الهموم تخصص عربي صرف, ولفظ هم لا مقابل له في أي لغة أخري, وكل مشكلة لا تحل تتحول إلي هم ونحن أساتذة في فن تحويل المشاكل إلي هموم... نحن نضع المشكلة أمامنا ونقول لها: حلي نفسك!. وبمضي الزمن تتحول مشاكلنا إلي هموم, وهي هموم من كل نوع: هموم عربيةعامة, وهموم إسلامية عامة, هموم محلية, هموم عائلية, هموم شخصية, وكل واحد منا يحمل أضعاف وزنه من الهموم فوق رأسه, وتحت عبء الهموم ضاعت الابتسامة ونسينا الضحك وأصبح عالم العرب هو عالم الهموم. هذه السطور من مقال بعنوان البحث عن ابتسامة, بقلم الدكتور حسين مؤنس منشورة في عدد أكتوبر1981, مجلة الهلال, التي كان يرأس تحريرها حينها. يستمر الدكتور مؤنس: في نهاية كل يوم من أيام العمل أجد نفسي صامتا مجهدا لا أقوي علي الكلام, وأحسب في ذهني: ماذا عملت حتي أحس بهذا التعب كله فأجد أنني في النهاية لم أنجز الا القليل. وأستعيد في ذهني ما مر بي منذ الصباح الباكر فأذكر شيئا غريبا بدا لي وكأنه اكتشاف: أنني لم أر في في طول يومي, منذ فتحت عيني الي قرابة العصر, وجها واحدا يبتسم. وتذكرت بالتالي أنني أيضا لم أبتسم مرة واحدة: لا اليوم ولا الأمس ولا أول أمس. ولم أكن بحاجة الي تفكير طويل. فإنني عندما عرضت علي ذهني ما مر بي وما وقع من حولي من أحداث صغيرة أو كبيرة, شخصية أو عامة, لم أذكر شيئا واحدا يدعو الي الابتسام.. أما الضحك- وهو دواء من أدوية النفس- فلا أذكر آخر مرة ضحكت فيها ضحكا صحيا صادقا من القلب, ووجدت نفسي أسأل نفسي وأنا في طريقي الي البيت: تري ماذا جري للدنيا من حولنا حتي ضاعت منها البهجة ودواعي السرور؟ وماذا جري لنا نحن حتي أصبحنا وكأننا جميعا مصابون بالاكتئاب؟. يقارن الدكتور مؤنس حالنا بحال إخوتنا في الإنسانية: تصفحت المجلات والصحف الغربية التي حملتها في حقيبتي فرأيت وجوها كثيرة تضحك ضحكا صادقا صادرا من أعماق القلوب, حتي وجوه رجال السياسة في الغرب, ومشاغلهم كالجبال قرأت فيها ضحكات وابتسامات, وتذكرت آخر رحلة لي الي أوروبا في مايو الماضي فتذكرت أن الدنيا هناك تضحك رغم كل شيء. الناس مثقلون بالمشاغل مثلنا, ولكنهم مع ذلك يجدون في حياتهم دواعي للسرور, ونبع التفاؤل والمسرة بل الطرب لم يجف في حياتهم تماما, لأن الذي عندهم مشاغل أو مشاكل أو اهتمامات أو واجبات أو مسئوليات. اما الذي يثقل نفوسنا نحن ويملأ كل زاوية من زوايا حياتنا فهي الهموم. والمشاغل والمسئوليات أيا كانت فهي لا تمس صميم النفس, انها تظل مشاغل أو مشاكل أمامك وخارج نفسك, وعليك أن تعالج منها ما تستطيع وتترك الباقي للغد, ولكنك لا تحمل هذا الباقي علي كتفيك أو في ذهنك ولا تدخل به الفراش. انها تظل مكانها, تنتظرك علي مكتبك أو في درجك وربما في جيبك, ولكنها لا تركبك أبدا, لأن الذي يركب الانسان ويرهقه ويثقل علي نفسه هي الهموم والهموم أمراض منها المستعصي ومنها المزمن ومنها ما يهون وزنه بمرور الأيام فتعتاد علي حمله, ولكنها لا تزول ولا تختفي... انها دائما علي كتفيك. هذا سر اختفاء الابتسامة وموت