أحيانا تكيف الإنسان مع الأشياء أو الأمور, يجبره دون وعي منه علي ألا يتقبل ما هو أفضل منها, فكثيرا ما يصاب الإنسان برفض أمور من المنطقي أن يقبلها, ولكنه يرفض لأنه أصبح متكيفا تماما مع شكل حياته, فيكون العقل الباطن مستسلما لهذا الشكل من الحياة, والعين تأبي أن تري سوي ذات الأشياء, بدليل أن كثيرا من الأشخاص الذين تتحول حياتهم من المستوي المعيشي العادي إلي الثراء الفاحش يرفضون تغيير نمط حياتهم كلية, ويصرون أن يتعايشوا مع وضعهم القديم; لاستشعارهم أنهم إذا غيروا حياتهم ربما لا يجدون أنفسهم أو يتوهون منها. فالإنسان سيما لو كان شديد التصالح مع ذاته, لا يتقبل التغيير في حياته بسهولة, حتي لو كان تغييرا للأفضل, لأن التكيف هو في حد ذاته مسألة غاية في الصعوبة, فالعين حينما تألف أشكالا معينة, تجد صعوبة كبيرة في أن تري غيرها, والدليل علي ذلك أن الإنسان في الظلام يمكنه أن يتحسس أشياءه; لأن الأماكن أصبحت محفورة بداخله, وهذا دليل علي أن الذاكرة والعقل الباطن يفرضان سيطرتهما علي الإنسان, في حين أن العين لا تري الأشياء في النور لو تغيرت أماكنها تماما. التركيبة النفسية للإنسان غريبة جدا, ومغايرة تماما لتوقعاتنا, فلا يمكن لأي شخص مهما تكن قدرته علي التحليل السيكولوجي, أن يتوصل إلي أغوارها. وقد قرأت قصة واقعية أثارت دهشتي, فهي تحكي عن شخص يدعي سدني برادفورد, قد فقد بصره وعمره عشرة أشهر, وعاش حياته ضريرا, وبالرغم من ذلك كان سعيدا ومتفائلا في حياته التي اعتاد عليها, واستطاع أن يتكيف مع واقعه, وأن يستمتع بالأعمال التي ينجزها, وقد رسم سدني في مخيلته صورا للأشياء التي حوله, وقد كانت صورا مثالية وجميلة وكأنها في الفردوس, ولكن بعد تقدم الطب والجراحة, خضع سدني لعملية جراحية واستعاد بصره وقد كان آنذاك في الثانية والخمسين من العمر, وحينما رأي الأشياء علي حقيقتها, وتشوهت الصور الجميلة التي كان يرسمها في خياله, تشوشت أفكاره وأصيب بالإحباط والرعب, فانتحر بعد عامين من إجراء العملية. قد يظن الكثيرون أن هذا الرجل مختل عقليا, ولكنه في الواقع ليس كذلك, ولكنها مشكلة التكيف مع الحياة, فهذا الرجل لم تبصر عيناه علي الإطلاق, ولم ير أي شيء في الحياة, فالحياة بما فيها من فرح وحزن, من مزايا وعيوب, من ألوان قاتمة وزاهية, هي مجرد صور في مخيلته, يرسمها كيفما يشاء, وقد تكيفت حياته علي هذه الصور, لدرجة أنه أصبح يتعامل لمدة اثنين وخمسين عاما علي هذا الأساس, فإذا به يكتشف أن الأشكال والصور, وحكمه علي الأمور, مغايرة تماما لما عاش به وفيه طيلة عمره, لم يستطع عقله أن يستوعب هذا التغيير الجذري في حياته, فأصبح في صراع بين حياة كاملة عاشها وتكيف عليها بما فيها من مزايا وعيوب, وواقع فرض عليه ومطالب بأن يتعايش معه ويتقبله. وهنا تكمن المشكلة, وهي باختصار إذا عاش الإنسان في هذا الصراع, فعليه ألا يستسلم, فبإمكانه إما أن يتكيف مع واقعه, أو يكيف واقعه معه, حتي لا يصاب بالتخبط الفكري, والتشوش الذهني, وفقدان القدرة علي الاتزان النفسي, فالقدرة علي التكيف جزء من قدرات الإنسان, التي لابد أن يستخدمها وقت الأزمة; حتي يستطيع أن يمسك بزمام الأمور, ولا أبالغ إن قلت إن هذه المشكلة تكاد تكون أكبر مشكلة نفسية يعاني منها أي إنسان; لأنها تفقده القدرة علي الاستمتاع بحياته, أو الإحساس بالآخرين أو بالأشياء, فهي تقضي تقريبا علي أكثر من نصف تركيزه, فحاولوا التكيف بقدر الإمكان مع متغيرات الحياة.