لم يكن واردا وعلي وجه الاطلاق في حساباتي أو حسابات أي إنسان متفائل أن تأتي تلك اللحظة الرائعة جدا والتي تشبه معجزة بكامل تفاصيلها, كنت أعتقد ولأسباب عديدة ومتشابكة. أنه ضاع مني وللأبد بعد أن أحكم أولئك الذين برعوا في تجريف حياتنا من كل عدل وإنسانية قبضتهم الشيطانية, والتفت أذرعهم الأخطبوطية حول رقابنا, أسلمنا الأمر كله لله ولأن الأمر قد خرج من أيدينا, ولا حول ولا قوة إلا بالله في اللحظة التي تأكدت فيها أنه( ضاع) أنا الذي أحبه, بعد أن كره كل شيء وزهد دنياي الفاسدة اللعينة وأطبق الظلام الدامس علي كل شيء, هرب بحثا عن دنيا ليست فاسدة ولا ظالمة, في نفس اللحظة اكتشفت أن الملايين من أمثالي كانوا قد فقدوا.. أنا الذي يحبونه إلي حد العشق, ووصل بهم الحال إلي حد الثورة السلمية علي.. أنا.. الذي يكرهونه إلي حد الموت كانوا قد قرروا وبعزيمة لا تلين إعادة الذين ضاعوا بفعل فاعل, كانت مجرد محاولة للبحث عنهم وسط الركام والظلام الحالك ومن شوارع وحواري مدن القهر والاستبداد والتي شيدها الأشرار من أجل اعتقال الأخيار والشرفاء والنبلاء المحاولة يرسم لها القدر مسارات مضيئة وممهدة. راحت الحناجر تنطلق معلنة رفضها اعتقال الخير والحب والضياء والشرف والنزاهة, كالرعد كالصواعق.. كالسيول هبت الحناجر بالآلاف ثم الملايين بسواعد مخلصة نقية تهدر لتمزق صمت جسم علي العقول والقلوب عقود طويلة مظلمة وظالمة, كل شيء تقريبا قد تعفن.. حتي رائحة الهواء اصبحت ملوثة ونتنة وحولونا إلي دمي للتسلية بها في حياتهم الصاخبة الفاسدة. الأقدار السعيدة تنير الطريق وتمنح الحناجر قوة رهيبة ومخيفة, أفزعت أولئك الأشرار الأنذال الأوباش الذين أخذوا منا, من كل واحد فينا أنا.. الذي يحبه وتركوا له.. أنا الذي يكرهه ويسير علي هواهم. أيام هي في ذاكرة الشهور عظيمة, وساعات هي في ذاكرة الأيام خالدة, ودقائق هي في ذاكرة الساعات نبيلة, حناجر صادقة وراقية ومخلصة, أبيه وشامخة وفوق هذا مسالمة.. تطالب الظلمة بالكلمة اللينة بالرحيل وفك أسر العفيفة من سجنها, هتافات مدوية تطالب بإعادة كتابة تاريخ يشرف هذا البلد العظيم وذلك الشعب المحترم. وتطالب هذا البلد العظيم وذلك الشعب المحترم. وتطالب بوضع القطار المنحرف سنين طويلة علي سكته الصحيحة وتكنس أمامها كل الذين قتلوا وسرقوا وخانوا وباعوا وسجنوا, كل الذين فرطوا في عرض وشرف المحروسة العفيفة الأصيلة وباعوا أبناءها في أسواق النخاسة برخص التراب, كل الذين ضيعوا من الملايين. أنا الذي يحبونه.. اعتقلوه في سراديب الظلم والقهر والذل والموت وغيبوه في متاهات الركض خلف رغيف الخبز لسد رمق البطون التي تشارف علي الموت. حناجر المقهورين والمنداسين المهمشين المهملين, تحولت بقدرة قادر إلي قوة جبارة رهبة تطارد كل الذين دنسوا التراب الطاهر ولطخوا التاريخ المجيد, الذين تاجروا في الأرزاق والأقوات.. في المرض والموت.. في الأكفان والنعوش.. في القبور والديون.. في أعضاء المرضي والموتي.. في المصائب والفتن, الذين سمموا الماء والهواء والتراب والنبات ولطخوا سمعة العفيفة وأضاعوا هيبتها وسط مليارات البشر هنا في ميدان الحرية.. في ميدان القصاص العادل, وسط زحام البشر الثائر الهائح, وصياح الحناجر تهز عرض وطول مدن المحروسة الشريفة العفيفة وتهز عروش اللصوص والطغاة. وهنا وفي تلك اللحظة الرائعة جدا, لمحته يصرخ بأعلي صوته.. يريد القصاص ممن فعلوا ما تستحي المجلدات أن تحتضن بين سطورها حكايات ذله وعذابه وقهره وتغيبه وطرده, ليس.. أنا.. الذي أحبه وحده الذي لمحته, بل كل الملايين أوشكوا علي العثور علي- أنا- الذي يحبونه, شعروا بقرب العودة.. تيقنوا بأن سدود الظلمة تقارب علي الانهيار ومدن الطغاة باتت إلي زوال وغرق الفراعين محتوم بعد أن تحول هتاف الحناجر إلي زئير أسود.. جاءت لحظة الحلم