يتمهل قليلا قبل أن يدخل إلي الفصل, يقف أمام الباب وينظر إلي الناحية الأخري أويتشاغل بالنظر إلي هاتفه ريثما يعود التلاميذ الصغار إلي مقاعدهم, يتقدم بخطوات وئيدة, يغلق الباب خلفه برفق, يتوجه إلي وسط القاعة, يضع أوراقه علي الطاولة الصغيرة, يتجه إلي أبنائه وأحبابه الصغار بابتسامة عريضة وبشاشة تنير وجهه, يلقي عليهم السلام, يجيبون في صوت متناغم: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته, يشير إليهم: اجلسوا بارك الله فيكم. بخط جميل كتب علي السبورة السوداء تاريخ اليوم, بدأ بالتاريخ الهجري أعلي اليمين وعلي اليسار كتب التاريخ الميلادي. وفي الوسط كتب بخط كبير: قرآن كريم, وتحتها بخط أصغر: تسميع, سرت همهمة بين التلاميذ, استدار ونظر إليهم, علت أصواتهم محتجين: لم نراجع يا أستاذ! تقدم نحوهم صامتا, سار بين المقاعد مطرقا حتي وصل آخر الفصل, تلاشت أصواتهم وعم السكون, قال في نبرة عتاب: نحن تلاميذ شطار, نحفظ كتاب الله, ودائما مستعدون, ألهبت الكلمات حماهم فصاحوا في صوت واحد: مستعدون يا أستاذ/ ابتسم في رضا: من يقرأ علينا أول سورة الرحمن؟ ارتفعت الأيدي وعلا الصخب: أنا يا أستاذ, أنا يا أستاذ, وقف أمام أحدهم, وقال: اقرأ يا عبدالرحمن أول سورة الرحمن! انطلق الصوت الصغير يتلو ويرتل في خشوع, وزملاؤه ينصتون وقد علتهم السكينة والوقار. ربع قرن من الزمان أوأكثر قليلا وهويعمل في مهنة التدريس, تخرج الكثير من أبنائه وعملوا في شتي المهن ووصلوا إلي أعلي المراتب الوظيفية وبعضهم صار زميلا له في معهده الابتدائي. يعرفه أهل القرية ويعرفهم, تربطه بهم قرابات وصداقات ويحملون له تقديرا كبيرا وامتنانا وعرفانا, فهومعلم أبنائهم الذي يحبونه كثيرا ويخافونه قليلا, يحبونه لابتسامته الودودة وبشاشة وجهه وتبسطه في التعامل معهم وتفهمه لنفسيتهم ويخافونه لحزمه وشدته مع المهملين والمقصرين. يعتبر الأستاذ حمودة عمله رسالة يؤديها, لا ينظر أبدا إلي الجانب المادي. دخل مدرس الابتدائي محدود لكن البركة كثيرة والرضا موجود والقناعة كنز, تمضي الأيام بحلوها ومرها, صعوبات الحياة تزداد يوما بعد يوم, خاصة أن الأبناء يكبرون ومطالبهم تزداد, والأسعار تعلو وتعلو حتي تحلق في السماء, ويصبح توفير الضروريات أمرا غاية في الصعوبة, ولا يهون الأيام علي الأستاذ حمودة إلا رؤية أبنائه وبناته, أوالذين يعلمهم في المعهد, وقد كبروا وصاروا رجالا ونساء ناجحين في حياتهم ومتفوقين في أعمالهم, يلقونه بالحفاوة والتقدير, ينحنون ليقبلوا يده ورأسه محبة واعترافا بالجميل. ذات مساء طرق باب الأستاذ حمودة خاطب لكبري بناته, أهلا وسهلا, وجرت الأمور بيسر وسهولة, لا حاجة للسؤال عن العريس, فأهل القرية يعرفون بعضهم معرفة كافية, تم الاتفاق ووجد أبوالعروس نفسه مطالبا بتجهيز بنته, ولا يملك من حطام الدنيا إلا راتبه, لا مدخرات, اللي جاي علي قد اللي رايح, لا مشكلة, يحلها حلال, لجأ الأستاذ حمودة لأول مرة في حياته إلي الشراء بالتقسيط ثم إلي الاستدانة, تزوجت البنت وتركته مدينا يدفع جزءا كبيرا من راتبه سدادا للديون ووفاء للأقساط الشهرية, وتكرر الأمر مع البنت الثانية والثالثة في فترات زمانية متقاربة. في البداية اقترض الأستاذ حمودة20 ألف جنيه من بنك القاهرة, وظل يسدد الأقساط بانتظام حتي سدد منها12 ألفا, قبل أن يعجز عن سداد باقي الأقساط وقيمتها ثمانية آلاف جنيه, وكان أيضا مدينا بمبلغ50 ألف جنيه, ووقع علي إيصال أمانة لضمان هذا الدين, وقد سدد منها35 ألفا, قبل أن يعجز عن سداد خمسة عشر ألف جنيه, وأيضا مبلغ20 ألف جنيه بإيصال أمانة ثان, سدد منها15 ألفا قبل أن يعجز عن سداد خمسة آلاف جنيه. لقد بلغت ديون الأستاذ حمودة في فترة تجهيز بناته للزواج90 ألف جنيه, ولأنه كان جادا في سداد ديونه مستعينا بالله, فقد سدد منها62 ألفا, أي أكثر من ثلثيها, ولكنه تعثر وأصبح عاجزا عن سداد باقي المبلغ وقيمته28 ألف جنيه, وصار قاب قوسين أوأدني من دخول السجن, حيث قام البنك بإنذاره, واضطر الدائنون لمقاضاته وهم يملكون إيصالات الأمانة. لقد تبدل الحال بالأستاذ حمودة, وأعطته الدنيا ظهرها, فبعد أن كان يسير واثقا في شوارع القرية رافعا رأسه معتزا بما قدمه لطلابه وبما علمهم إياه, ها هويمكث في بيته لا يخرج منه إلا للضرورة هربا من الدائنين ومن أعين الناس, وبعد أن كان يحلم بإنهاء خدمته ويحصل علي تكريم يليق بتاريخه وبسنوات خدمته أصبح مهددا بالسجن والفصل من الوظيفة. يناشد حمودة عبد الواحد أبوالنجا دراز, المدرس بمعهد شرشابة الابتدائي. التابع لمنطقة طنطا الأزهرية, صاحب الفضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب التدخل لمساعدته, حماية له من السجن, أوأن يناله مصير لا يليق بمدرس أزهري وهب حياته ونفسه لخدمة العلم في مؤسسة عريقة تعد حارسا للإسلام الوسطي ألا وهي الأزهر الشريف.