لم تكن القصيدة هي المغردة وحدها ولكن الرواية تقدمت المشهد باعتبارها فناً يرمز ولا يلغز، كانت الرواية مستشرفة لآفاق المستقبل وهي تكتب في العقدين الأخيرين دراما ما حدث وما ستؤول إليه الأحوال. إن من يعاود القراءة فيما أفرزته المطابع وتوزع علي أرفف المكتبات سوف يتأكد من هذا الزعم ، نعم كان الأديب مهموماً بواقعه فانطلق محذراً بكل ما أوتي من قوة المعاني من مستقبل بدا للبعض غامضاً وبدا للآخرين غرقاً وطوفاناً وسيلا يجرف في طريقه ما تبقي من قيم بدأت تنفرط وتذوب أو تقع في أيدي لصوص الزمن الجديد. ألم يكتب الأدباء عن الفساد في شتي صوره وأشكاله واستشرائه ؟، ألم ينبهوا إلي قادم أسود إذا ما ظلت الأمور تسير علي ما كانت تسير عليه؟ الأمثلة كثيرة والكتاب عبروا كل بطريقته ، كتب محمد زهران،. سهير المصادفة ، عن الفساد وعن ابالسة الزمن الجديد والعشوائيات وسرقة الوطن واستلابه مثلما كتب علاء الأسواني عن الفساد وشذوذ المجتمع وفضح الفساد والمظاهر التي صارت تسكن في بعضنا أو حولنا ، كما فسرت الرواية كيف استطاع هؤلاء الذين لا اسم لهم تسيد المشهد فصاروا مثل العلق الذي يتعيش علي مص الدماء ، ولم تخل كتابات آخرين من اشارات لها دلالاتها مثلما كتبت سهي زكي، ومني عارف، ومحمد صلاح العزب،ومنصورة عز الدين ، وغيرهم. إنني عندما أعود إلي ما كتبت سواء ما جاء في هيئة قصص قصيرة أو رواية أجدني متسقاً مع ذاتي ، وغير خاف علي أحد مدي السعادة التي تغمر الكاتب عندما يجد ما حذر منه قد صار يتحقق ورغم ألمه في تلك اللحظة تتولد داخله ثقة أنه بالفعل كان علي حق ولم يكن يشطح ، ولم يكن متشائماً إلا بقدر ما رآه وعبر عنه محذرا. عندما اندلعت ثورة الشباب في ميدان التحرير وراهن البعض علي نجاحها ويأس آخرون من استمرارها عدت إلي واحدة من رواياتي ، لعلها الأحدث رغم أنها كتبت منذ خمس سنوات ونشرت منذ عامين فقط، الرواية هي صوب مياه دافئة ، كتبتها وكنت مترددا في نشرها ، كثيرون أشفقوا عليّ لما اطلعوا علي مخطوطتها ، ولا أدعي الشجاعة، ترددت ، لكن قوة ما كانت تدفعني ، لكن شيطان الوظيفة وأكل العيش كان يسكن رأسي، ولما تزايدت داخلي القوة، وصار حلقي مراً مما أراه وأسمعه، دفعت بها إلي المطبعة متحملاً أي تبعات لجرأة الطرح فيها وتسمية الأشياء بمسمياتها وانتظرت ميلادها. ( صوب مياه دافئة ) رواية ترصد الفترة التي تلت هزيمة يونيه من عام سبعة وستين من القرن الماضي مروراً بفترة حرب الاستنزاف والاستعداد لمعركة التحرير وعملية إعادة الثقة لقواتنا المسلحة وصولاً إلي نصر أكتوبر المجيد وكيف جني العدو ثمار النصر بأكثر مما جنيناه نحن المنتصرين بكثير ، وأثر سياسة الانفتاح الاقتصادي في زلزلة كيان المجتمع المصري وكيف انطلقت بغشمها تهدم قيم وعادات المجتمع ، وكيف تقدم المشهد أناس مارسوا العهر في كافة صوره وأشكاله حتي صاروا رموزاً وصاروا كما راق لهم أن يسموا أنفسهم الصفوة أو الكريمة المغشوشة. لقد انطلقت الرواية من خلال راويها الذي ربما