لقد كان في تاريخ مصر طفرات.. تفصل بينها اغفاءات, وبعد كل اغفاءة, كان الكل يعتقد أن مصر قد إنتهت, ولن يقوم لها قائم, لكن سرعان مايتبدد الظلام, فتبدأ صحوة جديدة تتابع سيرها وتواصل انجازها وثورة25 يناير نموذجا, فإذا كان تاريخ الوزارة المصرية متنا حافلا, فإن ماحدث في السنوات الماضية من توزير رجال أعمال فاسدين, لايعدو أن يكون سطرا علي الهامش. وللتدليل علي صحة وجهة النظر هذه, فلقد كان لحكماء مصر الأقدمين حكم ونصائح رائعة, خلفوها لنا مسطورة علي أوراق البردي وغيرها, وإننا لواجدون فيها رسالة صدق وحكمة, يرسل بها حكماء مصر القديمة الي أجيال الوزراء علي مر العصور, مثلها مثل شعاع الشمس ينفذ في حوالك الظلمات, منها: إذا كنت وزيرا تصدر الأوامر للشعب, فابحث عن كل سابقة حسنة, حتي تستمر أوامرك ثابتة لاغبار عليها, إن الحق جميل وقيمته خالدة, ولم يتزحزح مكانه منذ خلق, لأن العقاب يحل بمن يعبث بقوانينه, وقد تذهب المصائب بالجاه, لكن الحق لايذهب, بل يمكث ويبقي, ارع الحق وعامل الجميع بالعدالة من أقوال الوزير الحكيم بتاح حتب في القرن السابع والعشرين ق. م, وتمدنا بأقدم نصوص موجودة في أدب العالم كله للتعبير عن السلوك المستقيم الذي يتوجب علي الوزير ان ينتهجه في كل زمان ومكان. وتضطرنا المعلومات التي تزودنا بها المصادر الجديرة بالثقة إلي أن نعتبر, أن أسس الادارة الرسمية, قد وطدت في ظل الأسرة الفرعونية الأولي, إذ تحمل الأختام الاسطوانية لتلك الفترة أسماء الموظفين, وكان تسليم ختم اسطواني للموظف, بمثابة تثبيت له في وظيفته. وهناك دلائل واضحة علي أن إدارة البلاد كانت تقوم علي مبدأ تفويض السلطة الملكية, وكان الفرعون هو المصدر الحي للقانون, وفي البداية لم يكن هناك وزير واحد يحتل مركزا بين الملك والفروع المختلفة للإدارة, إذ لم يكن هناك رئيس وزراء, أما في عهد الأسرة الثالثة, فقد أدخلت الوزارة كقمة للبيروقراطية. ولم يكن من بين وظائف الدولة المرموقة طوال تاريخ مصر القديمة, ما هو أعز عند الشعب وأحب الي قلبه من وظيفة الوزير, ووصل بعض الوزراء الي درجة التقديس, فكان الشاعر إذا وصف قصر الملك, لاينسي ان يضيف الي وصفه ان فيه: وزيرا يتولي الحكم, عطوفا علي مصر. ولكثرة مانسب من الحكم والأقوال المأثورة الي بعض الوزراء, أصبح الوزراء يسبغون علي أنفسهم العديد من الصفات تعكس هذا المركز المرموق منها: رئيس عظماء الوجهين القبلي والبحري, والثاني بعد الملك في ردهة القصر, وكبير القضاة, والمشرف علي بيتي الخزينة ومخزني الغلال, والمشرف علي جميع أشغال الملك, ومن الممكن إضافة تفاصيل أخري لهذه, فالوزير منتوحتب من عهد سنوسرت الأوليفخر بأنه كان محبوبا لدي الملك أكثر من جميع سكان القطرين, وأنه كان محبوبا لدي أصحاب الملك وقويا بين امرائه, وكان ذا سطوة في القطرين, والأول في مدن مصر والبلاد الأجنبية, والصديق الوحيد للملك, وكان العظماء يسعون إليه عند باب القصر منحنين. وقد حفظت لنا آثار الدولة القديمة, أسماء بعض الوزراء العظماء, منهم بتاح حتب الوزير الحكيم