قصور الحكم ليست كما يعتقد جل الناس مكانا يتسم بالجدية والصرامة طوال الوقت، لكنها في أغلب الأحيان تحظى بوجود المهرجين ومن يستطيعوا إخراج الملوك والسلاطين والرؤساء من جو هموم الحكم عبر انتزاع ضحكاتهم، وهذا لم يكن يتطلب في الماضى البعيد أكثر من ملابس مهلهلة، وحركات بهلوانية تميل إلى الغباء، وقدرة على الإضحاك، كونها الأدوات التي تسمح ل"مهرج القصر" بنيل رضا الملك وقربه. ظهر "مهرج القصر" منذ الحضارات القديمة كالفرعونية والإغريقية في قصور السلاطين والملوك والأمراء، وكان القصر لا يحتمل سوى مهرج واحد، بل إن مهرجا واحدا يمكن أن يظل لحقبة بأكملها مثل مهرج العصر الأموى ومهرج العصر العباسى. ظاهرة مهرج القصر امتدت من الحضارات الأولى إلى الحضارة الإسلامية، ووجدت لها أيضا مناخا جاذبا عند الغرب المسيحى، وحتى عند الأزتكيين في المكسيك وبلدان أمريكا اللاتينية وآسيا، بل إن مهرج القصر كان له مشاركة فعالة في الشعائر الدينية في الهند وفى أوربا أيضا في العصور القديمة. والمهرج يعرف بالبلاهة في الشكل والقول والعمل وبملابسه المهلهلة، وأحيانا كان مهرجو القصور من ذوى العاهات، أي إن شكل "مهرج القصر" كان يسبق فعله ومدى قدرته على الإضحاك حتى يرضى عنه الملك ويبقيه في القصر. وفى الحضارة العربية لم يختلف دور "مهرج القصر" عن مثيله في غيرها في إضحاك وتسلية الملك وحاشيته في زمان كانت تقتصر فيه السلوى على الغناء والخروج إلى حديقة القصر ومجالسة الأصدقاء، لكن اختلفت طريقته في الإضحاك، فنظرا لفصاحة العرب وتميزهم بموهبة الشعر، عمد أحيانا إلى الاستعانة بالشعر في إضحاك أصحاب القصور الحاكمة، فكان ذلك ينم عن ذكاء المهرج، لكن أيا كان مستوى ذكاء مهرجى القصور لم يكونوا يملكون غير أن يظلوا على حالهم كى لا يتعرضوا لغضب الملوك بالقتل أو الطرد من القصر الذي يعد مصدر حصولهم على الدراهم والهدايا والهبات. بهلول مهرج العصر العباسى ولعل أشهر مهرجى القصور وأفصحهم وأذكاهم كان "بهلول" مهرج العصر العباسى، وتحديدا عهد الخليفة هارون الرشيد. "بهلول" أو أبو وهيب بهلول بن عمر الصيرفى الكوفى، كان رجلا يدعى الجنون، وفى يوم من الأيام مر عليه هارون الرشيد وهو جالس على إحدى المقابر، فسأله: "يا بهلول يا مجنون متى تعقل؟"، فركض بهلول وصعد إلى أعلى شجرة ثم نادي على هارون بأعلى صوته: "ياهارون يا مجنون متى تعقل"، فاقترب منه الخليفة العباسى وهو على حصانه، مجيبا: "أنا المجنون أم أنت الذي يجلس على المقابر"، فرد بهلول: "بل أنا عاقل"، فتعجب هارون، لكن بهلول قطع عليه تعجبه بقوله: "لأنى عرفت أن هذا زائل -وأشار إلى قصر هارون- وأن هذا باقٍ -وأشار إلى القبر- فجلست بهذا قبل هذا، وأما أنت فإنك قد عمرت القصر وبعدت عن القبر الذي هو مصيرنا المحتوم، من منا إذن المجنون"، هنا بكى هارون حتى وصلت دموعه إلى لحيته. فمنذ هذه الحادثة اتخذ هارون الرشيد بهلول مهرجا لقصره، فكان يستمتع بفصاحته وحكمته التي يقدمها في شكل كوميدى، حيث ملك بهلول بأسلوبه قلب وعقل الرشيد، لأن لب مقصده من الحياة كان كيف يستمتع بالدنيا دون أن يخسر الآخرة. أبو دلامة مهرج العصر الأموى وتلا بهلول في الشهرة رغم أنه يسبقه "أبو دلامة" مهرج القصر في العهد الأموى، والذي عرف عنه عدم ممانعته من أن يسخر من نفسه أو حتى يبيعها لإرضاء الملك، وهو رمز لمهرج اليوم الذي يملأ وجهه بالألوان لإرضاء الناس، بل دلامة كان يلون شخصيته لإرضاء الحاكم، عكس بهلول الذي كان تقيا صالحا لكنه خفيف الظل. عاصر أبو دلامة الدولة الأموية لكنه لم يشتهر في عصرها لعدم اهتمام ملوك تلك المرحلة بالمهرجين، فلما جاءت الدولة العباسية انضم إليها وصار من "صحابة الخليفة أبى جعفر المنصور"، فقد اشتهر أبو دلامة بالنوادر والشعر الظريف، فاصطفاه أبو جعفر المنصور لتسليته، فصار مهرج القصر حتى أن ابن المنصور المهدى ورثه عن أبيه، فكان المنصور يسمح له بأن يقول ما شاء بعيدا عن انتقاده