الضحك عندنا أن حياتنا هموم ومشغوليات أصبحت أمراضا, فنحن بالتالي أو غالبيتنا العظمي علي الأقل مرضي بالهموم, ولهذا فنحن مكتئبون. وكأن حسين مؤنس طبيب نفسي متخصص ومداو ومشخص دقيق لأمراض مستجدة في الشخصية المصرية. اضافة الي ذلك فهو يقدم روشتة للعلاج: طريقتنا في مواجهة المسئوليات طريقة فريدة في بابها وهي أننا ندعها لتحل نفسها بنفسها حتي تصبح جبالا وهموما.. والله سبحانه وتعالي لا يحل المشاكل للقاعد البليد أو المستلقي علي الأرض فاغرا فاه كأنه أبله أو عبيط.. انما يجيء الحل مع العمل, والعون من الله يجيء مع السعي, والأبواب تفتح مع السير, والطريق مع طول المحاولة. قبلها بحوالي ثلاث سنوات, في يونيو1978 نشر الهلال عددا خاصا بعنوان: الفكر والفكاهة, كتب فيه حسين مؤنس, مقالا بعنوان: هل انتهي عصر الضحك؟, تعرض فيه للضحك عالميا, وتعرض فيه للفكاهة المصرية الغنية وللشخصيات المصرية خفيفة الظل, وأنه يخشي علي مصر من ثقالة الظل. يقول:... من أسبوعين وأنا جالس وسط نخبة من أعلام الفكر في عصرنا في احدي الجرائد الكبري. لم أر واحدا منهم يضحك أو حتي يبتسم. من بعيد سمعت ضحكة نجيب محفوظ في غرفة مجاورة. انه الوحيد في رأيي الذي لم ينس الضحك. يأخذنا بعدها الي منتصف الخمسينيات وكأنه يدرس بطريقة علمية: تغير المزاج المصري المرح مع الزمن. يقول: تذكرت اجتماعات الأدباء والمفكرين في لجنة التأليف والترجمة والنشر ليلة الجمعة من كل أسبوع. كان ذلك في الخمسينيات. كانت القاعة تضج بالضحك: أحمد أمين, وأحمد زكي, والمازني, طه حسين وكامل الكيلاني, وحتي العقاد. كلهم كانوا يضحكون. كان كامل الكيلاني لا يكف عن الحكايات الطريفة الفكهة, وكنا كلنا نضحك. أذكر مرة أن محمد فريد أبو حديد ضحك حتي تعب, واستأذن ومضي لأنه لا يريد أن يضحك أكثر مما ضحك. كانوا يضحكون لأنهم يشعرون بأنهم يقومون بواجبهم.. كانت ضمائرهم مستريحة وقلوبهم شبه خالية من الهموم. يصف لنا ذلك العصر الجميل وأنه كانت تنشر فيه مجلات متخصصة وظيفتها اضحاك الناس مثل البعكوكة والتي كانت تطبع أكثر من ثمانين ألف نسخة, وأن الناس كانوا يتهافتون علي شرائها لأنهم كانوا يريدون أن يضحكوا. كان الناس يضحكون من كل شيء. يعود بنا الي زمن أبعد قليلا من ذلك فيقول: في الماضي كنا نذهب الي مسرح الريحاني ونضحك حتي نفحص الأرض بأقدامنا. كانت فكاهاته حلوة وعميقة وصادرة من القلب, وكان ضحكنا أيضا صادرا من القلب. يقارن مثلما يفعل العلماء مع زمن كتابته تلك المقالة عام1978, فيقول: في مسارح اليوم نلاحظ أن الممثلين ينتزعون الضحك بالقوة ويكررون نفس النكتة ألف مرة حتي يضطر الناس في النهاية للضحك. يتساءل الدكتور مؤنس عن الأسباب التي أدت الي تدهور خفة الظل المصري والمشهود له بذلك, يطرح كعادته تساؤلا كبيرا: ماذا جري للدنيا ومن أين أتي ثقل الدم هذا كله؟