بعد منتصف ليل السبت قبل الماضي التاسع من يوليو2011 فقدت جمهورية السودان نحو624 ألف كيلومتر مربع من مساحتها التي كانت تبلغ2589000 كيلومتر مربع. كما فقدت ثلاثة أرباع احتياطيات النفط الواقعة في الجنوب وتواجه المستقبل بحركات متمردة في دارفور وإقليم جنوب كردفان, والنيل الأزرق, وأبيي. كلمة السر وبداية السقوط الحقيقي في فخ الانفصال هي نيفاشا, تلك الاتفاقية المسماة اتفاقية السلام التي أنهت أطول الحروب في القارة الإفريقية, تاركة وراءها وبين نصوصها التأسيس لمزيد من المواجهات والوصفات المجانية لحروب قادمة, قد تهدد السودان بمزيد من التفتت. وقد بلغ قطار اتفاقية نيفاشا للسلام بين شمال السودان وجنوبه آخر المحطات يوم السبت قبل الماضي, بإعلان انفصال دولة الجنوب لتصبح دولة مستقلة, تضع معطيات جديدة في عالم الجغرافيا السياسية, ارتبطت ولاتزال بتداخل لافت في المصالح الإقليمية والدولية, وانتهت بكارثة التقسيم. وتبدو حلقة نيفاشا هي الأبرز في خطة التقسيم التي اعتمدها الاستعمار البريطاني مبكرا بعد أن لعب ببراعة علي عوامل التمايزات القبلية والعرقية, لتتفجر حرب استمرت نحو خمسين عاما بين الشمال والجنوب, فيما عرف بأطول الحروب في القارة الإفريقية. وقد تم تحديد مسار الاستقلال في اتفاق السلام الشامل عام2005 الذي وقعته الحركة الشعبية لتحرير السودان والحكومة السودانية, ومهد الاتفاق الطريق لإجراء استفتاء في يناير الماضي صوت فيه مواطنو جنوب السودان لمصلحة الاستقلال والانفصال عن الخرطوم بأغلبية ساحقة بلغت98%. في25 سبتمبر2003 وقع وفد الحكومة السودانية برئاسة علي عثمان محمد طه النائب الأول للرئيس عمر حسن البشير ووفد الحركة الشعبية لتحرير السودان برئاسة جون قرنق بمنتجع نيفاشا الكيني اتفاقا بشأن الترتيبات العسكرية خلال المرحلة الانتقالية. وفي عام2005 وقعت حكومة البشير اتفاق سلام وتقاسم ثروات بين الشمال والجنوب الذي حظي بحكم ذاتي. ويتحمل نظام الرئيس عمر البشير المسئولية الكاملة وفق محللين كثيرين عما جري, حيث عايش وأشرف علي الحقب الأخيرة من الحرب بين الشمال والجنوب, ووقع وأقر اتفاقية السلام التي تضمنت النص علي استفتاء تقرير المصير للجنوب, مع بذور شقاق وخلافات أخري قد تسمح بمزيد من التفتت, خاصة فيما يعرف بولايات التماس الأكثر سخونة بين الشمال والجنوب, وهي جنوب كردفان والنيل الأزرق وأبيي. وفي كل المراحل السابقة كانت تظهر بوضوح ميول البشير وشعاراته المتأثرة بالتيار الإسلامي التي لا تخفي حتي في خطاباته, كما أن الانقلاب الذي قاده في30 يونيو1989 ضد حكومة الصادق المهدي, الذي سمي ثورة الإنقاذ دعمه الإسلاميون, ومنذ ذلك التاريخ وهو رئيس للسوان ورئيس لوزرائه أيضا, حيث تعتبر فترة تحكمه الأطول في تاريخ البلاد. ولا يمكن أن تكتمل ملامح الصورة دون أن تظهر إسرائيل التي كانت من أول من اعترف بالدولة الوليدة, فضلا عن علاقات وثيقة سابقة بقادة الانفصال, وتدعيم ذلك بمشروعات أبرزها السدود علي النيل, في إطار العبث بأمن دول المنطقة وعلي رأسها مصر. البقية تأتي وتتضمن اتفاقية نيفاشا التي وقعها نظام البشير العديد من المفخخات التي تنذر باحتمال تفجر صراع جديد في ولايات التماس, وتحديدا في جنوب كردفان والنيل