انتظرت أن أري الجو الريفي المعتاد بداية من اللون الأخضر الذي يعم أرجاء المكان لدرجة لا تستطيع معها عيناك رؤية خط النهاية وأن أجد الفلاحين وسط أراضيهم بصحبة الحيوانات التي تعد جزءا لا يتجزأ من حياتهم.. ولكن ها هي السيارة تدخل إبشواي الملق إحدي قري محافظة الغربية والتي تردد اسمها أخيرا كأحدي أكثر المناطق التي أصابها وباء الحمي القلاعية لنجد أول مشهد يجذبنا هو مصدر الرائحة التي تزكم الأنوف والتي أجبرتنا علي البحث عن مصدر هذه الرائحة لنكتشف أننا نمر بجوار بعض الحيوانات النافقة والتي تخلص منها أصحابها علي الطريق أو بجوار أحد المصارف. أفقنا قليلا من هول المشهد لنبحث عن نظرة ترحيب الفلاحين الجدعان بضيوفهم ولكن دون جدوي فلقد امتعضت الوجوه ليرتسم علي ملامحها الحزن والقهر والبكا ع اللي راح فقررنا تنحية السيارة جانبا والنزول لأول مزرعة قابلتنا علي الطريق حيث كانت أم عصام جالسة أمام العجول المصابة وبجوارها الترمومتر والأدوية و جراكن الفورمالين والفينيك ولكن بدا عليها الحزن الشديد وكانت الدموع قد ملأت عينيها فلقد وصلنا بعد ساعة واحدة من فقدانها لأحد العجول والذي ما أن تذكرته حتي عادت تبكي من جديد قائلة يا بنتي البهايم هنا أغلي من البني آدمين.. لازم ازعل دي ثروتنا اللي عايشين عليها. لم تفلح مواساتنا لها وبنبرة الحزن والبكاء نفسها استكملت حديثها قائلة قسمت المزرعة ما بين مجموعة رحمها ربنا ولسه عايشه ثم أشارت إلي المجموعة الثانية التي وقعت فريسة للوباء اللعين تلك التي كانت تلاحقها بنظراتها طوال الحديث لأنها قد تقع جثة هامدة في لحظة واحدة وبدأت تسرد لنا علامات المرض التي ظهرت علي الحيوانات والتي تبدأ بارتفاع شديد في درجة الحرارة التي قد تصل إلي40, بالإضافة إلي نزول سائل مخاط من الفم ينتهي ب زرقان شديد في اللسان يفقدها القدرة علي تحريكه وذلك رغم استخدامها بخاخا لتنشيط حركة اللسان وبالتالي تفقد شهيتها للطعام, بالإضافة إلي قلة كمية اللبن الذي تنتجه وقد تتطور الإصابة إلي ظهور شقوق علي قدمها أو فوق حلماتها, مما يفقدها القدرة أيضا علي إرضاع صغارها حتي إذا نجت من المرض. ثم طلبت مني الجلوس بالقرب من العجول لمتابعة حالتها ولأخذ قسط من الراحة بعد ساعات متواصلة من الشقاء انتهت بنقل العجل للوحدة البيطرية بعد نفوقه, وتوقعت أن يشهد اليوم حالات نفوق أكثر بسبب برودة الجو لأن الهوا بينقل المرض بسرعه بين البهايم ثم بدأت حديثها عن طرق الرعاية بالحيوانات المصابة حيث تقوم بوضع الأقدام المصابة في محاليل أما الفورمالين والفينيك فتستخدمهما في تنظيف المكان المحيط بهما وما إن بدأت الحديث عن الأدوية حتي تذكرت تكلفتها قائلة الدوا اللي كان ب10 جنيه بقي ب70 و80 مش كفايه البلا اللي احنا فيه كمان بيغلوا علينا, حيث أكدت أن علاج المصابين يتكلف يوميا500 جنيه خاصة الدوا المستورد, وما إن انتهت من حديثها حتي صدقت نبوءة أم عصام حيث اشتدت البرودة و سقطت الأمطار معلنة يوما شتويا قارسا تفوق قسوته قسوة المرض الذي يستمر في حصد ضحايا جدد. وأثناء الحديث جاء زوجها الحاج صلاح العائد من الوحدة البيطرية ومعه ورقة قال إنها محضر إثبات حالة الوفاة في الوحدة وأكد أن العجل الخاص به وعجولا آخري نافقة نقلها أيضا أصحابها في انتظار نقلهم إلي المدفن, ثم تحدث ابنه عصام الفلاح الجامعي الذي تحدث بنبرة غاضبة واصفا الوضع ب شديد السوء موجها كلامه إلي الحكومة قائلا ليه مش بيساعدونا.. فين العلاجات اللي قالوا عليها مستنين ايه لما الباقي يموتوا ؟!, ثم توجه لأحد العجول المصابة ليفتح فمها عنوة لنشاهد سوء الحالة حيث كان لسانها أزرق اللون وعاجزا تماما عن الحركة. ثم انضمت إلينا إلهام الجارة الملاصقة لهم والتي جاءت مسرعة عندما علمت بوجودنا وقبل أي سؤال بادرت بالحديث عن الحالات المصابة