, ويجيب: الحقيقة أن الحياه نفسها تغيرت والانسان نفسه لم يعد هو هو.. انه يجتاز أزمة تطور نفسي خطيرة. الحياة في الماضي كانت أهون وأيسر رغم أن المرتبات والدخول كانت قليلة جدا, ولكن مطالب الحياة أيضا كانت متواضعة. لم تكن هناك مشاكل مواصلات أو تموين. كان الترام دائما خاليا. ومادمت تملك مليمات ستة فقد كنت تستطيع أن تصل الي أي مكان تريد وأنت مرتاح.لم يكن يفكر في اقتناء السيارات الا المترفون, لأن السيارة بالفعل كانت مجرد ترف ومظهر. لم يكن هناك تفكير في ثلاجة أو غسالة أو حتي مروحة كهربائية. كان الناس يعيشون يوما بيوم. وكانت أم فلان الغسالة تقضي يوما كاملا في الغسيل لقاء عشرة قروش, ولأمر ما كنا لا نحس بالحر كما نحس به اليوم. كانت مروحة اليد تكفي للترويح عن الانسان. يستمر الدكتور مؤنس في سرده للحياة في النصف الأول من القرن العشرين من تعليم ومشاكله ومن مواجهة الاحتلال يوميا: أذكر أنني قضيت في التخشيبة ليلة. كانت ليلة ضاحكة. حتي العساكر كانوا يتبادلون النكات معنا. واحد منهم أتانا من عنده بخبز وحلاوة طحينية. لم نحس أننا في سجن!!. يفسر الدكتور مؤنس التغيير الذي حدث بأن مرجعه هو الانسان ذاته: الانسان نفسه قد تغير. الانسان الطيب القنوع المؤمن القلب يتلاشي. انه يصبح اليوم مخلوقا عجيبا. لأمر ما كان الناس يحترمون بعضهم بعضا ويراعي بعضهم بعضا ويستر بعضهم علي بعض. اليوم أصبحنا نعيش وظهورنا تلهبها سياط.تعمل من الصباح الي المساء لتسد مطالبك وليتك تستطيع. ويستمر في ذكر المشاكل الكبيرة والصغيرة التي تواجه الناس اليوم أو التي يخلقونها بأنفسهم, ومنها المشاكل السياسية وانشغال الناس بها, ويعود لتحليل المشكلة وارجاعها الي مقولته الأساسية, والتي هي أن الانسان ذاته هو سبب المشكلة: ثم ان الانسان اليوم متمرد ومحدود ونفسه مليئة بالهموم والأحقاد والمطامع. كان الموظف اذا حصل علي علاوة أقام حفلة. الآن يتضاعف دخله ويظل ساخطا علي الدنيا وما فيها. كل الناس يريدون كل شيء ولا أحد يريد أن يكون متواضعا, بل لا يقنع أحد بأن يأخذ راتبا يعادل عمله.. كلهم يريدون أن يبذلوا أقل مجهود ويحصل علي أكبر دخل. كيف تستقيم الأمور وهذه هي الحال؟. بعد كل هذه التفسيرات والتوضيحات, نستطيع أن نستدل علي علة الشقاء والهموم وفيروسهما الذي أصاب الناس فجعلهم لا يضحكون, ويخلص الي أن عصر الضحك قد انتهي. وأن الانسان قال عنه الفيلسوف بيرجسون أنه حيوان ضاحك لم يعد ضاحكا. أو قل لم يعد انسانا. كلما زاد ارتفاع مستوي الحضارة زاد انحطاط الجانب الانساني في الانسان.. الانسان نفسه ينحط ويتدهور ويتحول الي حيوان شرير طماع لا يقنع يشيء ولا يرضي عن شيء. لقد انتهي عصر الضحك... تستطيع أن تقول: انتهي عصر الانسان. في نفس العدد من الهلال, توجد مقالة أخري للدكتور مؤنس عن الضحك بعنوان: شارلي شابلن أعظم المضحكين في التاريخ. هو الكوميديان الانجليزي العالمي والذي كان له باع طويل في النصف الأول من القرن العشرين. يصفه حسين مؤنس بأن سر نجاحه الأكبر أنه أضحكنا وأبكانا في آن واحد, وأن الضحكات في أفلامه دموع وعبرات, وأنه بدأ مهرجا وأنتهي فيلسوفا ومبدعا... في حين أن غيره من المضحكين يبدأون بهلوانات