حين يجتمع اثنان ويبدآن حديثا في الشأن العام يدور سؤال واحد لا يتغير: ماذا حدث لمصر؟.. ورغم أن السؤال تقريبا واحد نسأله جميعا, بأشكال وصيغ مختلفة, لكن الإجابة تتغير وتتبدل, فالبعض يعتبر أزمة مصر تكمن في غياب تبادل السلطة, ووجود حزب واحد قوي ومسيطر, وأحزاب صغيرة وأخري هامشية غير قادرة علي المنافسة الحقيقية, مما يسمح بتناوب السلطة بشكل حقيقي. لكن آخرين يعتبرون ان أكبر مشاكل مصر تكمن في عدم ترجمة العدالة الاجتماعية بشكل حقيقي ومؤثر, بدليل أننا حتي الآن لا نعرف أعداد الفقراء, ولا نزال نسعي ونجتهد لمحاصرة الفقر, مما دعا إلي استهدافه في أماكن وجوده كما هو الحال في مشروع الألف قرية الأكثر فقرا. ويري آخرون ان أم المشاكل في مصر هي تدني مستوي التعليم, بشكل خلق لدينا ما يعرف بأمية المتعلمين أي أن خريجي الجامعات والمعاهد العليا والمدارس الفنية يعانون من أمية ثقافية غير خافية علي أحد, إضافة إلي عدم توافق التعليم مع احتياجات سوق العمل مما يؤدي إلي تخريج مئات الآلاف سنويا الذين ينضمون لطوابير العاطلين. وتتعدد وتتنوع الإجابات الأخري, وحتي التنويعات المختلفة علي الإجابة الواحدة, فموضوع تبادل السلطة يقودنا إلي موضوعات أخري مثل الديمقراطية والحريات العامة وحقوق الإنسان, والبعض يربط ذلك أيضا بالتطرف والتشدد وحتي نمو المناخ الطائفي, لكن لا أحد لا يقول أبدا ان أكبر مشكلة في مصر هي نخبتها. والنخبة كلمة واحدة لكنها تتسع لتشمل السياسيين والمثقفين وأساتذة الجامعات, وقادة الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني, ومراكز البحوث والتفكير, والنقابات المهنية, أي أن كلمة النخبة قد تتسع لتشمل مساحة عريضة من الطبقة الوسطي المصرية. وفي أي مكان في العالم تعتبر النخبة هي عقل أي دولة, فمنها تخرج الأفكار الجيدة والمبتكرة, لتعالج ما يعتري الحياة السياسية من ركود, وما يعانيه الاقتصاد من مشاكل, وما تعيشه الحياة الاجتماعية من أزمات, وليس مهمة هذه النخبة أن تعالج المشاكل بيديها أي ليس مطلوبا من' النخبوية' أن يتحولوا إلي' فواعلية', وإنما أن يمارسوا دورهم في معركة الأفكار التي تغير المجتمعات. علي سبيل المثال, حين انتهت الحرب الباردة بانتصار الغرب علي الشرق, توحشت الرأسمالية بشكل غير مسبوق, مما دعا إلي ضرورة البحث عن بديل او إدخال بعض التحسينات علي النظرية السياسية والاقتصادية التي تسود العالم المتقدم. وتفاعلت حالة المخاض بين أوساط النخبة الأوروبية عبر عدة أشكال حتي خرج المفكر البريطاني أنتوني جيدنز بأفكار الطريق الثالث التي جمعت بين حرية السوق التي يتيحها النظام الرأسمالي, والعدالة الاجتماعية التي هي أفضل ما في الاشتراكية, مما خلق نوعا جديدا من الرأسمالية الرحيمة التي لم تكن موجودة من قبل. كان الطريق الثالث فكرة خرجت من النخبة الأوروبية, وتبناها السياسيون خاصة رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير والرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون, وأدت إلي تغيير كبير علي الصعيد السياسي تبعه صعود15 حكومة أوروبية تتبني أفكار الطريق الثالث. هنا تبدو النخبة فعالة ومؤثرة, لأنها قادرة علي ابتكار أفكار جديدة من شأنها تغيير المجتمعات المحيطة بها, لكن النخبة المصرية توقفت منذ زمن عن انتاج الأفكار, أو التبشير بها, لذلك نبدو وكأننا نعيد انتاج نفس مشاكلنا بنفس أعراضها, وحين نحاول إصلاحها لا نقدم سوي نفس الحلول التي سبق واختبرناها من قبل سواء فشلت, أو لم يعد نجاحها ممكنا في ظل الظروف الجديدة التي نعيشها الآن. وحتي تنجح مصر في صناعة نخبة جديدة تؤمن بأهمية الأفكار, نخبة تميل إلي الابتكار والتجديد, نخبة تعلي من قيمة العلم, سنظل نبحث عن أصل وفصل مشكلنا دون أن ندرك أن أكبر مشكلة نعاني منها هي غياب النخبة الحقيقية. [email protected]