لديها قائلة: الحالة كرب في ابشواي.. البهايم كلها تعبانة ودي مصدر رزقنا الوحيد لازم تشوفولنا حل ولازم تعالجوا البهايم العيانة بسرعة قبل ما يروحوا زي اللي راحوا ثم سردت لي ما حدث معها في الوحدة البيطرية عندما ذهبت مطالبة بأدوية لعلاج الحالات المصابة وكان الرد تعالي بكرة.. الأدوية هنوزعها بكرة فقالت لي بنبرة حزن شديدة طب هي البهايم هتستني لبكرة مش يمكن تموت النهارده..!!. انتقلنا بعد ذلك لمزرعة جمال الجخ بصحبة الحاج صلاح الذي أكد لنا أن حالة الحاج جمال أصعب منه بكتير لأن الحصيلة حتي الآن7 حالات نافقة وقد وصلنا إليه ووجدناه يجلس بجوار العجول المريضة وبدأ حديثه بصعوبة حيث بدا وكأنه لا يستطيع الحديث بكلمة وظهرت عليه الحسرة حيث قال7 ماتوا لحد دلوقتي وعارف لسه هيموتوا تاني وأشار إلي إحدي البقرات الجالسة أرضا دي اللي عليها الدور صدقوني اصل لسانها مات ثم فسر قوله متجها إليها ثم فتح فمها قائلا اهو لسانها مات مبيتحركش جوه. ثم تحدث عن حاله قائلا: مات عجول ياما وفي ناس تانية مات عندهم اكتر من العدد اللي عندي.. البلد كلها اتأذت.. مفيش بيت في البلد دي إلا وفيها بهايم ماتت.. مبقاش في حتة ندفن فيها البلد كلها بقت مدافن ليقاطعه يوسف السعدني قائلا: دي المدافن خلصت لدرجة بقوا بيسيبوا الحيوانات مرمية ع الطريق أو يرموها في المصرف. ثم عاود الحاج جمال الحديث ولكن هذه المرة عن ابنه الذي كان يستعد للزواج قائلا كنا هنجوز الواد بالفلوس دي.. كده خلاص ضعنا والجوازة هتنام تاني وتساءلنا طب مفيش تعويضات اتصرفت لكم؟ ليرد الحاج جمال موجها حديثه للجميع متستنوش العوض من الحكومة ده كلام في كلام.. العوض عند الله. ويبدأ حسن عادل طه حديثه عن إجراءات الدفن قائلا: بنعمل ورق.. اصل كل جثة عليها ورقة بختم الوحدة البيطرية, ولكنه انتقل للحديث عن أسباب المرض قائلا انا عايز اعرف سبب الوبا ده ممكن يكون زي ما سمعنا البقر اللي جه من بره ولا تحصينات الطب البيطري هي السبب ولا قضا ربنا خصوصا أنه كان بييجي قبل كده يومين تلاته ويمشي. وأكد عبد الله مخلص أنهم لا يبخلون بوقتهم علي رعاية الحيوانات لدرجة لو تعب حد من عيالنا هنعالج البهايم الأول علي حد قوله مؤكدا أنه لا يوجد علاج محدد ومعروف للحمي القلاعية حيث يقتصر العلاج علي المضادات الحيوية وخافض الحرارة بالإضافة إلي المطهرات إلي جانب علاج جديد مستورد سعره غالي يظهر آثاره علي ملابسهم حيث إنه عبارة عن مطهر يوضع للحالة المصابة, ثم تحدث عن الخسائر التي تلحق بهم بعد كل حالة نفوق مؤكدا أن الحالة لو ماتت هيخسر فوق ال10 آلاف جنيه ولو عاشت وجه يبيعها هتتاخد منه بآلفين جنيه وأضاف أن الاستغلال وصل بهم إلي حد تسعير العلاج علي مزاجهم.. والعلاج اللي كان ب50 وصل200 جنيه لينهي حديثه قائلا وممكن بعد كل المصاريف دي تلاقي البقرة جثة قدامك ولا تقدر تعمل حاجه ويعوض عليك ربنا بقي في اللي صرفته وفي تمنها هي كمان. جاءت إلينا سيدة مسنة وقطعت حديث الرجال قائلة: لو بتصوروا قوليلهم يا بنتي ان الحال وقف دلوقتي في ابشواي, انا لسه جايه من مصر كنت بجيب فلوس لابني.. ليقاطعها الرجال في نفس واحد كلنا كده فلوسنا ضاعت وحالتنا بقت كرب بس محدش حاسس بالمصيبة اللي احنا فيها ليعلو صوت أحدهم بس ياريت تقدروا تخلوا الحكومة تعمل حاجه وتقولوا كلامنا زي ما قولناه بالظبط. ومازالت حالة الحداد مستمرة حتي كتابة هذه السطور ليس في قرية ابشواي الملق وحدها رغم أنها صاحبة أكبر عدد من الضحايا ولكن أيضا في العديد من القري بمختلف المحافظات.. تركناهم ولا تزال العيون دامعة والقلوب تنفطر من شدة البكاء علي وفاة واحد من أهل كل بيت ومصدر رزق يغلق بابه أمام كل عائلة لأن الثروة التي يملكونها تنتهي وتدفن في التراب وتدفن معها كل آمالهم وأحلامهم المعلقة في رقبة كل عجل جديد.