وينتهون مهرجين. يشخصه حسين مؤنس: تكمن عبقرية شارلي شابلن في كونه مبتكرا مبدعا, وأن الاضحاك عنده عن طريق الدموع, لا عن طريق التهريج... هكذا يرتقي الانسان من مهرج الي فيلسوف الي شخصية عالمية. نستنج من هذه المقالة أن الدكتور مؤنس كان متابعا ومولعا بالفكاهة العالمية وأدبها العالمي وتاريخها, فهو في نفس المقالة يسرد وكأنه ناقد فني متخصص في الكوميديا العالمية, فهو يسرد وينقد كل أفلام شارلي شابلن, الذي نجح منها والذي لم يلق نجاحا. فعل ذلك بعمق ومعرفة. يحدثنا أيضا فيعقد مقارنة بين شارلي شابلن وبين بقية الكوميديان المعاصرين له في كل مكان أمثال لوريل وهاردي وهارولد لويد وبستر كيتون والاخوة ماركس, ويصفهم بأنهم بدأوا مهرجين وظلوا طوال عمرهم مهرجين.. وأن ذلك هو الفرق الجسيم بين شارلي شابلن والآخرين. يقارن الدكتور مؤنس شارلي شابلن بنجيب الريحاني عندنا, فيقول: عندنا لم يحدث هذا الا مرة واحدة علي يد نجيب الريحاني. أنت تسمع اليوم كثيرين من مهرجي أيامنا يقولون أنهم أصبحوا مثل الريحاني.. كلام لا يصدقه عقل. الريحاني بدأ كشكش بك وانتهي فيلسوفا وانسانا, وغيره ابتدأ كشكش بك وانتهي الي الواد كشكش, ابتدأوا مهرجين لديهم بعض الألاعيب التي تضحك. باعوها مائة مرة حتي لم تعد تضحك أحدا. الآخرون عندهم ملكات ربما كانت لا تقل عن ملكات نجيب الريحاني, ولكنهم وقفوا عند حد الاضحاك وقنعوا بذلك والنتيجة أنهم تدهوروا. ويستنج الدكتور مؤنس في النهاية, بحكمة: لا بد من مجموعة أساسية من الأشياء اذا كنت تريد أن تكون شيئا ما: لا بد من ذهن وقلب وطموح.. لا بد من ملكة الخلق والابداع. أما الاضحاك لمجرد الاضحاك فموضوع سهل جدا يمارسه كل يوم مهرج الأسواق في القري. انه يدهن وجهه بالدقيق ويتمرغ علي الأرض ويلبس طربوشا مهلهلا يغطي عينيه, وفي مقابل ذلك يأخذ الملاليم من أطفال القرية. ابتسمت رغم فقدي لتلك الخاصية التي كنت أملكها يوما, وأنا اقرأ كلمات حكيمنا الدكتورحسين مؤنس, لأنني كنت أحضر في الأسبوع الماضي مؤتمرا علميا في مدينة بيركلي في كاليفورنيا والتي عشنا فيها أكثر من عشر سنوات في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي, واذا بي أسترجع الذكريات وأسترجع رؤية الناس تبتسم لك في الشارع ابتسامات صادقة حقيقية. كنت قد نسيت ذلك لأني أصبحت كما وصف الدكتور حسين مؤنس مهموما مغموما, وأصبحت كز الطبع كما يقول الجاحظ: لا يغضب من المزاح إلا كز الطبع. الكزازة خاصية تعني التجمد وعدم المرونة وثقل الدم. فقدت قبل سفري هذا القدرة علي البسمة, وكأنها لياقة قلبية ضاعت مني في خضم الحياة في مصر, غير أني أسترجعتها بعد يوم واحد في بيركلي. في الشارع, في السوبرماركت, في المطعم, في المؤتمر العلمي, في كل خطوة: القوم مبتسمون. فجأة انقشعت من النفس سحابة التكشير المظلمة من باب الحياء ومجاراة للحياة, وركوب موجة الحياة, ولكن للأسف بمجرد أن وطئت قدمي مطار القاهرة, رجعت الي سابق عهدي من التكشير ولباس قناع الكآبة والهموم أوتوماتيكيا.