الذي ترك لنا ذخيرة من النصائح الأخلاقية, تولي جل اهتمامها لما يجب ان يكون عليه الوزير. ولاحترام العادات والتقاليد وسلطة الكهنة, أكثر من اهتمامها بمشيئة معبوداتهم. ونجد أيضا من وزراء الدولة القديمة امحوتب وهو وزير عظيم في الأسرة الثالثة, وهناك وزير آخر من الحكماء يدعي كاجمني وتعرف له وصايا حكيمة أيضا, كان قد ألقاها علي ابنه, ومنهم وشبتاح أحد كبار وزراء الأسرة الخامسة, كان رئيسا للوزراء ورئيسا لمهندسي العمارة أيضا, ومنهم ميرا الذي كان وزيرا في عهد الفرعون تتي رأس الأسرة السادسة, وقبره من أروع المصاطب الموجودة بسقارة. وواضح ان صلاحيات الوزير كانت واسعة جدا, لايفوقها الا صلاحيات وسلطة الملك المطلقة, وكان الملك يجتمع بالوزير كل صباح, ليرفع له هذا تقريرا عن حالة البلاد, ويعرض عليه اقدم القضايا, مع الأخذ بعين الاعتبار ان سلطة الوزير بالمبادرة كانت عظيمة, فقد كان من صلاحياته ان يعين الموظفين, ويصدر القوانين والمراسيم باسم الملك, ويبت في معظم القضايا, فإنه كان القاضي الأعلي, ورئيس السجلات, ورئيسا لكل دائرة حكومية, وكان رسله يتجولون في البلاد, لينقلوا أوامره الي المديرين المحليين( المحافظين) ويرفعوا له التقارير عن الأحوال التي يشاهدونها, ومن ألقابه أنه: ذلك الذي يرفع اليه كل مايجري وكل مالايجري وكان الوزير ينوب عن فرعون حال تغيبه في الغزوات وأعمال الفتح, ويخلفه في المظاهر الكبري كرئاسة الأعياد الدينية, وكانت الإدارة التي تعمل تحت أشراف رئيس الوزراء مقسمة الي دوائر أو وزارات كثيرة, أولها وزارة المالية, برئاسة خازن الملك, وهي المستودع المركزي لجميع الضرائب والمستحقات للدولة, وكانت لها فروع ذات مخازن في كل أنحاء البلاد, ولم يكن وزير المالية مسئولا عن جمع المحصول المحلي المدفوع الضرائب وتصريفه فحسب, بل كان مسئولا ايضا عن الحملات الملكية التي تجلب المواد الخام كالنحاس والذهب والخشب من الخارج, لذلك كان يحمل بعض الأحيان لقب( قائد أو أميرال) وكان تحت تصرفه جيوش وسفن. والدائرة او الوزارة الثانية هي وزارة الزراعة, وبسبب أهمية الزراعة, فقد كانت كل معاملة تتعلق بالارض, تسجل في ديوان رئيس الوزراء, وبعد الأسرة السادسة, أصبح وزير الزراعة لأسباب عملية في الغالب, عمدة المدينة اي الرئيس والحاكم العسكري للمسكن الملكي, وفي هذه الوزارة كان رئيس الحقول يتصرف بالقضايا الزراعية, بينما كان سيد الهبات الملكية, يعني بكل مايتعلق بالحيوانات. ومن الجدير بالتنويه اليه, أن هذه الدوائر أو الوزارات, لم تكن مفصولة فصلا دقيقا, فقد كان الوزير قبل ان يتقلد منصبه, يتقلد وظائف مختلفة, متنقلا من ادارة الي اخري, مارا أحيانا في مختلف أنواعها, حتي الوظائف المحلية منها, فالشباب ذوو الكفاءات, أو أبناء اولئك الذين يثق بهم الملك أو يفضلهم علي سواهم. كانوا يربون في البلاط الملكي, فيكتسبون خبرة إدارية بالمرور في مراكز متتالية, يملأونها بمعاونة الكتبة الأكفاء في الدوائر ذات العلاقة, وبالنتيجة, نستطيع أن ندرك من اختام سدادات الجرار. ومن البطاقات