النمل من المخلوقات الكثيرة التي تعيش علي سطح الأرض, وهو كائن منظم جدا, إلا أنه ما زال يبني مساكنه بنفس الطريقة التقليدية منذ آلاف السنين, وكذلك الفئران مازال يتم اصطيادها بنفس الطريقة التقليدية أيضا منذ آلاف السنين لأن هذه الكائنات وغيرها فاقدة للإحساس بالزمن وتعيش حياة نمطية بلا تجديد أما الإنسان فهو الكائن الوحيد الذي يمكن أن يستفيد من تجاربه السابقة وهو أيضا الكائن الوحيد القابل للتطور والرقي بأدواته الحياتية فقد انتقل من طور البدائية إلي طور التقدم المذهل في العصر الحديث حتي أصبح يسبح في الجو مثل الطيور ويغوص في المياه مثل الأسماك ولم يتأت له ذلك إلا من خلال شيئين هما تجديد العقل والفكر, والعمل باليد لذا بات تجديد العقول دينيا أمر ضروري هذه الأيام ولا يقل في الأهمية عن التطور الهائل الذي يشهده العالم حاليا في كافة مناحي الحياة وخاصة في ظل ما نشهده حاليا من قيام بعض الدخلاء علي الدين بمحاولة تجديد العقول والقيام بثورة علي التراث الديني تحت ستار تجديد الخطاب الديني من خلال بث بعض المعلومات الدينية الخاطئة التي يراد بها الباطل لذا يطرح اليوم قضية مهمة علي العلماء ورجال الدين ألا وهي تجديد العقول.. كيف... ومتي... ومن المنوط به ذلك. يقول الدكتور إمام الشافعي محمد حمودي- أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية جامعة الأزهر فرع أسيوط أن التجديد في معاجم اللغة معناه إعادة الشيء إلي سيرته الأولي ولكي نصل إلي مفهوم دقيق لتجديد العقل بعيدا عن معاجم اللغة العربية, لابد أن نفرق بين نوعين من أنواع تجديد العقل, هما تجديد العقل في الأمور الدينية, وتجديد العقل في الأمور الدنيوية. فالمراد بتجديد العقل في الأمور الدينية, الاجتهاد في فروع الدين المتغيرة, والمقيدة بأصوله الثابتة, ببيان السنة من البدعة, وإعادة رونق الدين وبهائه وإحياء من اندثر من سننه ومعالمه ونشرها بين الناس, وكذلك الرد علي أصحاب الأفكار المتطرفة والهدامة فتجديد العقل في الأمور الدينية معناه رد الأفكار المتطرفة والهدامة إلي أصول الدين لتفنيد حقيقتها, أما تجديد العقل في الأمور الدنيوية فهو يعني تبني كل الأفكار والعلوم النافعة للناس في حياتهم, والحث علي الاستزادة منها, وهو ما يعرف بالحداثة, أو نقض القديم والبحث عن كل ما هو جديد يتوافق مع روح العصر والواقع الذي تعيشه الأمة وفيه منفعة مادية وملموسة للناس. فليس من الإحداث في الشريعة ما أنشئه عمر بن الخطاب رضي الله عنه من تدوين الدواوين أو ما يعرف بدواوين الوزارات حاليا فهذا يدخل في باب تجديد العقل الدنيوي في الإسلام, أو ما يعرف في الفقه الإسلامي بالمصالح المرسلة, وهي الأمور التي لم يأمر النبي صلي الله عليه وسلم بفعلها, ولم يأمر بتركها, بل هي متروكة لأهل كل زمان ومكان أن يجددوا فيها من عقولهم بما يتناسب مع ظروف عصرهم فالإسلام صالح لكل زمان ومكان, والمجتمع يتغير بحركة الزمان والمكان وهذا هو مفهوم تجديد العقل الديني والدنيوي. ويقول حمودي إن تجديد العقل لا يجب أن يكون محددا بوقت ما, بل لابد أن يكون علي الدوام وبصفة مستمرة, خاصة تجديد العقل في الأمور الدنيوية, لأن عجلة التقدم لا تتوقف, فلابد من تجديد العقل في كل ما يدعو إلي الرقي بمتطلبات الحياة, والعمل بالأسباب كي لا نتأخر عن ركب الحضارة والتقدم, ولكن تجديد العقل أحيانا يكون واجبا وفريضة شرعية, وذلك إذا تعرضت الأمة للأخطار الجسام, خاصة الأخطار الفكرية التي تدعو إلي الإرهاب التطرف أو الإباحية علي حد سواء ومن الأمثلة التاريخية علي الوقت المناسب لتجديد العقل في الأمور الدينية بصفة خاصة, أن الخوارج