كثيرون كتبوا عن القاهرة ولكن صاحبنا هذه المرة يقول كلما كثر سفري لبلدان الشرق الأوسط. أشعر بعظمة مصر وبتقديرها إنها وطن يسكنه36% من العالم العربي. رغم كل أمجادها المنسية ومشاكلها الاقتصادية, فهي صاحبة الخصوصية الفريدة. انها متعددة الطبقات, كلما تزيل طبقة منها, تكتشف أكثر وأكثر. الأفلام تصنع في مصر, والكتب تطبع في مصر, والأفكار السياسية تناقش فيها أكثر من كل البلدان العربية مجتمعة. مثقفوها يمثلون طبقة مؤثرة ذات انجاز مستحق. ورغم أزماتها الاقتصادية بخلاف أشقائها العرب, فهي دائما لديها الشجاعة أن تقود وأن تكون لها استقلاليتها فيما تعمل. انه الكاتب الصحفي والكاتب الأمريكي ديفيد لام الذي عاش في القاهرة أربع سنوات مراسلا لصحيفة لوس أنجلوس تايمز الأمريكية الذائعة الصيت, في الفترة من1981 وحتي1985 نشر عقبها كتابه: العرب, رحلات ما بعد السراب,:. يقدم نفسه في كتابه قائلا:' لست متخصصا في الدراسات العربية, ولست باحثا متخصصا في العلوم السياسية, ولست باحثا متخصصا في الشئون الدينية, انني صحفي يصنعه' تاريخ اللحظة', والعلاقة بين الماضي والحاضر, والقاء الضوء علي ماكان وما سيكون'. هذا الكتاب يحكي قصة عمله وسفره الي معظم بلدان الشرق الأوسط, حيث يرصد فيه بعيون الصحفي الراصدة والمعبرة بدقة ويسرد التفاصيل بدقة الجراح ويفسر بحكمة حياته في القاهرة ورؤيته لها ووصفه تاريخها ومحتواها الحضاري وتأثيرها علي مجريات الأحداث والسلام العالمي. ما يقدمه لنا رؤياه للقاهرة, ورؤية أهلها من الداخل,كأجنبي وكمسافر عبر عشرات المدن في الشرق الأوسط وبقية دول العالم حيث تأخذه وظيفته وبعد اقامته أربع سنوات كاملة حافلة ونشيطة مقارنا القاهرة ببقية البلدان التي سافر اليها وعاش فيها. هو ومن علي شاكلته من المراسلين الأجانب للمجلات والصحف العالمية ذات الشهرة العالمية والتأثير العالمي يشبهون رحالة الغرب والشرق الأوائل بداية من القرن الخامس عشر وحتي القرن العشرين, فقد كان لهم عظيم الأثر في تقديم الشرق الأوسط للمجتمعات الغربية والشرقية, كانوا هم الممهدين للاستعمار الذي خلفهم.فكأنهم الرحالة المحدثون الذين يمثلون وجهة نظر مختلفة وكتابات فعالة ومؤثرةومثيرة للاهتمام, وكتاباتهم دائما تركز علي الجوهر وتري ما تحت القشرة من ثمرات وكنه, وكأن بأعينهم ميكروسكوبات متقدمة, فهي بالتالي جديرة بالاعتبار والتدبر والدراسة. من أجل هذا كله لا بد من الاشارة الي مساهماتهم وكتبهم. هم مختلفون في رؤياهم للمدينة العريقة عن كتاباتنا ورؤيانا نحن المصريين والعرب. القاهرة تجذبهم بسحرها وعظمتها وتاريخها واختلافها. هم يرونها وكأنهم يركبون آلة الزمن وهم يرحلون الي أزمنة القاهرة المختلفة وحضاراتها العديدة. هم يقدمون لنا رؤية مختلفة جديرة بالذكر. يحكي لنا عن فجر القاهرة فيقول واصفا له وكأنه شاعر:' في مطلع الفجر تسبح القاهرة في فجر أزرق ناعم وكأنه خليط من الصحراء ومياه النيل تنساب وكأنه حرير أملس. ألمح من شرفتي جمال المدينة التي كانت يوما من أعظم وأهم مدن العالم قاطبة. انها مدينة مختلفة عن سائر المدن العربية التي بنتها أموال البترول, فهي تملك روحا وجسدا وحياة, شوارعها تعج بالحياه, ومقاهيها المزدحمة والمفتوحة علي الهواء الطلق تظل ساهرة الي مطلع الفجر حيث يناقش روادها قضايا لقمة العيش وقضايا السلام وتكاليفه وهم يحتسون العديد من أكواب الشاي والقهوة الحلوة. انها القاهرة التي تمثل للشرق الأوسط ما تمثله لندن للمتحدثين بالانجليزية.' يلحظ الرجل عن القاهرة أن الغريب فيها لا يضل طريقه مثلما هي خاصيتها الهامة منذ انشائها منذ ألف عام فيقول:' وكأن البلد مغناطيس عاطفي, فبمجرد أن تطأ قدم القادم العربي أرضها, يحس وكأنه في وطنه, ورغم الضوضاء والقاذورات فان القاهرة بالنسبة له عجيبة لا مثيل لها في أي مكان' يستطرد بعدها في اسمها ووصفها وجغرافيتها وعمارتها الفريدة وتاريخها.