الأزرق, حيث يتعين حسب الاتفاق إجراء ما يسمي المشورة الشعبية, وهي أخذ رأي سكان هذه المنطقة في اتفاقية السلام, وهل حققت طموحاتهم أم لا, في عملية يعتبرها الجنوبيون تقرير مصير, بينما يراها الشماليون مجرد استفتاء غير ملزم, أما أبيي الغنية بالنفط فقد أحالتها الاتفاقية إلي التحكيم الدولي. ويبدو مصير هذه المناطق الثلاث مرهونا بمدي قدرة نظام البشير علي الصمود في وجه الضغوط الدولية المتزايدة, وهو أمر بات مشكوكا فيه, خاصة أن البشير مطلوب لمحكمة الجنايات الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب في دارفور بغرب السودان, وهو ساحة الصراع الثاني الأبرز الذي طبع مسيرة البشير السياسية والعسكرية. أما دارفور التي دخلت علي الخط منذ فترة طويلة, فتبقي هي الأخري علي صفيح ساخن, خاصة أنها قريبة من الناحية الجغرافية لجنوب كردفان التي يري الجنوبيون أنهم أحق بها. وفي جانب آخر من الصورة تظهر مناطق جبال النوبة بجنوب كردفان, حيث يتخوف بعض أهالي تلك المناطق الذين انخرطوا في صفوف الحركة الشعبية لتحرير السودان في أثناء الحرب, من عدم تلبية المشورة لطموحاتهم وسط أحاديث عن العودة لحمل السلاح, ومطالب بتقرير المصير علي غرار الجنوب, وتجاوز مفهوم وآلية المشورة. ويري هؤلاء أن اتفاقية السلام خيبت آمالهم, ويرون أن عشرين عاما مما يسمونه الموت المجاني وما تبعها من دمار للبنية التحتية,كانت عاقبتها مصيرا مجهولا, وتلقي دعوات تقرير مصير هذه المناطق قبولا في بعض الدوائر الدولية, لكنها تتحفظ ربما علي توقيت تفجير الأزمة, وهو الأمر الذي بات مناسبا إلي حد ما بعد إعلان ميلاد دولة الجنوب رسميا. ولم يبدد الانفصال المخاوف من أي توتر في المستقبل, كما لم يتفق زعماء الشمال والجنوب بعد علي قائمة من القضايا الحساسة, من أهمها ترسيم الحدود بشكل دقيق, وكيفية التعامل مع عائدات النفط التي تعد شريان الحياة في اقتصاد البلدين, وتبقي أنابيب نفط الجنوب التي تمر بالشمال أحد أبرز عوامل التوتر المحتمل. مطلوب للعدالة الدولية وفي الرابع من مارس2009 أصبح البشير ثالث رئيس دولة تصدر المحكمة الجنائية الدولية مذكرة اعتقال بحقه بعد رئيس ليبيريا السابق تشارلز تايلر, والرئيس السابق ليوجسلافيا سلوبودان مليوسوفيتش. ويتهم البشير بأنه يسعي لتقديم كل ما يستطيع من تنازلات للإفلات من ملاحقات الجنائية الدولية حتي لو كان ذلك علي حساب وحدة السودان, وصولا إلي انفصال الجنوب, وربما التضحية مستقبلا بولايات التماس وهي جنوب كردفان, والنيل الأزرق, وأبيي. وقد كان سعي البشير لاستدرار العطف الدولي والأمريكي واضحا عندما أكمل مسيرة تنازلات نيفاشا بحضور حفل الانفصال ومشاهدة علم دولة الجنوب وهو يرفرف بعد إنزال علم السودان الموحد, ووقف البشير يخطب في الجماهير المختلفة بعد أن أخذ دوره في الكلمة, ليناشد الولاياتالمتحدة الوفاء بتعهداتها. ويبدو أن البشير لم يدرك ولم يفهم طبيعة السياسة الأمريكية التي ربما تلعب به وبالسودان حتي النهاية, ليحقق لواشنطن وكل الأطراف الدولية الراغبة بتفتيت السودان, كل ما تريد, وربما تتحقق النهاية التي رسمتها واشنطن له من البداية, وبدأت ملامحها بمذكرة الاعتقال الدولية, لكن بعد أن يؤدي الدور المطلوب منه بكل إتقان.