كانوا يقولون بأن شق بطن اليتيم وإخراج أحشائه ليس حرام شرعا, ولكن أكل مال اليتيم حرام شرعا, بحجة أن القرآن الكريم قد حرم أكل مال اليتيم في سورة النساء ولم يحرم قتله, أما في هذا التوقيت الخطير أصبح علي الأمة تجديد العقل, بالرجوع إلي أصول الدين والرد عليهم بأن الذي حرم أكل مال اليتيم, من باب أولي أن يحرم دمه, ما أن ذلك لم يرد صراحة في القرآن الكريم, ولكن المنطق والعقل يؤكد علي ذلك, وفي الوقت الحالي أصبح تجديد العقل في الأمور الدينية أيضا فريضة شرعية, فهناك مثلا الجماعات المتطرفة التي يدعو إلي قتل( الآخر) المخالف لهم في الدين والفكر والاعتقاد, وفي المقابل هناك من يدعو إلي( لمثلية الجنسية) أمام هذه الأخطار الفكرية وغيرها أصبح من الواجب علي الأمة في هذا التوقيت تجديد العقل, لأن كلا الطرفين يدعو إلي القضاء علي الجنس البشري إما بالطريقة المباشرة( قتل الآخر) وإنكار سنة الله في الكون( الاختلاف بين البشر), وإما بالطريقة غير المباشرة( المثلية الجنسية) التي يترتب عليها انتفاء إنتاج العنصر الأساسي لإعمار هذا الكون وهم الأطفال. ويضيف الدكتور عبد العزيز عباس فرغلي- مدرس الدعوة والثقافة الإسلامية بجامعة الأزهر فرع اسيوط- أن الله كرم العقل بأنه جعله مصدرا للمعرفة فقد جاء القرآن الكريم مخاطبا العقول في جميع آياته ومدافعا عن العقل لأن الدين الإسلامي والمعرفة الصحيحة يقومان علي العقل وجعل الله العقل أيضا أساسا للتكليف في التشريع والعبادات فرفع القلم عن أولئك الذين لا يتمتعون بكامل قواهم العقلية فقد ورد في الحديث الشريف رفع القلم عن ثلاثة: النائم حتي يستيقظ, والمجنون حتي يعقل, وعن الصبي حتي يشب( رواه الإمام أحمد في مسنده) ومن هذا يتضح لنا أن هناك علاقة وثيقة ولصيقة بين العقل والشرع, فالعقل لا يهتدي إلا بالشرع والشرع لا يثبت إلا بالعقل فالعقل كالأساس والشرع كالبناء ولن يغني أساس ما لم يكتمل بناءه ولن يثبت بناء ما لم يكن له أساس, ومن هنا وجه الإسلام إلي تجديد العقول وعدم جمودها ووقوفها عند حد معين وذلك فيما لا يتعارض مع النصوص الشرعية فيجب علي العقل الاستسلام للأمر الشرعي حتي ولو لم يدرك الحكمة أو العلة في ذلك لأن الدين ليس بالرأي ولو كان كذلك كما قال سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه-: لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولي بالمسح من أعلاه فيما عدا ذلك حث الإسلام علي تجديد العقول وذلك عن طريق توجيه العقل إلي تأمل الظواهر الكونية وذلك حتي يصل إلي معرفة المسبب له عن اقتناع عقلي قال تعالي-: إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون( البقرة164) كذلك يأتي تجديد العقول في رفض التقليد للآراء والمعتقدات الموروثة عن السابقين بلا دليل أو برهان, قال تعالي-: وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون( البقرة170), لذا طلب الإسلام من أهله أن يطالبوا الناس بالحجة لأنه أقامهم علي سواء المحجة قال تعالي-: قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين( البقرة111), لذا فاني أري أن تجديد العقول يتم من خلال شرح وتأويل النصوص بما يتناسب مع معطيات العصر حتي لا تطغي الموروثات الشعبية علي النصوص فتوجهها إلي مساندة الخرافات في السلوك الاجتماعي, وتمكين المفاهيم اللامعقولة في فكر المؤمنين فتغيب عقولهم في بحور من الأوهام, قال تعالي: بل قالوا إنا وجدنا آباءنا علي أمة وإنا علي آثارهم مهتدون( الزخرف22), ومما سبق فأننا نجد أن تحديد العقول علي الوجه الذي ذكرناه ينبغي أن يناط به العلماء من رجال الدين أساتذة جامعات إسلامية والأزهر وأصول