قدمت مدينة القدس ومحيطها نموذجا مؤثرا من المقاومة الشعبية الفلسطينية علي مدار تاريخها, وهو ما حدث في هبة القدس في يوليو الماضي والتي رفعت معنويات كل الشعب الفلسطيني المتعطش للإنجاز. ويمكن أخذ بعض الدروس في المقاومة السلمية للدفاع عن القدس من تجارب الشعب الفلسطيني في الماضي وخصوصا هبة يوليو الخاصة بالقدس. حيث تعتبر تلك المعركة فصلا في معارك محتدمة ومتواصلة, يخوضها الشعب الفلسطيني لإنهاء الاحتلال ونظام الأبارتهايد العنصري, وهي معركة طويلة, فإن من المهم استنباط الدروس من ذلك النموذج الذي نجح, والتي يجب تطبيقها في أماكن ومراحل أخري لاحقة. ولعل هذه الدروس يمكن استخلاصها من سمات ثمان, ميزت هبة القدس. السمة الأولي, أن هبة الأقصي والقدس تبنت مبدأ الاعتماد علي النفس, وعدم انتظار ما سيفعله الآخرون. آمن المشاركون فيها بأنه ما حك جلدك مثل ظفرك ولم ينتظروا توجيهات أو إرشادات من أحد, ولم يربطوا حراكهم بانتظار تحرك الآخرين, ولو ربطوا, لطال انتظارهم. وجسدت الهبة كذلك مبدأ تنظيم النفس, بكل الوسائل الممكنة, وبالاستفادة من كافة المؤسسات الدينية والمجتمعية والمدنية, ثم إنها تحدت الاحتلال وقراراته بوضوح وجلاء, وبتصميم وحزم. وفي يوم واحد, تبنت القدس مبادئ الانتفاضة الشعبية الأولي الثلاث, الاعتماد علي النفس, وتنظيم النفس, وتحدي الاحتلال. السمة الثانية, أن الحراك الشعبي سار في تصاعد تدريجي متواصل ومتصاعد, ودون انتكاسات, لأنه بقي شعبيا ولم يصادر سياسيا. بدأ ربما بالعشرات, ثم بالمئات, ثم بالآلاف, ووصل إلي عشرات الآلاف. وقد نجح لأنه تحرك بقوة الفكرة الجامعة, والنموذج الحي, الذي وجد تجاوبا من الإحساس بالواجب, والرغبة في الاقتداء. السمة الثالثة, كانت قوة المشاركة الجماهيرية الواسعة, وعظمة تأثيرها, وقد مثلت هذه المشاركة الذروة التي يطمح كل فعل للمقاومة الشعبية أن يصل إليها. السمة الرابعة, كانت وضوح ودقة هدف الحراك الشعبي, والثبات في الإصرار عليه, رغم كل الضغوط. إزالة كل ما أقامه الاحتلال دون استثناء منذ الرابع عشر من يوليو, ذلك كان الهدف, وذلك ما تم التمسك به حتي الدقائق الأخيرة قبل الدخول الشعبي الرائع للمسجد الأقصي. وحتي عندما تعاظمت الضغوط, وناور الاحتلال مناورته الأخيرة بإغلاق باب حطة, لم تتردد الجماهير المشاركة في اتخاذ القرار بالعودة للاعتصام, حتي انكسر الاحتلال, وتحقق الهدف بشكل كامل ونقي ومبهر. السمة الخامسة, كانت وحدة القيادة الشعبية الوطنية والدينية, وقد كانت وحدة تفاعلية, ولم تكن لتنجح, أو لتطاع, لولا احترامها الجليل لإرادة الجماهير الشعبية, وتغليبها لقرار هذه الإرادة في المنعطفات الحاسمة والدقيقة. ولربما كانت هذه الوحدة النموذجية, أكثر ما أذهل سلطة الاحتلال المعتادة علي استغلال الانقسامات الفلسطينية, وعلي تغذيتها بكل الوسائل. السمة السادسة, كانت الإصرار الجماهيري علي الطابع السلمي للحراك الشعبي وللصلاة المقاومة, ورفض الانجرار لاستفزازات الاحتلال أو التجاوب مع عنفه الإجرامي. رغم أن قوات الاحتلال استخدمت كل أنواع البطش والقنابل والرصاص, بما في ذلك الرصاص الحي ضد المواطنين العزل, وكان الثمن باهظا بسقوط خمسة شهداء بواسل, بعضهم أطفال, وإصابة أكثر من1500 جريح. ومع تتابع الأيام بدأت تصل للعالم الصورة الحقيقية لما كان يجري, وهي الصورة التي تخافها إسرائيل وحكومتها أكثر من أي شيء آخر. صورة جيش بالآلاف, وعسكر مدجج بالسلاح, يواجه جماهير شعبية عزلاء من السلاح, ولكنها مفعمة بالشجاعة والعزيمة والتحدي. وهي صورة الانتفاضة الشعبية الأولي التي عرت وفضحت الاحتلال الإسرائيلي, والتي يخاف المحتلون أن تعود إلي وعي شعوب العالم. السمة السابعة, وهي سمة بالغة الروعة, كانت احتفاظ الجماهير الفلسطينية بزمام المبادرة بيدها منذ اليوم الأول وحتي اللحظات الأخيرة وما بعدها. فلم يستطع لا نتنياهو ولا حكومته ولا شرطته ولا كل من جاءوا من خلف المحيطات لمساعدته, في سحب زمام المبادرة من يد الجماهير الفلسطينية. ولم يكن ذلك سهلا, كما لم يكن بسيطا, ولكنه كان ناجحا بامتياز. ولذلك اضطر نتنياهو أن يعترف بهزيمته التي لم يستطع إخفاءها. وحتي في يوم صلاة الجمعة الأولي بعد دخول الأقصي, أفشل الفلسطينيون بانضباط ووعي مذهل, محاولات قوات الاحتلال استفزازهم وجرهم إلي دائرة العنف لتبرير الانتقام من نجاحهم, وحافظوا بذلك علي زمام المبادرة وعلي انتصارهم. السمة الثامنة, كانت تحول قضية.