليه" انطلقت قذائف العدو عليهم لتصيب طائرة طلال. اشتعلت النيران في طائرته فألح عليه زميلاه ان يقفز بالمظلة اسيرا لدي الاعداء، وهذا القفز لن يستغرق سوي ثوان معدودة. لكن ابدا لم يفعل. فسار فوق خليج السويس والنيران تتأجج في طائرته. أحس في تلك اللحظات الفاصلة أنه لن يتمكن من الوصول إلي مواقعنا.فجأة قرر العودة إلي سيناء فاستدار بطائرته حتي وصل إلي تلك المواقع التي دمرها ليندفع بطائرته المشتعلة في أعماقها محدثا مزيدا من الدمار. هذا هو طلال محمد سعد الله الذي بكينا بحرقة لرحيله والذي بكاه معنا كل سكان حي العمرانية وكل ابناء مصر. رحم الله شهيد الواجب الطيار طلال محمد سعد الله.