يواجه الاحتلال الإسرائيلي, من الآن فصاعدا, سوء تقدير فرض حرب جديدة ضد قطاع غزة, من دون امتلاك استراتيجية محددة للخروج من مأزق فشل تحقيق أهداف مرسومة سلفا, وضعف تقدير وزن المقاومة الفلسطينية, وتنامي حالة إرباك في أوساط مؤسستيه السياسية والعسكرية من نواتج تصعيد أحدث جدلا حادا سيجد تفاعلاته في الأيام المقبلة. وزاد من عمق المأزق عملية أسر جندي الاحتلال شاؤول آرون, التي تبنتها كتائب القسام, الجناح العسكري لحركة حماس, فضلا عن منسوب الخسائر البشرية والمادية التي تكبدها الاحتلال الإسرائيلي. وإذا كانت تلك المعطيات قد أذكت نقاشا إسرائيليا حول جدوي حرب لم تحقق تقدما, ومصير اجتياح بري تردد رئيس الوزراء بنيامين نيتانياهو في مقاربته قبل الذهاب إليه بدفع من اليمين المتطرف, فإنها لن تغيب عن مسار العدوان ضد غزة, إما لجهة إقدام رئيس الحكومة بتصدير أزمته الداخلية نحو مزيد من التصعيد لتحقيق إنجاز ما يقدمه للداخل الإسرائيلي مواراة لفشله, وإما بزعم إتمام المهمة لخلق واقع ردعي, والتفاوض حول وقف إطلاق النار. وفي كلتا الحالتين; سيدفع نيتانياهو ثمن التورط في ساحة غزة تحت عنوان المزايدات الإسرائيلية التي قد تنال من مستقبله السياسي أيضا. حسابات إسرائيلية بعد ثلاثة أسابيع تقريبا علي حادثة اختفاء المستوطنين الثلاثة, في12 يونيو الماضي, ومن ثم العثور علي جثثهم في الضفة الغربيةالمحتلة, شن الاحتلال غارة ضد قطاع غزة قبيل اتخاذ قرار ضربه, في يوليو الماضي, عقب جلسات متوالية للمجلس الوزاري الأمني الإسرائيلي المصغر الكابينت, شهدت تباينا حسم لصالح الأخذ بناصيته تحت وطأة مزايدات داخلية بين أحزاب وقوي تتنافس, بمختلف توجهاتها اليمينية واليسارية والدينية, حول منسوب العداء للفلسطينيين العرب. وجاء القفز الإسرائيلي علي حادثة المخطوفين بقرار سياسي, اتخذ علي وقع اشتداد العزلة الدولية نتيجة المواقف المتعنتة من المفاوضات والأنشطة الاستيطانية, وذلك لتنفيذ أهداف معلنة تتمثل في وقف إطلاق الصواريخ من غزة, وتدمير الأنفاق, وضرب البنية التحتية لحماس, واغتيال قادتها. إلا أن مرامي الاحتلال تتجاوز ظواهر مجترة من مشاهد عمليات عسكرية سابقة صوب مخطط كسر القضاء علي المقاومة, وتخريب المصالحة, وتعطيل عمل حكومة الوفاق الوطني الفلسطيني, التي تشكلت بعد مخاض عسير في2 يونيو الماضي. وتخشي إسرائيل من تحقيق وحدة فلسطينية تؤدي إلي عرقلة مشروعها في الضفة الغربية والتي يريدها الاحتلال مقسمة الأوصال بين دولة زهاء631 ألف مستوطن اليوم, يسعي إلي زيادتهم للمليون خلال الأعوام القليلة القادمة, ضمن نحو62% من مساحة الضفة في المناطق المسماة ج والغنية بالإمكانيات الاستثمارية والاقتصادية والزراعية, إلي جانب حكم ذاتي فلسطيني, باسم سلطة أو حتي دولة, ضمن الأجزاء المقطعة الخارجة عن يد الاحتلال, تعني بالشؤون المدنية والحياتية للسكان خلا السيادة والأمن الموكولتين للاحتلال, مقابل غزة معزولة بدولة ونظام مستقلين, وذلك غداة قضم المساحة المخصصة لإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة علي حدود عام1967, وإخراج القدس من مطلب التقسيم. وقد أدخل الاحتلال في حساب توقيت حربه ضد غزة تفاعلات البيئة العربية الإقليمية والدولية, إزاء انشغال دول المنطقة بقضاياها الداخلية, مقابل الموقف الأمريكي المناصر لما يزعمه دفاع الاحتلال الإسرائيلي عن نفسه أمام صواريخ المقاومة, والمواقف الأوروبية المتباينة. مسارات معاكسة بيد أن مسار عدوان غزة, حتي اللحظة, كشف عن معاكسة مجريات الأحداث لأهداف الاحتلال وتقاريره الأمنية والاستخبارية. فقد فاجأ رد المقاومة توقعات المؤسسة السياسية والعسكرية