كلنا تمر علينا لحظات, نشعر فيها وكأننا غرباء عن أنفسنا وعن الآخرين, لدرجة تجعلنا نحس وكأننا في متاهة, لا نهاية لها, والسبب في ذلك, أننا نكون في صراع بين مبادئنا وأفعال الآخرين, وبين ما نتلمسه بوجداننا, وما يفرضه علينا الواقع, فليس بالضرورة أن تكون أفكارنا دائما هي الصواب. فأحيانا تكون بعيدة بعض الشيء عن المنطق, وهنا لكي نضع أيدينا علي الحقيقة المجردة, لابد لنا أن نستوعب كل الأمور, وأن نحاول تجريد عقولنا من الأفكار المتحجرة, أي أنه مهما بلغ إيمان الإنسان بنفسه, فلابد له ألا تصل درجة إيمانه إلي حد العبودية, أي أنه يجب ألا يستسلم تماما لأفكاره, لدرجة تسلبه القدرة علي التعايش, فهنا يتعين عليه أن يختلي بنفسه, ويبتعد عن ساحة الحياة لفترة يحاول فيها دراسة كل ما يدور حوله بمنتهي الحيادية, ولابد أن يمرر نتائجه علي منظور المنطق, حتي لا يخرج عن المألوف, ويغترب عن الواقع الذي سيغربه تدريجيا عن نفسه, لأن الإنسان بطبيعته كائن اجتماعي, فلو استشعر أنه يعزف سيمفونية منفردا, فهنا لن يكتمل لحنه; لأنه لن يجد من يعزف علي بقية الآلات, ولن يجد من يستمع إلي سيمفونيته ويصفق له. لذا, فإنه لابد أن يتجانس مع الحياة, دون أن يفقد إيمانه بمبادئه, ودون أن يقدم التنازلات التي تجعله يغترب عن نفسه, وكل هذا لن يحدث إلا إذا دخل صومعته, وتعرف علي نفسه من جديد, ودرس العالم المحيط به, وحاول أن يضع قوانين له, تجعله يأتلف مع نفسه, ومع الآخرين, ولاشك أن هذه القوانين تحتاج منه أن يلقي كل ما كان يحمله علي كاهله من أفكار سلبية ومن أمور لا منطقية; حتي يعود للحياة برؤي وأفكار متناغمة, طالما أنها لن تؤثر علي مبادئه, فالإنسان الناجح, هو من يقرأ سطور الحياة ويتجدد معها, لا من ينعزل عنها اكتفاء بقناعاته الشخصية, فمن الذكاء أن نتكيف مع الحياة, وذلك بتقبل بعض قوانينها, حتي نستطيع في النهاية أن نفرض عليها قوانيننا, وأول قانون لابد لنا أن نتقبله, هو تجديد أنفسنا, بما يتواءم مع معطيات الحياة, ومحاولة الاستمرارية; حتي لا نعيش في عزلة دائمة. فقد قرأت أن النسر هو الطائر الوحيد الذي يمكنه أن يعيش سبعين عاما, ولكنه حتي يصل إلي هذا العمر, لابد له أن يتخذ قرارا صعبا, يعتمد في الأساس علي الإرادة الجبارة, فهو عندما يصل إلي الثلاثين من عمره, يصبح منقاره الحاد معقوفا أكثر, وتصبح مخالبه طويلة, ولينة, وغير قادرة علي انتزاع الفريسة; مما يفقده الفرصة في اقتناص غذائه, ومع تقدمه في العمر, يزداد وزنه بسبب كثافة ريشه وأجنحته وجسده, فيفقد رشاقته في الطيران, وعندها عليه أن يختار بين أمرين, إما أن يستسلم للموت, وإما أن يدخل في تحد شاق ومؤلم من عملية التغيير التي تمتد أياما وشهورا, يستجمع فيها قواه, فيطير إلي قمة الجبل ويرقد في مكان يختاره, ثم يضرب منقاره في صخرة صلبة حتي يكسره, ويغرس براثنه في الأغصان الصلبة, حتي يقتلع أظافره من جذورها, ويظل يعاني الآلام, ويقاوم الجوع, حتي يبدأ منقاره في النمو من جديد, وتبدأ أظفاره بالظهور, عندها يشرع في نتف ريشه, ثم ينتظر خمسة شهور ليبدأ رحلة طيران جديدة معلنا ولادته من جديد, والتي تمتد لثلاثين عاما أخري. فما المشكلة لو كل إنسان استشعر بأنه ينتهي داخليا, أن يحاول أن يجدد من روحه وأعصابه وقدراته, وعندما يتيقن من نجاح تجربته, يعود للحياة من جديد, معلنا عن ولادته الجديدة, التي تجعل منه إنسانا آخر, لديه القدرة علي التعايش والنجاح والتحليق في سماء الحياة.