هل يتغير طعم الحياة إن استبدلت الدكتاتورية بالدماء؟ ونظام مبارك يبدو لى اليوم، كما بدا من قبل.نكسة حضارية تفننت فى إرجاع مصر للوراء عهودا طويلة. مع أنه، وبشكل متفرد عن الرئيسين السادات وناصر، هو الرئيس الوحيد الذى لم تخض مصر حربا فى عهده لثلاثين عاما، ومنح مجتمعا طيعا، وبيئة مواتية، لخطط تنموية عملاقة، تنشل مصر من حالة الركود، من جراء الصدام الإقليمى والدولى مع القوى الكبرى وصنيعتها إسرائيل، وحروب متتالية أوقعتنا فى أشراك الدين والعوز. ولذلك فأكبر جرائم مبارك التى لا يوجد قانون يعاقب عليها.ليس الفساد السياسي، ولا الرشوة، ولا تفشى الوهن والتردى فى مرافق التعليم والصحة وخلافه، لكنها كانت إفقاد مصر بوصلة ارتباطها بعالم الزمان وواقع المكان طيلة فترة حكمه، وسقطت مصر صريعة اللهاث وراء خطط تنموية قاحلة الأثر على العوام، فائقة السرعة فى توالد وتناسل مليارات المليارديرات، فى الوقت الذى أبقت الفقير فقيرا، لكنه كان يأكل ويشرب، وآمن على نفسه إلا قليلا. فطالما لم يعارض او يناكف السلطة أو ذوى النفوذ فلا خطر عليه ذات شأن إلا خطر ربما لن يشعر به مطلقا، وهو خطر التهميش من جدول حياة البلاد، والعيش عيشة الدواب، وهو خطر ربما يؤلم الكثيرين ممن لديهم الوعى والثقافة والعلم، ولكنه، وللأسف الشديد، لن يؤثر كثيرا فى الكثيرين، ممن سقطوا فى فخ اللهاث وراء لقمة العيش الجافة، التى أبقتهم بالكاد فى عداد الأحياء، ولو كانوا أحياء يعيشون فى مقابر الغفير. نعم. لقد تاهت كثير من سمات الإنسانية المصرية العتيدة والطيبة فى عهد مبارك، ولو أنصف نفسه ووطنه وأحسن اختيار أدواته، وقد كان يملك وبشدة، لكان اليوم فى عداد أبطال تاريخيين نوادر، نقشوا نهضة مصر مثل محمد على.ولذلك جاءت ثورة 25 يناير، ثم اعتلتها جماعة الإخوان، وكان طبيعيا أن ينجرف الكثيرون وراء مظلة الإسلام والتدين، لما كابدته الجموع فى عهد مبارك، من غيبة الضمير واستشراء الفساد، وتَغَوٌل السلطة على البسطاء والعامة. وكان الدين هو الملاذ والحضن الدافئ. الذى تصوره المصريون. ولأننى لا أزهو بالهجوم على المأزومين، فسيكفينى أن أشير، وفى عجالة إلى أهم مساوئ الإخوان، وأخطرها قاطبة، من حيث أثرها المدمر على المجتمع المصري، وهى جريمة شق المجتمع المصرى وتفتيت صفوفه، على نحو غير مسبوق، وكأنها أتت بدين غير ديننا، وجعلتنا من الصابئة أو الخوارج عن الملة التى نشرف بانتمائنا إليها. صحيح أنها، أى الجماعة، أتت بالديمقراطية، لكنها أبدعت، بغشمها وهوان حيلتها وفقر أدواتها السياسية الحديثة، فى إضاعة مكاسبها بسرعة الصاروخ، وتأليب أقرب أنصارها عليها، وفتحت الباب على مصراعيه، فى مصر الوسطية، لكل الأفكار الدينية الشاذة لكى تنفخ وباطمئنان، فى بوق الدين، بلا خشية أو تحسب لما يمكن أن تحدثه فى المجتمع من أضرار. ولذلك جاءت ثورة يونيو. لترد الجميع إلى الصواب. وتعيد لمصر الأمل فى منهج معتدل. ربما لم نجن بعد حتى الآن ثماره، لكننا بلا ريب، على الطريق إلى الاستقرار، وجهود التنمية والمشروعات المتزايدة والعملاقة، تصب فى صالح مصر. والحق فى علاه قد جعل لنا جميعا طريق المراجعة دائما، لكى نعيد حساباتنا، ومن بيننا المصريون من جماعة الإخوان، الذى يجب عليهم اليوم أن يتذكروا أنهم مصريون قبل أى شيء.وشرفهم فى مصريتهم يتعين أن يستغرق انتماؤهم لأى فكر أو جماعة. قبل فوات الأوان على المراجعة، وتزداد أعداد الضحايا من البسطاء ومن أدوات سيادة القانون بالدولة. وصدق الله العظيم " وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِيٍّ مِّن بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ". الشورى (44). محاضر القانون الدولى وحقوق الإنسان.