أو المساس بطريقة إدارته لحكمه، ومن هنا جاء تلون "أبو دلامة"، فكان يعرف خبايا حكم المنصور لكنه يتلون في شعره ونوادره ويثنى عليه، وهو ما عرف به لدى العامة وكتب التاريخ. وبعد زوال العصر العباسى وانحدار الدولة الإسلامية، ورث ملوك العرب حب التسلية والضحك، لكن مع ظهور فنانى الكوميديا، اختفى مهرج القصر الذي لا بديل له، وحل مكانه العديد من المهرجين الذين يستطيع الملك استدعاء أيا منهم في أي وقت لتسليته. إسماعيل يس مضحكاتى الملك ففى العصر الحديث مع دخول السينما إلى مصر كان سهلا على الملوك التعرف على أفضل كوميديان، لذلك عام 1950 دُعى الفنان الكوميدى إسماعيل يس لإلقاء بعض مونولوجاته في حفل خيرى لصالح جمعية "مبرة محمد على" في ملهى الأوبرج بحضور الملك فاروق، وبعد أن ختم ياسين فقرته، أمر الملك بدعوة إسماعيل إلى الاستراحة الملكية لتسليته وإضحاكه، وفعلا استجاب إلى أوامر الملك، لكن إسماعيل كان مرتبكا في حضور الملك الذي كان شغوفا لسماع كلماته الضاحكة، وعندما قال له فاروق: "يلا يا إسماعيل سمعنا نكتة جديدة"، بدأ النكتة قائلا: "مرة واحد مجنون زى جلالتك كده"، فصرخ الملك فيه: "إنت بتقول إيه يا مجنون"، هنا شعر المهرج بصعوبة موقفه ولم يجد إلا التظاهر بالإغماء للخروج من الموقف، فسقط على الأرض، لكن الملك لم يعره اهتماما وغادر الاستراحة غاضبا متوعدا إياه بأسوأ عقاب. وأحاط رجال الملك بإسماعيل يس ليس لإسعافه بل للتحفظ عليه انتظارا لأمر فاروق، لكن يوسف رشاد -طبيب الملك الخاص- تعاطف مع إسماعيل، فقال للملك إن إسماعيل تصيبه حالات من ضعف الذاكرة وفقد الإدراك، وهو في حاجة لأن يقضى فترة تحت الرقابة الطبية للعلاج، وفعلا اقتنع الملك وأمر بإيداعه "مستشفى الأمراض العصبية والنفسية"، وصدرت الصحف في اليوم التالى مشيدة بالعطف الملكى الكريم على إسماعيل ياسين، الذي فاجأته نوبة صرع أثناء الحفل الخيرى، فأمر الملك بعلاجه على نفقته الخاصة. مهرج السادات ومع تحول مصر إلى جمهورية، لم يتخلَّ الرؤساء عن فكرة التسلية ووجود من يستطيع إضحاكهم وسط هموم السياسة، لكن الغريب أن يلعب هذا الدور شخص بحجم نائب الرئيس، والكلام هنا عن حسنى مبارك، فقد كان الأمريكان يرون فيه "مهرج قصر" الرئيس الراحل أنور السادات، وليس أدل على هذا من قول المؤلفين سوزان موادى دراج، وآرثر ميير سشليسنجر في كتابهما "كبار زعماء العالم" إنهم ظلوا ينظرون إلى مبارك في الفترة التي قضاها نائبا للسادات على أنه "مهرج القصر"، فمبارك كان يستطيع إضحاك السادات ولا أحد يستطيع تفسير نيته، هل لنيل رضاه أم أنها نوبات فكاهة كانت تنتابه فحسب، وكان يطيع السادات لدرجة أن وزير الخارجية الأمريكى الأسبق هنرى كسينجر عندما رآه لأول مرة بجوار السادات لم يخطر بباله أن هذا هو الرجل الثانى للبلاد. مهرجو قصر مبارك وبتولى مبارك حكم البلاد عقب اغتيال السادات، عادت البلاد إلى جوهر الملكية لكن برداء الجمهورية، فخطى خطوات الملوك من حيث وجود مهرج لقصره، لكن ليس أحد بعينه، وإنما يتغير عند ظهور الأكثر فكاهة. ومن مهرجى القصر الذي ذكرهم بعض المقربين من مبارك، مثل اللواء شفيق البنا، الذي ظل مسئولا عن القصر الرئاسى لمدة 25 عاما، فقال: في بداية الأمر كان مبارك لديه "مهرج قصر"، كما كان هناك لواء في القوات الجوية يحكى له النكات، وعندما مات المهرج طالب بإحضار فنانين، فطلب في البداية الفنان الراحل أحمد زكى وجلس معه مرة واحدة، وبعدها أمر بعدم إحضاره مرة أخرى لأنه لم يجبه الإجابات التي ترضيه، ثم تكرر الأمر مع أحمد بدير، ومن بعده محمد صبحى الذي خيب ظنه وتحدث معه عن مشاريع لتنمية البلاد، فلم ينل رضا مبارك لأنه كما وصفه "راجل نكد". وبحسب البنا، وجد مبارك ضالته في الفنان المنتصر بالله الذي كان يصطحبه معه في سفرياته لكى يسليه ويضحكه في الطائرة، حيث كان يناديه ب "مونتى"، فظل المنتصر بالله "مهرج القصر" حتى انتهى عصر مبارك بثورة 25 يناير.