والحسم.. وسقط الطغاة فيما يشبه الحلم.. الآن هم خارج التاريخ.. لفظهم التاريخ وقذفتهم الأيام بعيدا, هم الآن خارج مضمار الملعب الذي خربوه ودنسوه, طردتهم المدن التي خانوها واعتصبوها ولطخوا سمعتها وعرضها علي الملأ وسط الفرحة الكبيرة بالنصر العظيم وبعد أن دان له ما أراد, جاءني مسرعا وذهبت له مهرولا.. أخذته بالأحضان.. ورحنا في نوبات من البكاء من شدة الفرح. وبعد أن هدأ والتقط أنفاسه أخذ يذكرني بالموقف والتي جعلته يهرب مني ويتركني أسيرا.. لأنا.. الذي أكرهه. ذكرني ياليوم الذي ضربه الضابط في القسم بالحذاء علي وجهه ليس إلا لنيل الرضا من أحد لصوص القوم وسفلته آنذاك!! لا لشيء فعله أو جرم ارتكبه, فقط لأنه أداة رخيصة يتسلي بها الأسياد الجدد, وذكرني بتلك السيدة والتي احترمها لما فعلته إبان فترة عمله في بيروت وكرمها العظيم ومعاملتها له كأم, بل وموافقتها علي الزواج من بنتها التي تشبه القمر رغم أنه كان خالي الوفاض, سقطت دموعه غزيرة وهي تجتر الذكريات المؤلمة, عندما قابلته تلك السيدة وبالصدفة في وطنه الذي كان مختطفا ومرهونا, لم يجد أي شيء يقدمه لها ليثبت لها أنه مصري أصيل ورجل شهم, لم يتركوا له أي شيء إلا التسكع في الشوارع والموقف الفاضح المهين أمامها وهي التي تحتاج وقفته في محنتها العظيمة والتي دعتها إلي ترك بلادها والمجيء إلي مصر. وذكرني بتلك الفتاة والتي أحبها إلي حد العشق وما فعلوه من أجل أن يبعدوه عنها عنوة, أنهم كانوا يكرهون كل من يحب ويعشق.. طاردوه حتي تركها وهاجر لبلاد أخري أملا في أن يعود لها يوما ما. واستدرك بعد أن رفع رأسه عاليا إلي عنان السماء ودموعه تطفح بغزارة قائلا: إنني وجدتها في الميدان إتشحن بثيابها وعلي وجوههن ارتسمت ملامحها الجميلة, صاروا جميعا هي التي أعشقها لكننا في لحظات الهتاف لم تتكلم. ففي زمن الثورات تتحول الكلمات كلها في حب الوطن. وبعد النصر. قابلتني وقالت لي: منعوك مني وطاردوك بعيدا عني ولكن لم يمنعوا قلبي من حبك, فحبك هو الذي جاء بي إلي هنا بحثا عن القصاص. ولن أتركك بعد اليوم. وهو يرفع يديه لأعلي: الحمد لله المنتقم الجبار.. تخيل أن الضابط الذي صفعني علي وجهي بالحذاء ياعدل السماء مات أمامي دهسا تحت أقدام الجماهير الغاضبة. ويواصل يا سبحان الله العظيم: تخيل أن أولئك الذين أنخدعت في شعاراتهم البراقة عن معني حب الوطن والاخلاص والتفاني من أجله, واكتشفت فيما بعد أنهم لصوص كبار وخونه بامتياز, يفعلون بمصر كل ما هو مدمر وقاتل, تخيل أن العباد كل العباد شاهدوهم وهم يرمون في سيارات الترحيلات مقيدي الأيدي تمهيدا لمحاكمتهم علي ما أقترفوه من خيانات في حق العفيفة وأبنائها. بنما هو ذلك الذي أحبه وأعشقه, يعود ويتلبسني من جديد وأقذف ذلك القذر الذي عشش بداخلي لفترة وأحالها إلي خرابة.. أقذفه مع أولئك السفلة والذين فرضوه علي.. المحها تلك المرأة والتي أشعر بأن دينها في رقبتي إلي يوم القيامة, تلك التي شعرت نحوها بالعجز والجبن والبخل والإنحطاط لحظة أزمتها, رغما عني. الآن أشعر بأنني إنسان حر وجديد, أجري خلفها... أصرخ بعلو صوتي أمي العزيزة.. يتردد صوتي في الآفاق حتي خلته يتردد في ذلك الحي الذي كنت أعيش فيه ببيروت. أقف أمامها فاردا ذراعي قائلا لها: أنا الآن ابن البلد الذي كنت تتحدثين عنه, أنا الآن حر شهم وكريم, أخذتها في حضني كأمي وكمصر وكوطني كله من المحيط إلي الخليج, في تلك اللحظة الرائعة شعرت أن مصر كلها إنسان ونبات وجماد في أحضاني, وقلت لها: الآن أنا تحت أمرك أنا ملك يديك بيروت هنا الآن وكل المدن العربية هنا الآن كل العرب والعربيات في قلوبنا الآن. وراحت الأم مريم في نوبة ضحك وبكاء وهي بالكاد تعثر علي الحروف وسط الفرحة الممتزجة بالدموع.. نقول: مبروك عليكم مصر رجعت لكم تاني يا حسن عبدالفتاح عبدالكريم الأقصر