بسرعة غير متوقعة تدهور الموقف وكأن السودان وجنوبه يسيران في مخطط مرسوم لتفتيت وتقسيم هذه الدولة الكبيرة والغنية بمواردها إلي عدة دويلات أو ينتهي بها الحال إلي وضع يشبه الحالة الصومالية.. قتال وتشتت وأزمات لاجئين وأمراء حرب بالإضافة إلي تجار ومستفيدين.ولم يكد يمر علي استقلال جنوب السودان عن شماله شهور قليلة حتي دخل الجانبان في حرب تتجه لتصبح شاملة ضمن توتر تتواصل فصوله تحت عنوان اتفاقية نيفاشا للسلام والموقعة عام2005 والتي انهت علي الورق واحدة من أطول الحروب الأهلية في قارة أفريقيا بعد أن تسببت بمقتل مليوني شخص تقريبا بين عامي1983 و2005 ويعد القتال الذي تفجر أخيرا في منطقة هجليج الواقعة علي خط التماس بين البلدين هو الأسوأ منذ أعلن الجنوبيون الانفصال عن السودان في يوليو2011 حيث فقد السودان75% من إنتاج النفط البالغ480 ألف برميل يوميا والذي كان يدر مليارات الدولارات للميزانية السودانية وفي تسارع غريب للأزمة أعلن السودان أن الجنوب دولة عدو وبدأ في حملة تعبوية شاملة. وتضح خطورة الأزمة بالإشارة إلي أن منطقة هجليج بها نصف إنتاج السودان النفطي ويأتي النزاع علي ملكية هذه المنطقة علي خلفية نزاعات أخري حول مقدار الرسوم التي يتعين علي دولة الجنوب التي ليست لديها منافذ بحرية دفعها للشمال مقابل تصدير خامها من البترول عبر أراضي الشمال. وفي يناير2012 أوقف الجنوب انتاجه النفطي بالكامل لمنع الخرطوم من مصادرة بعض نفطه مقابل ما تقول انه رسوم عبور لم تسدد وكانت الخرطوم تأمل أخيرا في زيادة إنتاج حقل هجليج إلي70 ألف برميل يوميا من60 ألف برميل يوميا. وقد طرحت هذه الأزمة أيضا تساؤلات بشأن تعثر ترسيم الحدود التي تمتد لمسافة1800 كيلو متر مع تقسيم الديون ووضع مواطني كل دولة في أراضي البلد الآخر بعد التقسيم الذي بات حقيقة علي الأرض يرفض كثيرون في السودان تصديقها. وسيطر جنوب السودان الأسبوع الماضي علي منطقة هجليج قائلا إنها تابعة له وأنه لن ينسحب إلا إذا نشرت الأممالمتحدة قوة محايدة هناك. وهكذا تنضم هجليج إلي منطقة أبيي الحدودية المتنازع عليها أيضا والتي تشتهر بأراضيها الخصبة للرعي وتنتج بعض النفط. وقد سيطرت الخرطوم علي أبيي في مايو الماضي بعد هجوم جنوبي علي قافلة للجيش مما أدي نزوح عشرات الآلاف من المدنيين وقرر مجلس الأمن نشر قوات حفظ سلام تابعة للأمم المتحدة هناك. عض الأصابع ويرجح أن تتوقف نتيجة القتال الحدودي المتصاعد بين السودان وجنوب السودان علي أي من الاقتصادين المترنحين سينهار أولا وليس علي التفوق العسكري النسبي لأي منهما. وم هبوب رياح التغيير علي العالم العربي والثورات المتجددة في أكثر من بلد يراهن الجنوبيون علي أن يلقي البشير الذي يرأس السودان منذ انقلاب1989 نفس مصير زعيمي مصر وليبيا. ويقولون أنه لو استطاع الجنوب الصمود بضعة أشهر أخري فمن المؤكد أن يطيح الشعب السوداني بنظامه ويستبدل به آخر أكثر قبولا لمطالب الجنوبيين. في مقابل ذلك تراهن الخرطوم علي إفلاس الجنوبي الذي يعاني بالفعل من تمرد داخلي مع انتشار الفقر واحتمال الدخول في حالة فوضي لا يمكن السيطرة عليها. في هذا السياق تجب الإشارة إلي أن الخرطوم تقاتل متمردين علي ثلاث جبهات في دارفور في الغرب وولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق الحدوديتين وربما تكون جنوب السودان تراهن علي جبهة جديدة. ألغام نيفاشا ولا يستطيع المتابع لحالة التفتت والتشرذم والانتقام من حرب إلي أخري في السودان أن يتجاهل بذور الشقاق والألغام التي وضعت بين سطور اتفاقية نيفاشا التي انهت الحرب الأهلية علي الورق فقط. وقد بدت حلقة نيفاشا هي الأبرز في خطة التقسيم التي اعتمدها الاستعمار البريطاني مبكرا بعد أن لعب بذكاء علي عوامل التمايزات القبلية والعرقية لتتفجر حرب استمرت نحو خمسين عاما بين الشمال والجنوب فيما عرف بأطول الحروب في القارة الأفريقية قاطبة. وقد تم تحديد مسار الاستقلال في اتفاق السلام