الاحتكار هو حبس الأشياء عن التداول بالبيع والشراء لإغلاء أسعارها علي الناس بهدف تحقيق أقصي ربحية ممكنة, فإذا قل العرض وزاد الطلب ارتفعت الأسعار ارتفاعا كبيرا لشدة الحاجة إليها ولا سيما إذا كانت من الضروريات والحاجيات. ويري الاقتصاديون أن الاحتكار يضر بالأسواق وبالناس، ويقود إلي سوء توزيع الدخل وزيادة الأعباء علي الفقراء ومن هم دون حد الكفاية ويجب علي ولي الأمر التدخل لحماية الأسواق من المحتكرين. الاحتكار في القرآن الكريم لم يرد في القرآن الكريم آيات تشير صراحة إلى الاحتكار، ولكن ورد بعض الآيات التي تشير إلي المعاملات التي تسبب الظلم وأكل أموال الناس بالباطل والإفساد في الأرض، وهذه الآثار مما يسببها الاحتكار. على سبيل المثال ورد في القرآن الكريم على لسان سيدنا شعيب قوله لقومه: }وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا المِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ {[هود:85]. ويفهم من هذه الآية أن عدم الالتزام بالعدل والحق في المعاملات يؤدى إلى بخس حقوق الناس ويقود إلى الفساد في الأرض، وهذا ينطبق كذلك على الاحتكار من قبل المنتجين والتكتل من قبل المستهلكين. كما ورد في آيات الربا معاني الظلم وأكل أموال الناس بالباطل، يقول الله تبارك وتعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (278) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ (279) وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (281){ [البقرة:278-281]. ويستنبط من هذه الآيات العديد من المعاني منها أن التعامل بالربا من الظلم ومن حيل أكل أموال الناس بالباطل، وأنه نقيض الإيمان والتقوى وعدم الخشية من الله، وهذا ينطبق كذلك على المحتكر, فكلا من المرابي والمحتكر من الظالمين الذين يأكلون أموال الناس بالباطل. كما أعطى القرآن نموذجا لقارون المحتكر الذي بغى على قومه بماله الذي اكتسبه من الاحتكار، وأفسد في الأرض فكان جزاؤه أن خسف الله به وبداره وبماله الأرض، وهذا هو جزاء المحتكرين الطغاة. يقول الله تبارك وتعالى: }ِإنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُوْلِي القُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً{ [القصص:76-83]. كما حرم الله سبحانه وتعالي حبس الأموال عن أداء وظيفتها في الحياة بصفة عامة وفي مجال المعاملات الاقتصادية بصفة خاصة، لأن في ذلك إضرارا بالناس، ودليل ذلك من القرآن الكريم قول الله عز وجل: }والَّذِينَ يكْنِزُونَ الذَّهَبَ والْفِضَّةَ ولا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ{ [التوبة: 34]. فقد ورد في تفسير هذه الآية أن كنز المال يعتبر من الجرائم الاقتصادية لأنه يسبب كسادا في المعاملات والتخلف ضد التنمية والرخاء، وهذا ينطبق علي الذي يحبس السلع والناس في حاجة إليها, فكلا من المحتكر وكانز المال من المفسدين في الأرض, ولقد وعدهم الله بالعذاب الأليم. كما ورد في القرآن الكريم العديد من الآيات التي تحرم أكل أموال الناس بالباطل وهذا ينطبق علي المحتكرين, منها قول الله تبارك و تعالي: }يا أيها الذين أمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما{ [النساء:29]. ويستنبط من الآيات السابقة الأحكام القرآنية الآتية: 1- تحريم الاحتكار لأنه من الظلم. 