يتحدث عن آثارها وشرقها وغربها والأماكن التي عاش فيها نابليون بونابارت والفرنسيون ابان اقامتهم فيها في سنوات الحملة الفرنسية علي مصر. يتحدث عن الأهرام وحتي عن الأسطورة التي تذكر مكان ميلاد افلاطون بتلك المدينة العريقة. يتحدث عن المساجد المبنية بالأحجار وبلكونات البيوت التي تشبه نظيراتها في باريس وأن القاهرة هي الشرق والغرب والقديم والحديث, ويذكرنا بمقولة غربي مثله هو- وينوود ريدي- الانجليزي والذي زار القاهرة عام1873 ووصفها بأنها تشبه روما والبندقية وأن الغريب القادم اليها دائما مرحب به. يعجبه منظر المساجد, يصفها بدقة وكأنه يرسمها في مخيلته:' من بلكونتي أكاد ألمح خمسة وعشرين مئذنة رشيقة ومرتفعة مرتفعة فوق النخيل وكل شيء يبدو, وكأنه قزم بالمقارنة بها, وأن آذان الفجر بها كأنه رعد يهز المباني داعيا الناس لصلاة الفجر, حيث يخرج أهل القاهرة ليملأوا مساجدها رغم الظلام الدامس.' يشخص الرجل القاهرة وكأنه باحث ومؤرخ فيقول:' ليس من السهل تحديد هوية القاهرة ومصر كلها- هل تنتمي للعالم الأول أم العالم الثالث؟' ثم يجيب بنفسه علي السؤال لذي طرحه:' كيف يمكن وصف المكان الذي ولدت فيه الحضارة الانسانية وترعرعت بأنه عالم ثالث؟. انها مدينة رائعة.' لا ينسي الرجل أن يكون موضوعيا, فهو يتحدث عن مشاكل القاهرة وازدحامها وأنها تعج بسكانها الذين يتكاثرون بسرعة مذهلة لا مثيل لها ويكاد ظهرها ينحني من وطأة تلك الأحمال الثقيلة. يتحدث عن المشاكل الشائكة التي تعاني منها القاهرة مثل مشكلة الزبالين وسكان المقابر والمرور. يحكي لنا السيد لام عما يصادفه من متاعب في الأشياء اليومية الصغيرة وعدم كفاءة المؤدين لها بغير رقيب ويركز علي حكايته مع رجل صادقه, يقوم بأعمال السباكة المنزلية, وأنه يستغله رغم عدم كفاءته, ويستمر في تشخيص المشكلة:' أن الأكفاء من العاملين بتلك الحرف انتقلوا للعمل بدول الخليج وخلفوا من بعدهم فئات لا تجيد عملها.' يصف القاهرة في الثمانينيات مشخصا لها فهي:'.. مدينة يقطنها أربعة عشر مليونا وبها خمسمائة ألف سيارة وبها أيضا ثمانون ألف عربة تجرها الحيوانات وبها سيارة واحدة للكنس أوتوميكاتيكيا. هي أكبر مدينة في أفريقيا, وهي المسيطرة وصانعة الأحداث في المنطقة ولا يضاهيها في ذلك أي مدينة في أي قارة من قارات العالم. هي مركز العالم العربي الثقافي والديني والتعليمي ومكان صناعة السينما وطباعة الكتب والصحافة, والسياسة الخارجية,هي شجاعة ومؤثرة, ولو رسمت أربع دوائر واحدة تمثل دول عدم الانحياز والثانية العالم العربي والثالثة العالم الاسلامي والرابعة أفريقيا فانك ستجد القاهرة دائما هي المركز'. يصفها بالتفصيل أنها مقصد السياح العرب ومركز السياحة العربية لما فيها من حرية وثقافة وفن وليبرالية أكثر من أي مدينة عربية وبالتالي فهم يقصدونها لما تقدمه لهم من متعة وتسالي لا تتوافر الا في