عندما رفع شعار لا لبيع مصر, كان البعض يستشعر بعض المبالغة, ولم يكن أحد يتصور أن سياسات وعمليات الخصخصة التي تمت في عهد الرئيس السابق حسني مبارك كانت تبيع البلد بالفعل. إما لحفنة من رجال الأعمال في الداخل تجسيدا لزواج السلطة بالمال, أو لمستثمرين أجانب. ورغم أن سياسات الخصخصة معروفة في جميع دول العالم, إلا أن لها سمات تميزها في مصر والعالم العربي تجعلها شيئا مختلفا, تساهم في تفاقم الظلم الاجتماعي وتوسع الهوة بين الفقراء والأغنياء وتدمر الاقتصاد علي المدي البعيد, بعد أن تتحول المشاريع الاقتصادية إلي ساحة قمار كبري. لهذا لم يكن مستغربا أن تبدأ هيئة قضايا الدولة في مصر مراجعة عقود الشركات المخصخصة, وذلك بينما دفعت أحكام قضائية الأمور في اتجاه إعادة بعض هذه الشركات إلي حضن الدولة مرة أخري, علي خلفية وقائع فساد مروعة. تكفي الإشارة هنا إلي تقديرات تقول إن أكثر من161 مصنعا ومؤسسة قطاع عام بيعت علي مدي سنوات الخصخصة بسعر لا يتعدي24 مليار جنيه بينما ثمنها الحقيقي يتجاوز مائتي مليار جنيه. وهناك نماذج عديدة, من بينها سحب رخص ست من شركات الحديد, كانت تعمل في استثمارات يصل حجمها إلي نحو5 مليارات جنيه. وفي هذا السياق, كشفت وقائع الفساد عن عمليات بيع لمستثمر رئيسي في عشرات الشركات في غياب أي قانون ينظم ذلك, بينما كانت تلك الشركات تحقق أرباحا ولم تكن هناك ضرورة لبيعها. وقد جاء حكم القضاء أخيرا بإلغاء عمليات الخصخصة لعدد من الشركات مثل عمر أفندي والمراجل والكتان التي بيعت لمستثمر رئيسي, ليكشف عن إمكانية صدور عشرات الأحكام المماثلة. وهنا يكشف تقرير للمركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية النقاب عن أن صفقات الخصخصة في مصر وإجراءات البيع كانت مجرد إطار شكلي افتقد للنزاهة والتنافسية, والشفافية ومثل إهدارا غير مبرر للمال العام. وقد عرض التقرير ثلاثة نماذج صارخة لعملية بيع الشركات ومنها غزل شبين الكوم وطنطا للكتان وعمر أفندي, حيث طالب بسرعة التحفظ علي جميع وثائق ومستندات الشركات التي تم بيعها والموجودة جميعها لدي الشركات القابضة وتشكيل لجنة فنية محايدة من خارج قطاع الأعمال العام تتولي فحص المستندات والوثائق الخاصة بإجراءات تقييم وبيع الشركات. كما سببت تلك السياسات تدميرا لبعض القواعد المهمة في الاقتصاد المصري مثل شركات النصر للغلايات( المراجل البخارية). كما بات واضحا ان الخصخصة كانت وسيلة النظام لإفقار الشعب, فضلا عن أنها ساعدت علي استنزاف المال العام, لصالح فئة قليلة من رجال الأعمال المقربين من السلطة. قواعد اللعبة وقد استعان النظام السابق بمجموعات من القانونيين الذين رسموا أصول وقواعد اللعبة لتتم عمليات تقييم الشركات بطريقة جعلت الرابح خاسرا, وعرضته للبيع بأرخص الأسعار. فمثلا كانت بعض الآلات والماكينات تسجل في الأوراق علي أن قيمتها تساوي صفرا, بينما قيمتها السوقية عالية للغاية. كما ساعدت تلك القواعد المستثمر الأجنبي في الإطاحة بحقوق العمال, وإضافة مزيد من العاطلين إلي الشارع. الأخطر من ذلك أن عقود البيع لم تمنع الملاك الجدد من تغيير أنشطة الشركات, بل استفادوا من الأصول الثابتة كالأراضي التي بيعت بالمتر المربع وتحولت إلي أبراج سكنية. وفي هذا السياق, أقر الدكتور علي لطفي رئيس الوزراء الأسبق بأن المشكلة كانت تكمن بسبب النفوس الضعيفة التي لم تلتزم بالقانون في تطبيقها بطريقة جيدة من أجل أن تكون لصالح الشعب وليس من أجل مصالح شخصية مما أدي إلي أن أصبحت كلمة الخصخصة في حد ذاتها سيئة السمعة. اختراق أجنبي وتفتح سياسة الخصخصة الباب علي مصراعيه لعودة سيطرة رأس المال الأجنبي علي مقدرات البلاد وقلاعها الصناعية والمالية والتجارية, حيث يتزايد نصيب الأجانب في الدخل القومي المصري, حيث يقوم هؤلاء المستثمرون بعد ذلك بتحويل أرباحهم إلي الخارج. كما أن الشركات الأجنبية تكون في الغالب من الشركات العملاقة المتعددة الجنسية وهي شركات تتمتع بقدرات هائلة في اختراق القوانين وسيادة الدول, بالإضافة إلي أنها تتمكن في كثير من الأحوال من التهرب مثلا من دفع استحقاقات الدولة في الضرائب. وهناك وجه آخر للخطورة, يتمثل قيام المستثمر الأجنبي ببيع ما اشتراه لطرف ثالث, قد يكون متربصا بأمن البلاد. اللافت أيضا أن خصخصة المرافق العامة أو بيع حصص منها, مثل المياه والكهرباء, ضاعف معاناة محدودي الدخل, ولم يوفر في الوقت نفسه حلولا واضحة لمشكلات الإدارة والتعامل مع الجماهير. وكرد فعل لهذا كله, ظهر اتجاه عالمي ينادي بالتراجع عن الخصخصة ولو بشكل جزئي بعد أن غابت المنافسة وارتفعت الأسعار وزادت معدلات الفقر والبطالة. ولم تكن برامج الخصخصة في مصر نابعة من احتياجات اجتماعية واقتصادية حقيقية, وإنما كانت تجسد وتطبق روشتة صندوق النقد الدولي لمايسمي الإصلاح الاقتصادي, وهو الأمر الذي أدي لانفجار الموقف في الشارع المصري علي النحو الذي حدث في25 يناير, بعد أن كانت برامج الخصخصة بمثابة القبر الذي حفره نظام مبارك لنفسه. لهذا بات ضروريا أن تتحرك الدولة بحسابات دقيقة نحو استعادة الشركات المنهوبة وإعادة النظر في برامج الخصخصة, ووضع بنية تشريعية ملائمة تراعي طبيعة الاحتياجات الاجتماعية والاقتصادية استنادا إلي دراسات دقيقة عن واقع الاقتصاد المصري, وتعزيز آليات المراقبة, وفك هذا الارتباط المشبوه بين السلطة ورجال المال.