الدين والوعظ والإرشاد والفتوي والإمام والخطيب الجيد والداعية الإسلامي والعاملين في حقل الدعوة شريطة أن يكون من أهل هذا الدين المؤمنين به علي النحو الذي جاء به رسول الله صلي الله عليه وسلم وأن يكون من المتفقهين فيه المتمسكين به في أقوالهم وأفعالهم لا يظهر منه تهاون فيه أو خروج عليه وأن يكون خبيرا بواقع الأمة عارفا بعللها وأن يكون محيطا بالأحوال العالمية من حوله والتي لها علاقة بأمته وأن يكون أيضا متحليا بطلاقة اللسان ورباطة الجأش وجهارة الصوت وحسنه. ويوضح الدكتور عادل عبد الرحمن أستاذ الشريعة الأسلامية بجامعة أسيوط- لقد باتت الحاجة ملحة لأن يلعب العقل دوره الفعال والمثمر في تجديد العلوم وبناء الحضارة وهنا يجدر بنا أن نقول إن الإسلام دعا في القرآن الكريم إلي النهوض المعرفي والتطور والسير في الأرض واكتشاف الجديد فيها والتطور في مجالات المعرفة المختلفة فلقد ورد لفظ عقل في القرآن الكريم بعدة صيغ وألفاظ منها( تعقلون) وردت في القرآن أربعا وعشرين مرة, و(يعقلون) وردت اثنتين وعشرين مرة, ولفظ( نعقل) مرة واحدة, و(يعقلها) مرة واحدة, ولفظ( الألباب) ست عشرة مرة, وهذه الأعداد تدل علي مكانة ومنزلة العقل في القرآن الكريم ويدل أيضا علي أن القرآن الكريم لم يذكر العقل إلا في مقام التعظيم والتنبيه إلي وجوب العمل به والرجوع والتحاكم إليه ولا تأتي الإشارة إليه عارضة ولا مقتضبة في سياق الآية بل هي تأتي في كل موضع من مواضعها مؤكدة جازمة باللفظ والدلالة, كذلك كرمت السنة النبوية العقل ونظرت إليه نظرة فيها إجلال وتقدير واحترام حيث جعله الرسول أصل كل شيء فقد جاء في الحديث الذي رواه البيهقي في سننه أن رسول الله قال:.... والعقل أصل ديني وكذلك أوصي بالعقل وجعله النحاة يوم القيامة لأنه به يعرف ما أمرنا به ونهينا عنه حيث روي أبو داود في سننه أن رسول الله قال: اعقلوا عن ربكم وتواصوا بالعقل تعرفوا ما أمرتم به ونهيتم عنه واعلموا أنه ينجدكم عند ربكم وجعلت السنة النبوية العقل مدار التفاضل بين الناس يوم القيامة فقد جاء في الحديث النبوي الشريف الذي رواه البيهقي عن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله: بما يتفاضل الناس في الدنيا ؟ قال: العقل, قلت: وفي الآخرة قال: العقل, قلت: أليس يجزون بأعمالهم ؟ فقال: يا عائشة وهل عملوا إلا بقدر ما أعطاهم الله عز وجل من عقل ؟ فقد ما أعطوا من العقل كانت أعمالهم وبقدر ما عملوا يجزون فانظر إلي هذه المنزلة والمكانة التي أعطت للعقل بحيث جعل هو مقياس التفاضل في الدنيا والآخرة ومن كل ما سبق يتضح لنا أن الدين الأسلامي أهتم بالعقل ودعا إلي التأمل والتدبر لمواكبة صحيح الدين مع كل العصور وفي زمننا هذا الذي أخترقت فيه الفضائيات كل المنازل وسيطرت علي العقول في بث السموم من خلال بعض البرامج التي تستعين بمن يدعون باحث إسلامي او مفكر إسلامي ممن لهم مخططات خاصة ويستعينون بالنصوص المقتطعة من القرآن لتجديد عقول الشباب بالأفكار الهدامة مثل قولهم أن الله عز وجل نهي عن الصلاة مستعنين بقول الله عز وجل ولا تقربوا الصلاة لذا يجب علي الدولة أن تتصدي لمثل هؤلاء الشرذمة الذين يريدون بث سمومهم في عقول الجميع من خلال وضع ضوابط محددة للفضائيات في الأستعانة بأولي الأمر من المتخصصين من علماء الأزهرولا يقصد بذلك اي خريج ازهري بل يقصد بالأمر فقهاء الدين من العلماء وللازهر الشريف مطلق الحرية في تحديد من يتحدث في شئون الدين ويفسر للجمهور صحيح الدين بما يتواكب مع العصر الحالي وفقا للنصوص القرآنية وهنا تستطيع الدولة تجديد العقول بالمعلومات والقيم الصحيحة التي سينعكس أثرها علي المجتمع.