أصيب بالفصام فصار شخصين في شخص واحد يحكي بلسانه وبلسان الآخر الذي يسكنه ويتلبسه منذ الطفولة التي عاشها زمن عبد الناصر ولم يدرك من زمنه إلا ذكري النكسة الأليمة وكيف تغاضي الناس عن خطأ زعيمهم والتفوا من حوله في مشهد يغاير كل نظريات التحليل الاجتماعي ، انطلقوا يرجون الرئيس ألا يغادر وألا يتركهم بلا ربان ، كما يفضح ذلك الصوت الراوي والمحايد هؤلاء الناس الذين استمرأوا الكسل بعد أن كانوا يخطون بثقة مع زعيمهم خطوات واسعة نحو المستقبل ، لكنهم لما تعبوا تخلفوا عنه وعابوا علي الزعيم أن خطواته كانت أوسع من خطواتهم وأنه كان أجدر به أن يسايرهم ويسير وسطهم بدلاً من سيره بمفرده ، فارتضوا بأن يسيروا علي أثر خطواته لكن العواصف لم تترك لهم ذلك الاختيار عندما هبت تزيل من علي الرمال كل آثار خطواته فتاهوا قبل أن يصلوا وضلوا السبيل . حتي عندما جاء الحديث عن عائلة الراوي نجده يختار اللغة المحايدة التي سكنته هو وطبعت علي شخصيته وكانت من قفبل تسكن والده الذي تربي في كنف أب قاس لا رأي إلا له ولا مشوره لأحد في قراره ، حكي الراوي عن نحمده الغانية التي استطاعت بجسدها وأجساد اخريات أن تصل إلي المقعد النيابي بل وتصير مالكة لإمبراطورية إعلامية تكاثرت أسماء محطاتها الفضائية التي انتشرت وتكاثرت تكاثر الخلايا السرطانية في الجسد المعتل ، وبعيداً عن جله لذاته نجده يحكي عن شقيقه الذي مارس التجارة في كل شيء ، عمل في المقاولات فغش ، وفي تجارة الغذاء فغش ، حتي وصل إلي نحمده فصار من شركائها في تجارة الرقيق فتكاثرت ملايينه وأصبح من المهنئين للقيادة السياسية في أي وبدون مناسبة ، وينتهي به الحال إلي الجنون ة، كما نجد ذلك الراوي يسخر من جده سيد القرية وعمدتها الذي لخص أسباب النكسة في بخيته وبيتها سيء السمعة فطردها لتسكن علي أطراف البلدة فاتسعت تجارتها بعد أن أفلتت من رقابته وساعدها بعض خفرائه. ويهب الراوي من سباته لما يجد تراثه يسرق وهناك من يعمل علي استنزافه . وفي الفترة القصيرة تلك التي استيقظ فيها الراوي يقتل السادات في مشهد مأساوي يوم زينته ووسط جنوده الذين كان يباهي بهم وعندما يدخل ذلك الشخص في فراشه يركبه كابوس ، وفي تلك الرؤية الكابوسية ينطوي له الزمن فيري ما ستصير عليه بلده، يجد النائب يصير رئيساً ، ويري قيصر وهو يطالب مجلس السينات بالملك له ولأبنه، وكيف ساعده بروت سفي تحقيق بعض حلمه لكنه يغدر به مثلما غدر بآخرين يشكلون جزءاً من ماضيه الذي يريد له أن يتبخر ويمسح من كل ذاكرة تختزنه ، وكيف استطاع أن يجعل من مناوئيه قوي تطابه بأن يجعل من ابنه وليا لعهده حتي يحافظوا علي مصالحهم . تنتهي الرواية التي اعتمدت علي التاريخ والأسطورة في نسج أحداثها بجملة لا تخلو من دلالة عندما يقول الراوي : ..... و قد يكون في الغرق بعث جديد، مثلما غمر الماء الكون في الزمن القديم فاغتسلت الأرض بما عليها من أوزارها حتي إذا تطهرت الأشياء عادت تبرز طاهرة من جديد، والماء يوالي انحساره عن وجهها الجميل )!.