إذا تخيلنا أن الأموال التي تخصصها الدولة لدعم الخبز والسلع التموينية وغيرها, والتي تتجاوز206 مليارات جنيه سنويا, عبارة عن مياه يتم صبها في نهر حتي تصل للمستحقين من محدودي الدخل والفقراء, فإن السواد الأعظم منها يضل طريقه إلي مصاصي الدماء من محترفي نهب قوت الشعب من أصحاب المخابز والمطاحن والشون ومستودعات البوتاجاز والبدالين التموينيين, ولا يصل للمستحقين سوي التصافي, وبالطبع كل هذا يحدث تحت سمع وبصر ورعاية أصحاب النفوس الخربة من مفتشي التموين, الذين يشاركون في نهب الدعم وسرقته علي الورق وكله بالمستندات, أي يتم توريد آلاف الأطنان من القمح وطحنها وتحويلها إلي خبز يلتهمه المواطنون علي الورق فقط, ما دام لكل منهم حق معلوم. ومما يجعل مهمة وزير التموين شبه مستحيلة أن منظومة نهب وسرقة الدعم توحشت وتغولت علي مدي سنوات طويلة, وعدلت في جيناتها الوراثية لتفسد مفعول أية إجراءات جديدة تهدد بالنيل من سلطانها, خاصة أن شبكة النهب المنظم لقوت الشعب تكونت علي مدي عقود ممتدة من شبكة متماسكة من الأقارب, ويكفي أن تعرف عزيزي القارئ أن هناك عائلات بعينها لديها مئات المخابز, وأخري لها الكلمة العليا في مجال المطاحن والشون, ناهيك عن وجود مافيا أخري تحتكر وتتحكم في توريد السلع التموينية المختلفة. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: هل ينجح الدكتور علي مصيلحي وزير التموين الجديد في التصدي لحيتان سرقة ونهب الدعم قبل أن يصل إلي مستحقيه بعد أن مد يده في عش الثعابين وقام بتخفيض عدد الأرغفة المخصصة للكارت الذهبي؟ وبصراحة أقول إن الكروت الذهبية مال سايب لم يستفد منه سوي أصحاب المخابز الذين تفننوا في صرف الخبز المدعم لأصحاب البطاقات الورقية والمغتربين علي ماكينات الصرف الآلي فقط, وذهبت الأموال إلي كروشهم المنتفخة بالمال الحرام. ولكي ينجح مصيلحي في اقتحام أوكار الفساد لابد وأن يتناول الأمصال المضادة لمافيا الفساد, فلا يصدر أي قرار إلا بعد دراسته جيدا, وعرضه للحوار المجتمعي ومناقشته وتحليله عبر وسائل الإعلام المتنوعة, بحيث يكون المواطنون علي دراية وعلم بأن القرار الذي سيتم تطبيقه هو لمصلحة المواطن ولضمان وصول الدعم إليه, وأن الدولة لا يهمها ولا تهدف من أي قرار تتخذه سوي مصلحة المواطن فقط. وستكون مهمة مصيلحي سهلة إذا تعاون معه نواب البرلمان, وقام كل منهم في دائرته بالتصدي للشائعات, وتوضيح حقيقة أي قرار سيتم اتخاذه حتي يصل الدعم لمستحقيه, ولا يتباري البعض منهم بالدفاع عن أصحاب المخابز والمطاحن رافعا شعار لا تقتربوا من قوت الغلابة لحاجة في نفس يعقوب. ويجب علي مصيلحي قبل أن يواجه مصاصي قوت الشعب أن يعي أمرين أراهما في غاية الأهمية, أولهما: أن مافيا نهب وسرقة الدعم متشابكة ومستعدة لعمل أي شيء للحفاظ علي مكاسبها وأرباحها, فهناك الآلاف من أصحاب المخابز والمطاحن والشون الذين يمكنهم تحريك آلاف العمال للقيام بمظاهرات ضده, ناهيك عن الإضراب وخلافه, ولمواجهة ذلك يجب أن تكون هناك خطط بديلة لتوفير احتياجات المواطنين من الخبز المدعم. والأمر الثاني الذي يجب أن يعيه الوزير جيدا هو أن هناك كتائب الكترونية تابعة لإخوان الشر تتلقف أي شائعة أو معلومة لإثارة المواطنين, وينتظرون بفارغ الصبر أن تتعثر البلاد أو أن يصدر قرار غير مدروس يمس حياة الناس عن كثب, لإشعال نيران الفتنة والوقيعة بين الشعب وقيادته. نعم الشعب أصبح واعيا وكاشفا لسوادهم ومخططاتهم الشيطانية, ولكن يجب بدلا من أن نعطيهم فرصة ذهبية للوقيعة والفتنة, أن تضاعف من حزنهم وبأسهم وخيبة أملهم بالقرارات الصحيحة المدروسة التي تخفف الأعباء عن الفقراء ومحدودي الدخل, وتفتح باب الأمل علي مصراعيه في غد أفضل.