لم يعد ممكنا استمرار سياسات الإصلاح و الحديث عنها, بتجاهل الأوضاع الاجتماعية السائدة و ضرورة النهوض بها, من أجل إقناع الناس بإنجازات عظيمة, بعد أن أصبحت تلبية المطالب الحياتية في مقدمة أجندة المواطنين و علي قمة جدول أعمالهم أي سياسة إصلاح في أي مجتمع تحتاج إلي قوي اجتماعية تساندها و تدعمها, و إذا كانت سياسات الإصلاح المطبقة لا تخدم سوي فئة واحدة محدودة الانتشار في المجتمع, فإنها تواجه خطرا حقيقيا من بقية الفئات المضارة, وهي هنا الأغلبية. و تحقيق التوازن الاجتماعي في الدول الليبرالية لا يقف عند حدود مسئولية الدول و الحكومات, و إنما يتجاوز ذلك من خلال أداء اجتماعي متكامل يهدف إلي تحسين مستوي المعيشة بجهود القادرين المستفيدين من استمرار الأوضاع الاقتصادية القائمة. و في مصر و علي مدار عقدين من الزمان احتلت سياسة الإصلاح الاقتصادي الأولوية المطلقة, علي خلفية أن امة لا تجد قوت يومها لا تستطيع الحياة و ممارسة الحقوق الأخري, و هي رؤية ليست بعيدة عن الصواب, لكنها تحتاج إلي المزيد من الإجراءات المكملة التي تجعل من هذه الأولوية في التنفيذ بداية لإستكمال مسيرة الإصلاح. و مما لا شك فيه أن سياسات الإصلاح التي طبقت سواء المالية و النقدية أو الهيكلية, تركت جراحا مؤلمة في نسيج بعض الفئات الاجتماعية, و كان لها أثرها البالغ علي بعض الفئات, في حين حققت نهوضا غير متخيل لبعض الفئات الأخري, و هو ما يستلزم ضرورة إعادة النظر في مسارات سياسة الإصلاح في المرحلة المقبلة. لقد تغير وجه مصر كثيرا في السنوات الماضية, و تحققت سلسلة من النجاحات علي أصعدة عدة في مختلف المجالات المالية و الإقتصادية و الإجتماعية, و لم تقتصر الاستفادة من هذه الإنجازات كما كان سائدا علي العاصمة وحدها بل إمتدت إلي المحافظات و الريف, و ساهمت بقدر ملائم في تحسين إمكانات الحياة. لكن هذا التغير أصابه أيضا بعض الرتوش التي تركت آثارا مؤلمة في وجه المشهد الإقتصادي, إذ تشهد مصر و لأول مرة في تاريخها الحديث تفاوتا مذهلا في الدخول و في مستويات المعيشة, و هي ظاهرة ما كانت لتحصل لولا أن توزيع عوائد التنمية يعاني خللا فادحا, و يحتاج إلي إعادة نظر, و إلي أساليب جديدة في التعامل مع نتاج السياسات الإقتصادية المطبقة. إن حرص رئيس الدولة علي رعاية الفقراء و الفئات الأولي بالرعاية, و رعاية البعد الإجتماعي في الكثير من الإجراءات و اللحظات الحاسمة, التي واجه فيها المصريون الأزمات المفاجئة, إلي جانب قدرة الإقتصاد بعد تطبيق السياسات الإقتصادية الجديدة علي إستيعاب هذه الأزمات الطارئة و التعامل معها بأقل قدر من الخسائر ساهم حتي الأن في تجاوز الأزمات و منح القدرة علي تقليل إحساس المواطن بالمحن. السؤال المطروح الأن هل يمكن الاعتماد دوما علي توجيهات القيادة السياسية بمراعاة محدودي الدخل من خلال إجراءات ترفع المعاناة هنا أو هناك في لحظة محددة ؟ و هل يمكن اعتبار التدخل الوقتي هو الرقم المطلوب في المعادلة المنقوصة السائدة لإعادة التوازن للحظات ثم الإنصراف عنه مجددا بالعودة لسياسات الانحياز للإصلاح بغض النظر عن نوعية المستفيدين من عوائده؟ هذه هي القضية المطروحة في اللحظة الراهنة, خصوصا بعد إعلان المؤتمر السنوي السابع للحزب الوطني عن تبني الموجة الثانية من الإصلاح و التي ينبغي ان تتوجه بالتوازي و التساوي بين المزيد من الإصلاحات الإقتصادية لجذب المزيد من الاستثمارات و تحقيق المزيد من فرص العمل, و بين توفير المزيد من الحقوق الإجتماعية للفئات الأولي بالرعاية و محدودي الدخل, من خلال تحسين و تطوير الخدمات العامة و الصحية و التعليمية و الطرق و المواصلات, و رفع الأجور. لم تعد قضية العدالة الإجتماعية مسألة ترف, و لم يعد النظر لها بمفهوم البر و الإحسان ممكنا, إذ أن التغيرات العديدة الجذرية التي لحقت بمصر, لمست في جانب منها عصب الوعي الإجتماعي, و تنمية الدعوات المطالبة بالحقوق