جينات الشجاعة والصمود لا تعطب مع الأيام, وبذور الإقدام وهمم الانتصار والاستماتة في الدفاع عن تراب الوطن لا تلقن في قاعة درس ولا توزع بوصفة طبية.. المنصورة التي قدمت لمصر عبر التاريخ بشارات نصر وعزة وكرامة, منذ لقنت الأعداء دروسا لا تنسي في الحملات الصليبية وأسرت لويس التاسع في دار ابن لقمان, مرورا بمعركة القوات الجوية المظفرة في حرب73 التي نحتفل بذكراها هذه الأيام, وصولا إلي مواجهات اليوم مع عناصر الإرهاب والتكفير المجرمة وأبناء إبليس الجدد أعداء الحياة في سيناء. قوافل من زينة الشباب الأبطال يهدون الوطن الغالي أرواحهم ويروون بدمائهم الطاهرة رمال سيناء, ويحمون العرين من الكلاب العاوية المتربصة وأذناب الهمجية والفاشية الدينية, وهم في ذلك يقدمون نماذج شاهقة وبطولات فريدة, من بينهم البطل عبدالرحمن محمد المتولي ابن عزبة الشال بالمنصورة, الذي قتل12 تكفيريا قبل استشهاده ولقب ب صائد الدواعش, والشهيد الشحات فتحي شتا, الذي قام باحتضان إرهابي ملثم يلبس قميص متفجرات وجري به أكثر من100 متر لكي يفدي الكتيبة وزملاءه, وفجر الإرهابي نفسه مع الشهيد, والعشرات غيرهم ممن سطرت أسماؤهم علي ميادين وشوارع ومدارس في قراهم ومساقط رءوسهم, لتتعلم الأجيال المقبلة من بطولاتهم ويفخر أبناؤهم بما قدموه, لتبقي مصر حرة مرفوعة الهامة. في يوم واحد قدمت محافظة الدقهلية شهيدين في مجزرة زغدان الإرهابية, التي استشهد فيها12 ضابطا ومجندا, وقتل فيها عشرات الإرهابيين, محمود عبد الخالق ابن قرية دموه مركز دكرنس, وفؤاد رفعت فؤاد فودة ابن قرية57 أبو ماضي مركز بلقاس. في قرية الشهيد قررت الأهرام المسائي عشوائية في شهر الانتصارات, ولتقترب أكثر من خميرة صنع الرجال الأشداء في الريف, وتتلمس معاني قدسية الأرض والعرض عند من يقدرونها حق التقدير في امتداد متواصل لصفحات كتاب التضحية المصري عبر التاريخ. في قرية57 أبو ماضي مركز بلقاس, والتي تعد تابعا صغيرا لحفير شهاب الدين في أطراف محافظة الدقهلية من ناحية كفر الشيخ, يعتصر الحزن أبناء القرية جميعا بعد وصول نبأ استشهاد فؤاد عن طريق أحد زملائه, الجميع يتلقي العزاء ويفترشون الأرض جوار بيته ويندهشون من كثرة الزوار والمسئولين بعد مراسم الدفن. وبمجرد دخولك القرية تأخذ انطباعا بأنها بسيطة جدا, وتفتقر إلي كثير من الخدمات حتي إن الطرق المؤدية إليها ضيقة ووعرة, أهلها يظهر علي وجوههم الجهد والتعب والكفاح, ولون الشمس يلفح جبهتهم السمراء, ثيابهم باهتة تحتوي بداخلها مقومات الزهد, معظمهم يحمون أدوات الزراعة بأيديهم أو يقفزون علي عربات الكارو يفتشون عن الرزق أينما كان. يظهر في الأفق منزل بسيط من دور واحد مبني بالطوب الأبيض, تتزاحم النساء علي الجلوس فيه وحوله لمواساة أم الشهيد, وفي إحدي غرف المنزل سرير وبضعة بطاطين وشبكة الخيوط القماشية الرقيقة لحماية النائم من لسعات الناموس, إنها غرفة وسرير فؤاد, فتي أسمر تنضح ملامحه بالحيوية والوسامة وتشع من عينيه قوة وبأس شديد, فؤاد معروف في قريته وبين أصدقائه باسم حبيشة تشبها بالفنان محمد رمضان كرما ورجولة وعنفوانا, هو أكبر أشقائه يبلغ من العمر22 سنة, يليه عبد الخالق19 سنة ومحمود14 سنة, وله إخوة غير أشقاء من زوجة أخري. الأقدار وضعت فؤاد في صفوف المسئولية مبكرا فقد توفي والده الذي كان يشتغل عاملا باليومية منذ ثلاث سنوات, وكان عمر فؤاد حينها19 سنة, وبات هو الرجل والأب والأخ, فترك المدرسة في الصف الثالث الإعدادي حتي يتمكن من إعالة الأسرة, في هذه السن الغض تنقل فؤاد في أعمال مختلفة حتي استقر به المقام في جمع ورق وأغلفة البضائع الفارغة الكراتين من شوارع وطرقات دمياط وجمصة وبيعها إلي المصانع, ليتكسب لقمة شريفة حلال يجمع منها بعض الجنيهات القليلة وينفقها علي الطعام والشراب والكساء ويلبي الاحتياجات الملحة للعائلة. والدة فؤاد التي تنحدر من قرية ميت العامل بمركز أجا لا تملك