يبدو أننا فى زماننا هذا قد تكاثرت علينا سحب التعصب الدينى. فأحالت حياة أمتنا العربية الإسلامية كدرا ونكدا وتنغيصا. ولهذا فقد وجب علينا أن نتقصى فى عدة أمور. موقنين باقتران ديننا بإعمال العقل ونبذ الكهنوت. وأول هذه الأمور يتصل بفلسفة الدين وهدفه.وهنا فالاتفاق بيِنُ على أن الدين ليس فقط عبادة الديان، بل يهدف لتهذيب النفوس، وضبط السلوك، وإقامة حياة تختلف عن بيئة الضوارى، فلا يفتئت القوى على الضعيف. بل يرحمه. ثم إننا لكى ندرك قيمة التراحم فى الإسلام، فليس أدَل من جعل فضيلة الرحمة مناطا لانتشار الدين وشيوع الإيمان بالخالق سبحانه. وجاء القرآن بقانون التوفيق فى التبليغ، فى قوله تعالى فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ آل عمران 159. وعلينا أن نستوعب هذه الآية باعتبارها عامود الخيمة فى الاسلام.لأن الخالق قد ساقها لنوقن أن الإسلام يدين فى انتشاره لفضيلة الرحمة. وقيمتها أنها لا تجسد فقط حكمة الحق فى تسخير الملائم من الصفات الإنسانية لتحقيق هدف الدين فى العيش الهانئ. لكنها أيضا تبيان لنا أن المولى فى إقراره لدين، يعتمد فى ذيوعه على الرحمة، قد شرع لنا نسقاً إنسانيا بناءً، لا يقبل بالعنف، ولا يستقيم له بنيان بالهدم أو التخريب أو الدماء أو العسف. وانتهاء ا لذلك فى شأن جوهر الإسلام. فمن المؤكد، منطقا وقبله عقيدة، أن أى سلوك تنتهجه أى جماعة تدين بالإسلام، سوف يقاس فى تكييف توافقه واستقامته من منطق الدين - بمدى التزامه بمنهاج الرحمة وناموس العيش فى سلام مع الآخر. وهناك أيضا قيم مفروضة. فى العدل والعمل والعلم والإخلاص والصدق. تجعل من منهج الرحمة نسيجا قابلا للتوسع بين بنى البشر فى دعة ويسر وسلاسة. صاغها الإسلام بمنهج النبوة المستنير، بشكل دقيق، لكى يشكل الدين معبرا للعيش فى سلام فى الدنيا وفى رحمة من الله فى الآخرة. ولذلك يقترن بما سبق حديث النبى محمد ص إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّى مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحْسَنُكُمْ أَخْلاقًا لكى يكتمل رسم الإسلام. كما أراده الله تعالى، وكما جاء به تكليف الرسول بالدعوة.دينا شارعا للعيش بالرحمة والحكمة والموعظة الحسنة. وليس بالسيف والقنبلة والبندقية والديناميت. أما هؤلاء الذين تفرقوا وفرقوا ديننا شيعا. وهم كل خارج على منهاج الرحمة بين كل الناس. فلسنا منهم فى شيء. وقد ابتدر الخوارج بالفرقة فى مطلع الاسلام، الذين خرجوا على عليٍ، ودفعهم إيمانهم المتعصب وضيق الأفق. لقتال من هم على غير معتقدهم. حتى أنهم قاتلوا الخليفة الراشد، باب مدينة العلم، على رضى الله عنه. واليوم لدينا ألف خوارج وخوارج فى ربوع العالم الإسلامى. وأختتم بتحليل الأستاذ أبوزهرة فى جنوح الخوارج بتقريره أن العاطفة الدينية الجياشة التى جعلت الخوارج خوارجاً كانت نابعة من حياتهم البدوية الساذجة فيقول: كان أكثرهم من عرب البادية وقليل منهم من كان من عرب القرى، وهؤلاء كانوا فى فقر شديد قبل الإسلام، ولما جاء الإسلام لم تزد حالهم المادية حسنا، لأنهم استمروا فى باديتهم بشدتها وصعوبة الحياة فيها وأصاب الإسلام شغاف قلوبهم مع سذاجة فى التفكير وضيق فى التصور وبعد عن العلوم، فتكون من مجموع ذلك نفوس مؤمنة متعصبة بضيق نطاق العقول ومتهورة مندفعة، لأنها نابعة من الصحراء، وزاهدة لأنها لم تجد.