انتشر في الآونة الأخيرة الكثير من التجار من أصحاب النفوس الضعيفة الذين لا يهمهم سوي مصلحتهم الخاصة, ومدي الكسب المادي الذي يعود عليهم من تجارتهم, لذا نجدهم يحتكرون السلع ويحبسونها عن الناس ثم بعد ذلك يخرجونها لتباع في السوق السوداء بسعر أغلي بعد تعطيش السوق. وقد حاربت الشريعة الإسلامية كل ما هو فاسد ومضر بالفرد والمجتمع, ودعت إلي الخير والعدل والتسامح والعمل والإنتاج وإعمار الأرض, ومنعت الكسل والتواكل علي الغير, والقضاء علي كل ما يؤدي إلي ارتفاع الأسعار وضرب الأمن الاقتصادي في مقتل حتي لا ينتشر الفقر وتظهر الأمراض ويسعي الناس للحصول علي المال بطرق غير مشروعة كالسرقة والرشوة والاحتكار. وحول معني الاحتكار وأسبابه وكيفية توفير الأمن الاقتصادي في الشريعة الاسلامية يقول الدكتور علي الله الجمال- من علماء وزارة الاوقاف- الأمن الاقتصادي في الاسلام هو الثقة في إمكانية الإنتاج والتوزيع بطريقة عادلة وبدون معوقات, ولذا اهتمت الشريعة بالحفاظ علي الاقتصاد اهتماما بالغا فنجد أن الله عز وجل قد امتن علي قريش بنعمه عليهم ومن أهمها نعمة الرخاء الاقتصادي والأمن والأمان ويتجلي ذلك في قوله تعالي( فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف). وفي وصايا النبي صلي الله عليه وسلم ما يدل علي ذلك( من أصبح معافي في بدنه آمنا في سربه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا) وفي قوله صلي الله عليه وسلم( عنده قوت يومه) بيان لأهمية الأمن الاقتصادي ودعوة للمحافظة عليه, وعبر القرآن الكريم عن التنمية الاقتصادية بمصطلح عمارة الأرض قال تعالي( هو الذي أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها) وهذه دعوة إلي العمل والعمارة والبناء. و شرحت سورة يوسف سياسات التنمية الاقتصادية وبينت كيفية مواجهة الأزمات الاقتصادية, وسد العجز في المحاصيل الزراعية, ومراعاة أسس وقواعد التخزين السليمة كما علمتنا سورة يوسف ترشيد الاستهلاك وتقديم المصلحة العامة علي المصلحة الخاصة, وحسن التخطيط, وعلمتنا سورة يوسف أن اختيار الكفاءات وأهل الأمانة من عوامل نجاح الاقتصاد, قال تعالي علي لسان يوسف عليه السلام(قال اجعلني علي خزائن الأرض إني حفيظ عليم) وكان ذلك المشهد العظيم علي أرض الكنانة أرض مصر المحروسة وحتي تحافظ الشريعة علي الأمن الاقتصادي فقد أباحت التجارة وجرمت الاحتكار والاستغلال, ودعت الناس إلي البيع والشراء ونهت عن البيوع الفاسدة بكل صورها وأنواعها. ويشير الجمال إليأن اتباع المنهج الرباني والاستقامة عليه أكبر سبب لضمان الرخاء الاقتصادي والبركة والنماء, وهذا يتحقق عند ملازمة الاستغفار فقلت( استغفروا ربكم إنه كان غفارا, يرسل السماء عليكم مدرارا, ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا), وقد ذكر الإمام أحمد أنه وجد في خزائن بعض بني أمية في عهد عمر بن عبد العزيز صرة فيها حنطة- حبوب أرز وقمح- أمثال نوي التمر مكتوب عليها: هذا كان ينبت أيام العدل. كما يتحقق أيضا الامن الاقتصادي عند شكر المنعم سبحانه لقوله تعالي( لئن شكرتم لأزيدنكم). وبين لنا القرآن أن المال مال الله وأن الأغنياء هم وكلاء الله في المال, وجعل الزكاة والصدقة صيانة للمال من الهلاك, وضرب لنا بعض الأمثلة علي ذلك قال تعالي(وأحيط بثمره) وقال أيضا(فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون). وأمرنا الإسلام برد الأمانات إلي أهلها, وتوثيق المعاملات, وكتابة الدين. ويضيف الجمال ان المحافظة علي المال العام وقوت الناس واجب شرعي ووطني ويكون ذلك بترشيد الاستهلاك في المياه والكهرباء علي سبيل المثال كما كان يفعل ذلك صلي الله عليه وسلم فقد كان وضوؤه يقدر بنصف لتر تقريبا, وكان غسله يقدر ب لترين من الماء أو يزيد علي ذلك بقليل, فعن أنس رضي الله عنه قال:( كان رسول الله- صلي الله عليه وسلم- يتوضأ بالمد, ويغتسل بالصاع إلي خمسة أمداد) ويكون أيضا بعدم الاحتكار للسلع وبعدم افتعال الأزمات لضرب الاقتصاد ومن ثم ضرب الدولة فيترتب علي ذلك حدوث مجاعات واقتتال وصراع علي لقمة العيش. وأعطي عبد الرحمن بن عوف درسا قاسيا للتجار المحتكرين للسلع عندما أتت قافلته من الشام وقدرها سبعمائة جمل محملة زبيبا وقمحا وألبسة وأعطيات فدخلت المدينة, فخرج الفقراء وخرج التجار, التجار يريدون شراءها والفقراء ليس لهم إلا أن يشاهدوا فقال ابن عوف للتجار: بكم تشترون مني هذه القافلة؟ قالوا: نعطيك في كل درهم درهمين, أي: قيمة التجارة مرتين قال: وجدت من أعطاني أكثر. قالوا: نعطيك في الدرهم ثلاثة قال: وجدت من زادني قالوا: نحن تجار المدينة حاضرون, وما زادك أحد. قال: لا والله لقد وجدت الله زادني وأعطاني في الدرهم سبعمائة ضعف إلي أضعاف كثيرة, أشهدكم أنها بجمالها وأحلاسها وزبيبها وقمحها وثيابها لفقراء المدينة. فولي الناس يبكون ويقولون: سقي الله ابن عوف من سلسبيل الجنة وذهب ابن عوف وذهب الفقراء وذهبت الجمال وذهب القمح والزبيب والثياب وهم عند الله غدا واقفون.