من حطام الدنيا إلا بضعة قراريط شيدت فوق جزء منها منزلا متواضعا لأبنائها ولا تحصل علي أي معاشات وتعتمد علي زندها وعرقها في العمل بالحقول طوال النهار مقابل بضعة جنيهات أحيانا لا تزيد علي15 جنيها, لكنها ربت أولادها علي الرجولة والتحمل والصبر والرزق الحلال وعرفتهم ما معني أن تكون مصريا حقيقيا. فؤاد التحق بالخدمة العسكرية قبل نحو6 أشهر, وكان نصيبه دون تدبير منه في سيناء أرض الفيروز ومهبط النور, ليس لديه باع في السياسة ولا يجيد فذلكة المتنطعين بالوطنية الجوفاء كل ما يعرفه أن تراب مصر أغلي من روحه وأن الإرهابيين لن يتقدموا خطوة إلا علي جثته ولن تهنأ عينه إلا بالخلاص منهم, شجاع لدرجة التهور وعاقل لدرجة الحكمة, ورجل بدرجة أسد. أم البطل نقترب من منزل الشهيد, بينما نفتش في قاموس اللغة عن كلمات يمكن أن تناسب مقام العزاء والمواساة والتخفيف عن المصاب, فتعجزنا التعبيرات أمام مهابة المشهد. تبادر والدته السيدة حواء عبد الرؤوف لتستقبلنا بوجه بشوش وبجوارها والدتها وأختيها رغم عمق الحزن الغائر في قلبها والظاهر علي عينيها وملامحها الحزينة. بسرعة بديهة رددت أم فؤاد: أنا أم البطل أنا أم الشهيد وهو في الجنة عريس, فؤاد لم يمت ابني في الجنة. تقول والدة الشهيد: فؤاد ترك المدرسة صغيرا حتي يصرف علينا وهو كان متحملا كل شيء, طلب من شقيقه الأصغر عبد الخالق أن يخطب ويتزوج قبله لأن مشواره في الجيش لا يزال طويلا لمدة ثلاث سنوات, وبرغم ارتفاع تكاليف الزواج كان يطمئنه ويرفع معنوياته, حتي إنه حدد25 نوفمبر المقبل موعدا لزواج أخيه الأصغر, وأخذ يسعي لجمع النقود من كل مكان ومن زملائه ومعارفه حتي تتم فرحته, ووعد أخيه بأنه سيحدد ترتيبات وموعد الفرح في إجازته المقبلة التي لم ولن تأتي, وآخر مكالمة معه قبيل استشهاده بليلة واحدة تحدث مع عبد الخالق عن فرحه وقال له كل شيء هيكون تمام, وفي إجازة الجيش7 أيام يذهب فؤاد إلي مهنته المتاحة في جمع الكراتين وبيعها للمصانع لتوفير أي مبلغ, وفي إحدي المرات أخيرا غلبه النوم في تروسيكل استأجره مع بعض أصحابه وحاول اللصوص سرقته بالقوة لكن الله سلم. وفي لهجة حادة ونبرة مرتفعة وبينما كانت الأم تلبس غطاء رأس الجندي الخاص بولدها الشهيد كاب قالت أم فؤاد: ياريت ياخدوني أحارب مكانه, أنا عاوزة أكون شهيدة مش عدت خايفة من الموت, وكلنا فداء بلدنا وترابها, فؤاد رفع راسنا كلنا وشرفنا وحتي إخواته الإثنين مش كتير علي مصر. أما عبد الخالق شقيقه الأصغر فلم يصدق ما جري إلي الآن ويقول: أصر أن يخطب لي قبله, وترك لي شقته لأتزوج بها ووعدني بأن يجهزها بأفضل وأغلي الأجهزة حتي لو كان ثمن ذلك أن يعمل ليل نهار. ومع أن فؤاد ترك المدرسة مبكرا لكنه كان يهتم لأمر أخيه الأصغر ويصر علي أن يكمل تعليمه برغم ظروفهم واحتياجهم للمال. يقول محمود شقيق الشهيد فؤاد الأصغر: كان دائما يوصيني بالمذاكرة وحضور المدرسة, ويتمني لي أن أكون أفضل منه, ودائما يقول لي اتعلم وأنا هصرف عليك حتي لو هبات من غير عشا, ثم بكي محمود وقال: مفيش حد هيهتم بيا ولا يصرف عليا, وأنا هاكون مكانه عشان أعوض أمي وبعفوية الطفولة قال: أنا عاوز الرئيس السيسي يجيب حق أخويا من الإرهابيين وأنا هروح أحارب معاه وارفع علم مصر في سيناء. ويؤكد السيد محمد فودة ابن عم الشهيد فؤاد أنه كان رجلا بمعني الكلمة ودائم الابتسامة وكريم وعند مستوي المسئولية بعد وفاة والده. أما جدته لوالدته فقد تحدثت إلينا وهي تصرخ في وجه الإرهابيين لماذا تقتلون أبناءنا, مضيفة بأن فؤاد كانت أخلاقه عالية, ومحبوب من الجميع, كان زاهدا حتي في الأكل والشرب ولا يرغبهم. وفي الختام سألنا أم الشهيد ماذا تريدين فأجابت بدون تردد: القصاص من القتلة والثأر لدم فؤاد وزملائه ولا أقل من ذلك حتي تنطفي نيران قلبي, والاهتمام بإخوته وتدبير فرصة عملهم حسب وعد المسئولين, وإذا كان هناك فرصة للحج أو العمرة سأكون سعيدة بها.