الرئيس السيسى محق تماما فى طلب «الثورة الدينية» و«تجديد الخطاب الدينى»، وسواء استعملت تعبيرات الرئيس، أو أحللت تعبيرات من نوع «الثورة فى فهم الدين» و«تجديد الفهم الدينى»، فما من ثورة على الدين كما يقول المتنطعون الأشد جهلا، فالفرق هائل بين الدين والفهم الدينى، الدين ثابت راسخ، والأفهام الدينية متغيرة متحولة بتقلبات الزمان والمكان والتكوين العقلى والموقف الاجتماعى، الدين مقدس، والأفهام الدينية ليست كذلك، فلا قداسة لأحد فى الإسلام بعد الوحى والنبى، ولا كهنوت، ولا طبقة رجال دين، بل علماء ومتفقهون، يؤخذ عنهم ويرد عليهم، ودونما حرج عقلى ولا شعور بإثم دينى . نعم، الإسلام ليس كهنوتا، بل عقيدة وعبادة وشريعة، ومناط الالتزام الإيمانى محصور فى القرآن الكريم والسنة النبوية المتواترة، ثم ضع نقطة فى آخر السطر، وعقيدة الإسلام هى التوحيد بلا شبهة، وأركان الإسلام الخمسة محددة على نحو قاطع، والشريعة واردة فى مائتى آية من القرآن ذى الستة آلاف آية، والسنة النبوية ملزمة بشروط، أهمها أن تكون الأحاديث متواترة قطعية الورود قطعية الدلالة، وبقدر اتفاقها واتساقها وتكاملها مع الوحى القرآنى، وإعمال قواعد التمييز بين خصوص السبب وعموم اللفظ، أو عموم السبب وخصوص اللفظ، فرب العالمين يقول لنبيه «قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليه»، والنبى عليه أفضل الصلاة والسلام يقول لنا «ما كان من أمر دينكم فإلى، وما كان من أمر دنياكم فأنتم أعلم به»، وهو ما يعنى ضرورة وضع حدود للتمييز بين ما هو دين وما هو دنيا، والتمييز شىء مختلف عن الفصل والعزل، والعبرة بفهم معنى شمول الإسلام على حقيقته، فالإسلام شامل وصالح لكل زمان ومكان، ولكن بشروط الفهم الدقيق للشمول والصلاح، فثمة دائرتان متداخلتان فى الفهم الإسلامى الصحيح، دائرة إلزام إيمانى، يحكمها النص الدينى المقدس، وهو لا يقبل الإضافة، وثابت على حاله منذ انقطاع الوحى ووفاة النبى، ومع قابلية النص الدينى لاجتهاد إنسانى فى تطبيقاته الدنيوية، وخارج دائرة النص الدينى المحدد، توجد دائرة أوسع، لا يحكمها النص الدينى القطعى، وتهتدى بقيم إسلامية عامة مجردة، من نوع التوحيد والعدالة والمساواة وأولوية الجماعة، وهى دائرة اجتهاد وخلق إنسانى محض، تتنوع فيها الآراء والصياغات والنظريات فى زماننا، وفى زمان من قبلنا، وفى زمان يأتى بعدنا، وإلى أن يرث الله الأرض وما عليها، فالأصل فى الإسلام هو استقلال السياسة عن الشريعة فيما لم يرد فيه نص دينى قطعى . والشريعة شىء، بينما الفقه شىء آخر، الشريعة ملزمة دينيا ودنيويا، بينما الفقه ليس ملزما لا فى دنيا ولا فى آخرة، الشريعة إلزام إلهى، والفقه فهم وضعى بشرى، والمذاهب الفقهية ليست دينا، بل مجرد طرق فى الفهم الدينى، والفقهاء ليسوا أنبياء ولا محتكرين للفهم الدينى، وقد اختلفوا وخلافهم رحمة، واختلف فيهم الواحد مع نفسه، فالإمام الشافعى مثلا، اختلفت أحكامه الفقهية حين انتقل فى زمنه من العراق إلى مصر، وطبيعى أن يظل الاختلاف فى الاجتهاد ساريا إلى يوم الحشر، فالنص الدينى المقدس ثابت لا يضاف إليه، بينما تتغير الدنيا وتتحول، وتزول مسائل وتستجد أخرى، فلم يعد من مكان لمسائل من نوع السبايا وملك اليمين وإرضاع الكبير وفرض الجزية والأحكام السلطانية وغيرها، وكلها أقوال تخص أصحابها، وتنصرف إلى مسائل زمانهم، ولا تلزم مسلما فى زماننا، ولا يجرح إنكارها إيمانه، فالقاعدة الفقهية تقول أن لكل حكم علة، وأن الحكم ينتفى بزوال العلة، ويدور معها وجودا وعدما . هذه كلها بديهيات فى الفهم الإسلامى، لكنها تغيب عمدا عند المتاجرين بالدين، وهم لا يتاجرون مع الله، بل يتاجرون مع الشيطان، فليس فى الإسلام سلطة ولا نهى ولا أمر لرجال دين، ولا لائحة تعليمات معلقة على حائط، ولا زى بذاته، ولا مصادرة على حرية العقل فيما ليس فيه نقل، ولا شىء اسمه دولة الخلافة، فلا يوجد نص على هذه الخلافة فى قرآن ولا سنة صحيحة، بل كانت دولة الخلافة مجرد حدث تاريخى بشرى جدا، وظهرت الدولة الدينية عندنا وعند غيرنا فى العصور الوسطى، وكان لها ما لها وعليها ما عليها، فتاريخ المسلمين كتواريخ غيرهم فيه الصالح والطالح، كانت دولة الخلافة صالحة بعامة على عهد الخلفاء الراشدين الأربعة، والذين اختلفت طرق اختيارهم وتنصيبهم ومسمياتهم الدنيوية، ولم يكن أحدهم ظلا لله فوق الأرض، ولا نبيا بعد النبى الخاتم، ثم وقعت الفتنة الكبرى، وقام الملك العضود، واتخذ لنفسه مسميات عائلية من «الأموية» إلى «العباسية» إلى «العثمانية»، خرج عليها من خرج، وخضع من خضع، وبقوة دنيوية خالصة، تبنى الحضارة أو تنتهى إلى الخسارة، وبمسوح دينية كذابة، تنتهك شرع الله، وتفترى الكذب على الرسول، ولم يكن قيام الخلافة «الأموية» إعلاء لشأن الإسلام، ولا سقوط الخلافة «العثمانية» نهاية للإسلام، فقد كانت الأخيرة من أحط صور الحكم التى عرفها التاريخ الإنسانى، وقد قامت ما تسمى الحركة الإسلامية لإحياء هذه الخلافة التى زالت بزوال زمانها، وتطورت من حركة إخوان حسن البنا وسيد قطب إلى «داعش» البغدادى، من خلافة «السيفين» الإخوانية إلى خلافة قطع الرءوس، فداعش هى أعلى مراحل تطور ما تسمى عبثا بالحركة الإسلامية، وهى حركة تختطف الإسلام من أهله، وتلغ فى دماء المسلمين قبل غيرهم، وتسعى إلى كيان مشوه بائس تسميه الخلافة، وتنسبه زورا وبهتانا إلى الإسلام وصميم الاعتقاد الدينى . والمهمة المطلوبة هى استرداد الإسلام للمسلمين، وهى ليست مقصورة على الأزهر وعلمائه وطلابه، ولا على مناهجهم المليئة بالحشوات الضلالية وخرافات الكتب الصفراء، بل المهمة «فرض كفاية» على عموم الناس، و«فرض عين» على كل من يفهم ويقدر .