الإجتماعية من عوائد التنمية التي ظفر بغالبيتها عدد محدود من فئات المجتمع, و رغم أن فئات أكثر إتساعا إستفادت بقدر أو بأخر من النشاط الاقتصادي بالمجتمع, إلا أن الغالبية العظمي يسيطر علي مقدراتها و قدراتها الإقتصادية مقدار ما يجود به المستحوذون علي غالبية عوائد التنمية. و القضية التي تفرض نفسها في هذا المقام هي قدرة الحكومة وحدها علي تلبية متطلبات الإصلاح الاجتماعي, و ما إذا كانت تستطيع تحقيق ذلك بمفردها و وفقا لأدوات تقليدية معروفة سلفا, هي في أفضل الظروف و الأحوال لا توفر إلا الحدود الدنيا, و لا تستطيع بمفردها النهوض بالإحتياجات المطلوبة. الحاصل أن المستفيدين إستفادة مباشرة من عوائد عملية التنمية لم يقدموا حتي الأن ما هو واجب عليهم من إلتزامات تجاه المجتمع الذي ساعدهم علي تحقيق ما هم فيه الآن. و الحاصل أيضا أن الواجب الإجتماعي لا يتوقف عند حدود الإلتزام بسداد الضرائب أو التبرع هنا أو هناك, أو مباشرة أعمال البر و الخير و الإحسان في نطاق إجتماعي محدود و ضيق, هو ربما يسهم في تحسين صورة صاحبه بين المستفيدين لكنه لا يقي من غضب الغالبية غير المستفيدة من هذه الأعمال. و الشاهد أن الحكومة بذلت من الجهود قدرا ملائما لحماية الحقوق الاجتماعية و توفيرها, غير أنها في المقابل وفرت للمستثمرين المحليين الكثير و الكثير لتشجيعهم علي المزيد من النشاط الإقتصادي, و يمكن القول أن جهود الحكومة لم تكن متوازنة بين الجانبين إذ إنجازت وهذا أمر طبيعي بقدر ما لصالح المستثمرين و رجال الأعمال في المجالات المختلفة, و بات عليها الأن تعديل الكفة لتحقيق قدر من التوازن بين الطرفين. المؤكد أن المزيد من سياسات الإصلاح الإقتصادي تعود بالقدر الأكبر من عوائدها علي المستثمرين, لكن المؤكد أيضا أن استمرار إهمال حقوق بقية فئات المجتمع يمثل في مرحلة ما عقبة أمام الاستقرار و تحقيق المزيد من عمليات التنمية, و تحسين الأوضاع الاقتصادية. المشكلة الحقيقية هي في الفئات التي حققت الإستفادة الأكبر من الإصلاح الإقتصادي, من زاوية الدور المطلوب منها لتوفير جوانب أساسية و ملحة لمعالجة جوانب إجتماعية نتجت عن الخلل في توزيع عوائد التنمية و الاستفادة منها في توسيع دوائر الفئات الإجتماعية المنحازة للإصلاح و المدافعة عنه. لم يعد المطلوب الأن الحديث عن جهود إجتماعية متناثرة للبعض من هؤلاء, و لن يفيد بحال تنظيم دورات حفظ القران, أو رعاية مجموعة من الطلاب المتميزين, أو تنمية مواهب أطفال رياضيين, قدر ما أصبح مطلوبا نوعا مختلفا من اللغة الإجتماعية تكون ذات صلة مباشرة بتكوينات أساسية و جوهرية في المجتمع تسهم في عملية التنمية و ليس الحلول الفردية لمشكلة مجموعات من الناس هنا أو هناك. المطلوب الآن هو الاستفادة من جانب ولو بسيط من عوائد أرباح المستفيدين من سياسات الإصلاح طوال العهود الماضية, لمساندة الحكومة بصورة منظمة في دعم جهود التنمية الإجتماعية و المجتمعية, بدلا من الأنشطة الفردية الدعائية محدودة الأثر, التي لا تسهم في تحقيق التنمية المطلوبة, وتلبية متطلبات الفئات الأكثر إحتياجا. إن تأسيس معاهد أو مدارس فنية, و تأسيس الجامعات الأهلية غير الهادفة للربح من خلال المنح, و التعاون في بناء مستشفيات أو عيادات طبية في الأحياء المختلفة, و غير ذلك الكثير من الأفكار ذات الأبعاد الاجتماعية, ستساعد بقدر كبير علي تلبية جانب من الحقوق الاجتماعية المطلوبة في المرحلة المقبلة. إذا كان رجال الأعمال و الصناعة و التجارة و غيرهم من الفئات الأكثر قدرة جادين في المساهمة في سياسة الإصلاح الاجتماعي, فإن أمامهم أبوابا كثيرة مطلوب منهم اجتيازها بالتعاون مع الحكومة في المشروعات الاجتماعية المطلوبة, و الالتزام بالقوانين و خصوصا ما يتعلق بحقوق الناس. حماية المجتمع و ثروات القادرين لا تحميها أعمال الخير و البر والتقوي, و إنما يكفلها التزامهم أمام مجتمعهم بواجباتهم. [email protected]