2- تحريم الاحتكار لأنه من الطغيان والبغي. 3- تحريم الاحتكار لأنه من صور الفساد في الأرض. 4- تحريم الاحتكار لأنه من صور أكل أموال الناس بالباطل. الاحتكار في السنة النبوية الشريفة لقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم العديد من الأحاديث النبوية الشريفة عن الاحتكار وتهديد المحتكر بالويل والعذاب الأليم منها قوله صلى الله عليه وسلم: "الجالب مرزوق والمحتكر ملعون" (رواه ابن ماجه) "من احتكر حكرة يريد أن يغلى بها على المسلمين فهو خاطئ" (رواه أحمد). "من احتكر فهو خاطئ" (رواه مسلم وأبو داود والترمذي). "لا يحتكر إلا خاطئ" (رواه أحمد ومسلم). "من دخل في شيء من أسعار المسلمين ليغليه عليهم كان حقا على الله أن يقعده بعظم من النار يوم القيامة" (أخرجه الطبرانى). "من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه الله بالجذام والإفلاس" (رواه ابن ماجه). "من احتكر طعاما أربعين ليلة فقد برئ من الله وبرئ الله منه، وإيما أهل عرصة أصبح فيهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله" (رواه أحمد والحاكم) ويستنبط من الأحاديث النبوية السابقة الأحكام الآتية: 1- حرمة الاحتكار لأنه يسبب ضررا بالناس ومن هذا الضرر إغلاء الأسعار عليهم. 2- حرمة الاحتكار في كل الأشياء سواء كان هذا الشيء طعاماً أو شراباً أو ذهباً أو فضة أو نحو ذلك. 3- نعت الرسول صلي الله عليه وسلم المحتكر بأنه خاطئ وملعون وبرئت ذمة الله ورسوله منه. 4- عقاب المحتكر في الدنيا بمرض الجذام والإفلاس، وعقابه في الآخرة العذاب الأليم في النار. الاحتكار في الفقه الإسلامي الحكم العام في الاحتكار بأنه محرم في الإسلام لأنه من الظلم وشكل من أشكال أكل أموال الناس بالباطل ويؤدي إلي الخراب والتخلف ويسبب ضررا بالناس وبالأسواق ويمس بمقاصد الشريعة ومنها حفظ النفس وحفظ المال. ولقد ورد عن الفقهاء العديد من الآراء المفصلة للاحتكار، منها ما يلي: 1- يقول الشوكانى: "إن الاحتكار محرم من غير فرق بين قوت الآدمي وقوت الدواب وبين غيره وهذا ما رآه جمهور الفقهاء". 2- يقول أبو يوسف: "كل ما أضر بالعامة حبسه فهو احتكار وإن كان ذهبا أو فضه أو ثوبا". 3- يقول الباجى: "الاحتكار هو الادخار للبيع وطلب الربح بتقلب الأسواق، وأما الادخار بالقوت فليس محله باب الاحتكار". 4- يقول الشربينى: "الاحتكار هو إمساك ما اشتراه التاجر وقت الغلاء لبيعه بأكثر مما اشتراه مع اشتداد الحاجة، لخلاف ما اشتراه وقت الرخص لا يحرم مطلقا". 5- يقول سحنون: "سمعت مالكا يقول: الحكرة في كل شيء في السوق من الطعام والزيت والقماش وجميع الأشياء وكل ما أضر بالسوق.. فإن كان ذلك لا يضر بالسوق فلا بأس". يستنبط من أقوال وآراء الفقهاء الأحكام الآتية: 1- أن الاحتكار بصفة عامة محرم. 2- كل ما أضر بالناس حبسه فهو احتكار. 3- كل شيء يحتكر ويضر بالناس وبالأسواق فهو احتكار محرم عند جمهور الفقهاء. الأحكام والفتاوى الشرعية في تحريم الاحتكار يستنبط مما ورد في القرآن الكريم وفى السنة النبوية ومن أقوال الفقهاء مجموعة من الأحكام والفتاوى الشرعية في تحريم الاحتكار منها ما يلي: (1) تحريم الاحتكار تحريما قطعيا لأنه من أنواع الظلم المحرم. (2) عَلّه التحريم هي الإضرار بالناس وبالأسواق فمما لا شك فيه أن الاحتكار يسبب ضررا بالناس وبالأسواق ويقود إلى أكل