القاهرة, وأنها رغم حرها وترابها وضجيجها فهي في ذلك أرحم مناخيا من بقية البلاد العربية. يشخص لنا القاهرة في فترة تقارب مائة عام, بداية من منتصف القرن التاسع عشر وحتي خمسينيات القرن العشرين بأنها في حقيقة الأمر قاهرتان:' الأولي للأوربيين والأرستقراطيين المصريين, حيث الحدائق الغناء والفيلات والقصور والفنادق الراقية والسيارات الفارهة والنوادي الرياضية والاجتماعية ذات النجوم الخمس والنظافة والحداثة, القاهرة الثانية الأخري هي البعيدة عن النيل حيث الازدحام والفقر والقاذورات والحرمان'. كانت الأولي مقصد القادمين من بريطانيا وفرنسا وايطاليا وسويسرا وبقية الدول الأوروبية ليعيشوا وليعملوا فيها وليؤسسوا مجتمعات وجاليات خاصة بهم فيها تشبه الي حد كبير مجتمعاتهم الأصلية, وبالتالي بدأت القاهرة تحقق أمنية الخديو اسماعيل وحلمه بأن تكون القاهرة قطعة من أوروبا. كانت القاهرة حينها مدينة' كوزموبوليتن' أي مختلطة بأطياف حضارية مختلفة, وكأنها بوتقة ينصهر فيها الجميع ويتعايش فيها المسلمون والمسيحيون واليهود باحترام وقيم حضارية.ويعمل فيها والاجانب الأوروبيون واهل البلد سويا ويعيشون جنبا الي جنب في ود ووئام وقانون وعرف, وكما قال الخديو اسماعيل الذي حكنم في الفترة من1863 حتي1879:'... ولأن الله جعلنا خلفاء الأرض, فلابد أن نستمتع بها'. مقولة حكيمة من رجل لم ينصفه التاريخ في مصر. يحكي لنا عن مقابلته مع المعماري المصري العالمي حسن فتحي لمناقشة التدهور المعماري والحضاري الذي بدأ يصيب القاهرة ويعكس سير الموكب الحضاري بها فيقدمه كما يعرفه الجميع بأنه حسن فتحي المبدع وصاحب عمارة الفقراء والطراز المعماري الفريد والمستوحي من المباني الريفية وبيوت النوبة ومن بيوت القاهرة وقصورها والذي تستخدم أفكاره في أوروبا والولايات المتحدة والهند وكثير من الدول والبلدان, لشهرته المدوية وعلمه في بناء بيوت رخيصة التكاليف, اقتصادية وقليلة الاستهلاك للطاقة وجيدة التهوية, بينما لا يستخدم علمه بنو وطنه والذين يبنون بدلا من ذلك العمارات الشاهقة القبيحة. يحكي لنا أنه عندما زار حسن فتحي في شقته وجده رجلا عجوزا يسكن شقة متواضعة في أقدم أحياء القاهرة, مملوءة خرائط وكتب بكل اللغات, وان معه عشرين قطة تشاركه الشقة. يحكي عنه أنه مثل كل المتعلمين المصرين الذين قابلهم: كرماء وذوو رقي ومتواضعون ومثقفون وطيبوا المعشر. يذكر ماقاله حسن فتحي حينها في مقابلته معه:' ما يحدث الآن في القاهرة هو مأساة حقيقية, وأنني رغم كفاحي لمدة تربو علي الأربعين سنة لأنقذ مدينتي, الا أنني لم أوفق في ذلك. لا أحد بسمع ولا أحد يهتم. اني حزين من أجل ذلك. حزين من أجل اهمال جميع قوانين المرور وقواعد الانضباط واهمال الصرف الصحي وعدم مراعاة حقوق الجيران. انها الأخطاء الاقتصادية وسوء الادارة واهمال الزيادة السكانية والعشوائية بغير رقيب. كل هذا أصاب القاهرة بما يشبه السرطان, فهي ضحية وسكانها ضحايا. نبذوا الجودة وتبنوا ما يشبه الاهمال والتخلف فصنعوا لأنفسهم مصطلحات تكاد تكون عرفا وقاعدة وهو ما يعرف في مصر بكلمة مختصرة تجسد ثلاث مفردات:آي.بي.ام, وهي: انشاء الله,وبكرة, وماعليش.