الشامل عام2005 الذي وقعته الحركة الشعبية لتحرير السودان والحكومة السودانية ومهد الاتفاق الطريق لإجراء استفتاء صوت فيه مواطنو جنوب السودان لمصلحة الاستقلال والانفصال عن الخرطوم بأغلبية ساحقة بلغت98%. في25 سبتمبر2003 وقع وفد الحكومة السودانية برئاسة علي عثمان محمد طه النائب الأول للرئيس عمر حسن البشير ووفد الحركة الشعبية لتحرير السودان برئاسة جون قرنق بمنتجع نيفاشا الكيني اتفاقا بشأن الترتيبات العسكرية خلال المرحلة الانتقالية وفي عام2005 وقعت حكومة البشير اتفاق سلام وتقاسم الثورات بين الشمال والجنوب الذي حظي بحكم ذاتي. يتحمل نظام الرئيس عمر البشير المسئولية الكاملة وفق محللين كثيرين عما جري حيث عايش وأشرف علي الحقب الأخيرة من الحرب بين الشمال والجنوب ووقع وأقر اتفاقية السلام التي تضمنت النص علي استفتاء تقرير المصير للجنوب مع بذور شقاق وخلافات أخري قد تسمح بمزيد من التفتت خاصة فيما يعرف بولايات التماس الأكثر سخونة بين الشمال والجنوب وهي جنو كردفان والنيل الأزرق وأبيي. ولا يكن أن تكتمل الصورة دون أن تظهر إسرائيل التي كانت أول من اعترف بالدولة الوليدة فضلا عن علاقات وثيقة سابقة بقادة الانفصال وتدعيم ذلك بمشروعات أبرزها السدود علي النيل في اطر العبث بأمن دول المنطقة وعلي رأسها مصر. البقية تأتي وتتضمن اتفاقية نيفاشا التي وقعها نظام البشير العديد من المفخخات التي أنذرت باحتمال تفجر صراع جديد في ولايات التماس وتحديدا في جنوب كردفان والنيل الأزرق. ويبدو مصير هذه المناطق الثلاث مرهونا بمدي قدرة نظام البشير علي الصمود في وجه الضغوط الدولية المتزايدة وهو أمر بات مشكوكا فيه خاصة أن البشير مطلوب لمحكمة الجنايات الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب في دارفور بغرب السودان وهو ساحة الصراع الثاني الأبرز الذي طبع مسيرة البشير السياسية والعسكرية. أما دارفور التي دخلت علي الخط منذ فترة طويلة فتبقي هي الأخري علي صفيح ساخن خاصة أنها قريبة من الناحية الجغرافية لجنوب كردفان التي يري الجنوبيون أنهم أحق بها. وفي جانب آخر من الصورة تظهر مناطق جبال النوبة بجنوب كردفان حيث يتخوف بعض أهالي تلك المناطق الذين انخرطوا في صفوف الحركة الشعبية لتحرير السودان في أثناء الحرب من عدم تلبية المشورة لطموحاتهم وسط أحاديث عن العودة لحمل السلاح ومطالب بتقرير المصير علي غرار الجنوب وتجاوز مفهوم وآلية المشورة. ويري هؤلاء أن اتفاقية السلام خيبت آمالهم ويرون أن عشرين عاما مما يسمونه الموت المجاني وماتابعها من دمار للبنية التحتية كانت عاقبتها مصيرا مجهولا, وتلقي دعوات تقرير مصير هذه المناطق قبولا في بعض الدوائر الدولية لكنها تتحفظ ربما علي توقيت تفجير مزيد من الأزمات.. مسئولية البشير في الرابع من مارس2009 أصبح البشير ثالث رئيس دولة تصدر المحكمة الجنائية الدولية مذكرة اعتقال بحقه بعد رئيس ليبيريا السابق تشارلز تايلر والرئيس السابق ليوجوسلافيا سلوبودان ميلوسوفيتش. ويتهم البشير بأنه يسعي لتقديم كل ما يستطيع من تنازلات للإفلات من ملاحقات الجنائية الدولية حتي لو كان ذلك علي حساب وحدة السودان وصولا إلي انفصال الجنوب وربما التضحية مستقبلا بولايات التماس وهي جنوب كردفان والنيل الأزرق وأبيي. وقد كان سعي البشير لاسترداد العطف الدولي والأمريكي واضحا عندما أكمل مسيرة تنازلات بحضور حفل الانفصال ومشاهدة علم دولة جنوب السودان وهو يرفرف بعد إنزال علم السودان الموحد ووقف البشير يخطب في الجماهير المختلفة بعد أن أخذ دوره في الكلمة ليناشد الولاياتالمتحدة الوفاء بتعهداتها. ويبدو أن البشير لم يدرك ولم يفهم طبيعة السياسة الأمريكية التي ربما تلعب به وبالسودان حتي النهاية ليحقق لواشنطن وكل الأطراف الدولية الراغبة بتفتيت السودان كل ما تريد وربما تتحقق النهاية التي رسمتها له من البداية وبدأت ملامحها بمذكرة الاعتقال الدولية لكن بعد أن يؤدي الدور المطلوب منه بكل إتقان.