المكتوبة, أنه كانت هناك إدارة مالية فعالة, ورقابة مركزية للزراعة والري, ونظام قضائي منظم, ونجد أيضا لقب كاتم الأسرار الذي ربما يوحي بمايسمي وزارة الأمن وهي ضرورة من ضروريات العصر الحديث. وفي عهد الدولة الوسطي(2055 1795 ق. م) كان رئيس الوزراء في مقدمة موظفي الملك, يرأس حكومته ويعاونه عدد كبير من الوزراء, فكان لرئيس الوزراء الإشراف الأعلي علي المسائل الخارجية والداخلية, وفرض الضرائب, وتجنيد الجنود, والرئيس الأعلي للقضاء, والمشرف الأعلي لقوات الأمن. أما في الدولة الحديثة, فإن منصب رئيس الوزراء, قد طرأت عليه بعض التعديلات, وربما يبدو من البيانات الضئيلة التي لدينا, أنه كان هناك رئيسان للوزارة, أحدهما لمصر العليا, والآخر لمصر السفلي, ومن الواضع ان المظهر الوحيد لوحدة الرئاستين كان يتمثل في شخص الملك, وهناك رأي يعتقد صحته الكثيرون, أن هذه التعددية, إنما استجدت بسبب اتساع رقعة البلاد وكثرة الأعمال, بيد أن سلطة وصلاحيات رئيس الوزراء, ظلت كما كانت عليها سابقا. وفي عهد الأسرة الثامنة عشرة(1550 1295 ق.م) وفي عهد الفرعون تحتمس الثالث برز الوزير رخميرع الذي تعتبر مقبرته في طيبة من أجمل مقابر هذا العهد, ومعظم فترة وزارته, كانت ايام تحتمس الثالث, ثم استمر فترة الملك امنحتب الثاني وهذا الوزير يمكن اتخاذه مثلا لأقرانه من الوزراء, فقد وجد علي مقبرته منقوشا الخطاب الذي كان يوجهه فراعنة مصر, كلما أسندت مسئولية الوزارة الي رئيس وزراء جديد: أعلم أن الوزارة ليست حلوة المذاق, بل إنها مرة فالوزير الأعظم هو النحاس الذي يحيط بذهب بيت سيده, وأعلم ان الوزارة لاتعني اظهار احترام أشخاص الأمراء والمستشارين, وليس الغرض منها ان يتخذ بها الوزير لنفسه عبيدا من الشعب, واعلم انه عندما يأتي إليك شاك من أي بقعة في البلاد, فعليك ان تأخذ بعين الاعتبار, أن كل شيء يجري وفق القانون. وأن كل شيء قد تم حسب العرف الجاري, فتعطي كل ذي حق حقه, وأعلم ان كل مايفعله الوزير لايبقي مجهولا. وبعد ذلك يضع الفرعون لرئيس وزرائه التفاصيل التي يجب عليه ان يسير علي نهجها في القضايا التي تقدم إليه: لاتنس ان تحكم بالعدل, لأن التحيز يعد طغيانا علي الله, وعامل من تعرفه معاملة من لاتعرفه, المقرب من الملك كالبعيد عنه, إن الناس ينتظرون العدل في كل تصرفات الوزير, وهي سنة العدل المعروفة منذ ايام حكم الاله في الأرض. ونستطيع ان نستمر طويلا في ضرب الأمثلة الدالة علي توخي وزراء مصر القديمة للفضيلة والعدالة والحق, ونكتفي بما وصلنا من عصر مبكر مثل عصر الأهرام, بأن الوزير العادل خيتي قد صار مضرب الأمثال بسبب الحكم الذي اصدره ضد أقاربه, عندما كان يرأس جلسة للتقاضي, كانوا فيها أحد الطرفين المتخاصمين. ونحن لايسعنا في أيامنا وبعد ثورة25 يناير التي أماطت اللثام عن مخازي وزراء مصر في أواخر عهد الرئيس الراحل, الا ان نعجب مما أوتيه هؤلاء القوم من حكمة, لاتفقد قيمتها ولا روعتها, مهما توالت الأجيال وتعاقبت القرون, وما أحوج وزراء مصر القادمين الي ان يستخلصوا منها العبر.