كل هذا يحيل القاهرة الي مناطق متخلفة عشوائية يسكنها القادمون من الريف, حالمين بحياة أفضل' يتحدث عن المعالم التاريخية التي أضاعها الاهمال الشديد وعدم اتباع أسلوب الأمان والصيانة, مثلما حدث لدار الأوبرا المصرية عام1971, ومثل حريق فندق شبرد في ينايرعام1952 وهو الفندق الذي شهد علامات من الحوادث التاريخية المؤثرة في تاريخ البشرية, علي سبيل المثال أقام به الرحالة البريطاني ذائع الصيت جون سبيك قبل رحلته التاريخية لاكتشاف مصادر النيل. أيضا ما أصاب مطعم جروبي وفقده شهرته وسحره بعد أن اشتراه مستثمر كويتي. وما أصاب حلوان التي كان بها أكبرمنتجع صحي ذي شهرة عالمية يأتي اليه السياح من كل فج. وفي حلوان أيضا تدهورت الحديقة اليابانبة الرائعة الجمال:' حيث تكسرت حماماتها وملئت ترابا وغبارا, وأهملت زهورها. وكل الأسلاك بها أصابها الصدأ فيها وكأن المصرين أصبحوا ذوي موهبة في تحطيم أشيائهم الجميلة كما كتبت صحيفة الاجيبشيان جازيت ذات مرة معلقة علي ما حدث للحديقة اليابانية الرائعة.' يتحدث الرجل عما أصاب صناعة السينما المصرية بأسي عميق:' منذ سنوات, كانت مصر تنتج أكثر من مائة فيلم سنويا وكان بالقاهرة وحدها ثلاث عشرة دارا سينمائية للعرض الأول للأفلام وكانت تضاهي في التقدم نظيراتها في لندن. كانت القاهرة قبلة كل صناع السينما في العالم العربي حيث كانوا يقدمون للقاهرة للتعليم والخبرة وكانت بحق هوليود الشرق. اليوم لا توجد دار عرض واحدة يمكن أن تنطبق عليها تلك الصفة وحيث أصبح اغلبية الذين يذهبون للسينما من الغوغاء, وحيث لا توجد صيانة لائقة ورعاية لدار السينما' ينقل لنا علي لسان المخرج صلاح أبوسيف قوله:' كانت أفلامنا تغير كل أسبوع عندما كانت القاهرة هوليود الشرق الأوسط. كانت ليلة افتتاح الفيلم حفلة حقيقية وكان ذلك يحدث يوم الاثنين من كل أسبوع في سينما رويال ويوم الثلاثاء في سينما مترو بالقاهرة. كان الجميع يرتدون بدل السهرات لهذه المناسبة, وكانت الصحف تنقل ذلك في صباح اليوم التالي... كان عهدا جميلا' يكتب الرجل بحسرة ويذكر أن الأسباب التي أدت الي تدهور القاهرة, كان يمكن تفاديها كلها بسهولة. أول هذه المسببات هو مركزية الحكومة. حيث يتمركز كل شيء في القاهرة. علي سبيل المثال لو أن مواطنا مصريا يحتاج جواز سفر جديد أو أنه يستفسر عن معاشه, فانه يتعين عليه القدوم الي القاهرة لتقضي مصلحته. كل الصناعة ومراكز التعليم والمستشفيات والحكومة مركزة في القاهرة. لاشيء هام يحدث خارج العاصمة!!! يتطرق بعد ذلك الي أن الصراع مع اسرائيل والحرب الباردة والساخنة معها تكلف البلد معظم مقدراتها, وأن ذلك لم يترك الا النذر اليسير للتنمية المحلية. اضافة الي أن الملايين الذين نزحوا الي القاهرة بعد حرب1967 إبان حرب الاستنزاف سكنوا القاهرة ولم يعودوا الي موطنهم بعد حرب أكتوبر. أضف الي ذلك الاهمال وعدم الأخذ بأساليب الأمن والصيانة. ثم يخلص الي أن الانفجار السكاني هو الخطر الحقيقي علي القاهرة بالذات فهو يعتبر حملا ثقيلا علي كل من الغني والفقير, وأنه كلما ازداد الحمل علي الفقراء, ازداد التطرف والمشاكل المرتبطة به. يعزي المؤلف كل المشاكل في مصر بصفة عامة وفي القاهرة بصفة خاصة الي أن مصر التي تبلغ مساحتها قدر ولايات كاليفورنيا ونيفادا وأريزونا الأمريكية, وهي مساحة شاسعة, غير أن99% من سكانها يعيشون علي4% من مساحتها فقط. ما يعجبه في المصريين وسط كل تلك الصعوبات أنهم يملكون صماما يمكنهم من الهروب من مشاكلهم الطاحنة ويمكنهم من المواجهة, ألا وهو خفة دمهم وظلهم, وهو ما ينفث عنهم قسوة الحياه وظلمات البعد عن الحضارة.