وضعت النظم السياسية الحديثة قيودا للحيلولة دون انفراد شخص بالتحكم في سياسات دولة أو أمة; لما يمثله ذلك من خطر علي مستقبل هذه الأمة وربما وجودها لاسيما إذا كان هذا الشخص لديه عداء للنسق القائم أو يعتقد أفكارا ذاتية صدامية وغير منطقية. تبدو الولاياتالمتحدة وفقا لهذا التصور أمام اختبار حقيقي مصدره وضع طموح بلد بقيمة الولاياتالمتحدة ومكانتها تحت قيادة الرئيس المنتخب دونالد ترامب الذي لديه مواقف حادة صادمة للواقع وللقيم والتقاليد الأمريكية الصميمة, فضلا عن خلفية الرجل وتاريخه المثير للجدل والانتقاد بشكل واسع, ناهيك عن فريقه المعاون الذي تميل معظم عناصره إلي التشدد, الأمر الذي يمثل مصدرا للخوف ليس داخل الولاياتالمتحدة وحسب ولكن علي المستوي الدولي كذلك.. وقد كانت آخر الانتقادات التي طالت ترامب من نصيب نجمة هوليوود ميريل ستريب ردا علي تهكمه علي صحفي معاق أثناء حملته الانتخابية, وقالت ستريب في كلمة ألقتها بمناسبة تسلمها جائزة جولدن جلوب, أن قلبها فطر في اللحظة التي قام فيها ذلك الشخص الذي يسعي إلي أكثر المقاعد احتراما في بلادنا بتقليد صحفي معاق. ولعل ترامب هو الرئيس الأمريكي الأكثر إثارة للجدل في تاريخها المعاصر, فبعد إعلان فوزه خرجت التظاهرات المناهضة له في صورة نادرة الحدوث عقب الانتخابات الأمريكية, ومع الوقت تحول الرجل لمادة للسخرية في وسائل الإعلام علي نطاق واسع, كما أن بعض المؤسسات لاسيما المخابرات تواجهه من حين لآخر بحقائق صادمة له ولعموم الأمريكيين منها ما أثير مؤخرا بعلاقته بروسيا, وهو ما يعني أن الرجل سيعمل تحت ضغط شديد, وأن مواقفه الحدية وسياساته المتشددة التي أعلن عنها داخليا وخارجيا فضلا عن مواقفه العنصرية سوف تكون محورا لجدل أكبر ومواجهة شرسة علي نطاق واسع, وإما أن يراجع الرجل مواقفه عندما يتقلد المنصب الرفيع أو أن يستمر في مواجهته وتنفيذ ما أعلنه. تاريخيا لدينا نماذج متعددة لأمثال هؤلاء الشعبويين الذين صعدوا إلي قمة السلطة فأوردوا دولهم وأممهم التهلكة, وبددوا أرصدة القوة التي تملكها بل أضاعوا نفوذها وقوتها وإلهامها, وكان لحضور أمثال هؤلاء نصيب في الدول المتقدمة كما لدول العالم الفقيرة, فلا ينسي العالم أمثال هتلر/ألمانيا, وموسوليني/إيطاليا في معاقل الديمقراطيات الأوروبية, كما لا ينسي أمثال بينوشيه/شيلي, وغيرهم في دول العالم الثالث, وإذا كان وجودهم في عوالمنا أمرا واردا ومتكررا بل واقعا يبدو أنه لا فرار منه بفضل غياب نظم الحكم الرشيدة وغياب التوازن بين السلطات فضلا عن عوامل أخري متعددة, غير أن وجودهم علي هذا النمط الشعبوي المشوه في الغرب هو أمر مثير للدهشة والعجب. لكن الحقيقة أن أدوات مواجهة هذه الشعبوية المنفلتة من قيود القيم والنظم والقواعد التي تتبناها الديمقراطيات الغربية أكثر فاعلية, فترامب يواجه مجتمعا واعيا يعي حجم تضحيته من أجل أن يغرس وجوده ومكانته, ويحول شتات الناس إلي أمة متماسكة ويضع لها سياقا وأطرا للفاعلية والبقاء بل والريادة, ومن الصعب علي أمثال هؤلاء الذين يقفزون علي السلطة في لحظة سياسية غير منطقية أن يتجاوزوا واقع هذا المجتمع ويدمروا نضاله وتاريخه ويخالفوا دستوره وقانونه, ولهذا يقف أمام ترامب أمثال ميريل ستريب وغيرها في كافة المجالات والمؤسسات, ليشكلوا بدورهم درعا واقية لأمة ينتمون إليها ولديهم استعدادات متعددة للدفاع عن مستقبلها ومكانتها. أما في عوالمنا فلا عزاء للأوطان التي تضيع تحت أوهام السلطوية التي لا عقل ولا عقال لها, ولا عزاء للشعوب الحائرة في دروب الجهل بلا بصيص أمل, ولا عزاء للصفوة الممتطية أطماعها الشخصية بلا أي نوازع وطنية, لا عزاء لسوريا ولا عزاء لليمن ولا عزاء لليبيا ولا عزاء للعراق, ولا عزاء للبقية.