أموال الناس بالباطل وهذا كله منهي عنه شرعا. (3) الاحتكار يكون في كل شيء نافع يحتاج الناس إليه, ويري بعض الفقهاء أن الاحتكار يكون فقط في غذاء الآدمي وفى غذاء الدواب، ويرى جمهور الفقهاء أنه في كل شيء نافع ويحتاج الناس إليه، وإنما كان التخصيص على الغذاء للتأكيد, ولكن يؤخذ بعموم المعنى المتمثل في كل شئيء كما ورد في الأحاديث النبوية. (4) ما يدخره الإنسان من الضروريات والحاجيات لا يدخل في نطاق الاحتكار: يقول الفقهاء أن ما يدخره الإنسان في بيته من طعام أو شراب أو نحو ذلك من الضروريات والحاجيات جائز لا بأس به، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخر لأهله قوت سنتهم من تمر وغيره، لأن العلة من تحريم الاحتكار وهى إغلاء الأسعار علي الناس ليست قائمة في حالة ما يدخره الإنسان في بيته. (5) شراء السلع وقت رخص الأسعار ليس باحتكار: يري جمهور الفقهاء أن شراء السلع وهى متاحة للجميع وتربص ارتفاع الأسعار وبيعها ليس فيها احتكار، ليس الغاية في هذه الحالة هو التربص وليس حبس السلعة, ويحصر بعض الفقهاء الاحتكار في وقت قلة المعروض وحاجه الناس إلى السلع و حبسها. (6) المحتكر ملعون وظالم وخاطئ وآثم: فقد ورد في الأحاديث النبوية الشريفة أوصاف للمحتكر أنه ظالم وخاطئ وملعون وخارج من رحمة الله عز وجل وهذه الصفات تنطبق علي الطغاة الظالمين, كما أن المحتكر قاسي القلب أناني لا يرى إلاّ مصلحته، فهو منبوذ من الناس، ولذلك يجب نبذه كما يجب علي الحكومة منعه عن الاحتكار وإجباره علي بيع السلعة بسعر المثل وعقوبته علي الذي سوف يرد تفصيلا في البند التالي. سلطة ولى الأمر في منع الاحتكار يرى جمهور الفقهاء ومنهم الأحناف والمالكية والشافعية بأن لولى الأمر أن يأمر المحتكر بالبيع بقيمة المثل وإزالة الظلم عن الناس عن ضروراتهم لمثل هذه الأشياء. كما أن من مسؤولية ولى الأمر في الدولة الإسلامية التدخل في الأسواق لمنع الاحتكار بوسائل مختلفة منها التسعير العدل. كما له الحق في توقيع العقوبات التعزيرية على المحتكرين الذين لم ينصاعوا لتهديداته وإنذاراته. ويرى بعض الفقهاء أن على ولى الأمر أن ينصح المحتكر وينذره بالعقاب إذا عاد إلى ذلك مرة أخرى، وإذا عاد المحتكر مرة أخرى إلى الاحتكار عليه أن يعاقبه لمخالفة أحكام ومبادئ الشريعة الإسلامية، وذلك بالعقوبة التي يراها حسب ظروف الحال في ضوء أحوال السوق وظروف المحتكر ونوع المخالفة ومن هذه العقوبات الحبس أو الغرامة المالية. ولقد ورد أن الخلفاء الراشدين تعاملوا بالحزم مع مسألة "الاحتكار"، وعملوا على ضبط الأسواق من خلال تخصيص بعض الناس لمراقبة الأسواق، ومتابعة عمليات البيع والشراء، وكان الهدف من ذلك قطع الطريق على الراغبين في الاحتكار، وتوفير الطعام والشراب للرعية بأسعار ملائمة. وتعامل الخلفاء بقوة مع هذه الجريمة، فقد ورد في الموطأ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله: "لا حكرة في سوقنا، لا يعمد رجال بأيديهم فضول من أذهاب إلى رزق من رزق الله نزل بساحتنا فيحتكرونه علينا، ولكن أيما جالب جلب على عمود كبده في الشتاء والصيف، فذلك ضيف عمر؛ فليبع كيف شاء الله، وليمسك كيف شاء الله" [الموطأ، (1348)]. ونخلص مما سبق إلى أن من مسؤولية ولى الأمر في الإسلام حماية الأسواق من ظلم المحتكرين بالتدخل في الأسواق لضبطها.