الإسرائيلية بصواريخ مصنعة محليا وأخري عمدت إلي تخزينها خلال عامي2011 و2013, استهدفت قلب الكيان المحتل وجعلت مدنه تحت مرمي مداها. هذا المعطي غير المحسوب سلفا, أوجد خطابا في الكيان الإسرائيلي مغايرا لما تقاطر, ابتداء, داخله, حول حسم المعركة بلغة الانتصار من الضربة الأولي. فقد ارتفعت نبرة الشك الداخلي في مصداقية النخبة السياسية والعسكرية الإسرائيلية إزاء تناقض إفادتها عن سير المعركة مع حيثياتها, في ظل مواصلة إطلاق الصواريخ بعيدة المدي علي مواقع مركزية في الكيان المحتل, وإيقاع إصابات بين صفوف الجنود الإسرائيليين, وعدم قدرة منظومة القبة الحديدية, ذات الصناعة الأمريكية والكلفة المادية الباهظة, علي إيقافها, والإخفاق في تصفية قياديين من حماس. مخاطرة غير محسوبة ذهبت حالة عدم اليقين من مآل حرب مفتوحة الاحتمالات إلي ارتفاع أصوات سياسية وعسكرية إسرائيلية تطالب صانع القرار برفض الانتقال إلي خيار الحرب البرية إزاء حساب احتمالات رد فعل المقاومة, والسجل الإسرائيلي المليء بإخفاقات عملياته البرية, في ظل تقديرات أمنية بامتلاك قوي المقاومة الفلسطينية قدرات دفاعية قد تلحق خسائر كبيرة بقوات الاحتلال البرية, فضلا عن تأليب الرأي العام العالمي ضد الاحتلال من ارتفاع عدد الضحايا المدنيين في غزة. وقاد فشل تحقيق الأهداف المعلنة من العملية العسكرية ضد قطاع غزة, بعد توسيع نطاقها, إلي قرار الكابينت بشن هجوم بري, في17 يوليو الماضي, بعد عشرة أيام من قصف بري وجوي وبحري استهدف القطاع الفلسطيني المحاصر. ورغم اتفاق أحزاب اليمين المتطرف حول خيار العملية البرية للقضاء علي المقاومة وإحياء مشروع الكيان الغزي المنفصل عن الضفة الغربية, مقابل دعوة إسرائيل بيتنا, ورئيسه وزير الخارجية أفيجدور ليبرمان, إلي إعادة احتلال غزة. بيد أن تمرير القرار لم يكن سهلا, لاسيما في ظل تكبد الاحتلال خسائر في صفوف جنوده عند التوغل عميقا في القطاع, وفق تحذير رئيس الأركان الإسرائيلي بيني غانتر, وغياب استراتيجية واضحة للانسحاب قد تجر معضلة المراوحة بين التقدم عميقا داخل غزة والمخاطرة بسقوط عدد كبير من القتلي, وبين الانسحاب إلي الخلف ومنح حماس نصرا معتبرا. غير أن نيتانياهو, الذي يواجه انتقادات داخلية حادة إزاء سياسته في إدارة المعركة, تجاوز محاذير القرار صوب نفاذه, بهدف القطع علي نعوت فشله وتغليب كفة وضعه الانتخابي في انتخابات مبكرة تطالب المعارضة بإجرائها, بما يمنحه الفرصة الكافية لتعميق الخلل القائم في الأراضي المحتلة لمصلحة استكمال المشروع الاستيطاني في الضفة الغربية وتقويض حل الدولتين وفرض الوقائع المستحدثة من الحرب علي طاولة مفاوضات قد يتم استئنافها بعد حين, وضرب الوحدة الوطنية التي لاح أفقها بقرار تشكيل حكومة الوفاق الوطني, ما يعني تكريس تجزئة غزة عن الضفة, وتسهيل الإجهاز علي الأخيرة. مأزق الخروج بيد أن العملية البرية لم تكن يسيرة بالدرجة التي اعتقدها نيتانياهو ومناصروه, فيما تسببت عملية أسر الجندي آرون في إمكانية تكرار سيناريو أزمة أسر جندي الاحتلال جلعاد شاليط, في عام2006, الذي لم يطلق سراحه إلا في عام2011 بعد صفقة تبادل مع أسري فلسطينيين في سجون الاحتلال, والتي تمت عبر الوسيط المصري. أشعل ذلك فتيل جدل حاد بين أوساط النخبة السياسية والعسكرية الإسرائيلية حول دواعي الزج بعملية برية لا يعرف كيفية الخروج منها, وجدوي الأهداف المتوخاة من ورائها نظير ارتفاع تكلفتها البشرية والمادية, فيما دعت أطراف داخلية إلي تشكيل لجنة تحقيق في أسباب فشل الحرب عسكريا واستخباريا, وفي مصداقية المؤسستين العسكرية والسياسية بشأن الكشف عن عدد القتلي في صفوف قوات الاحتلال. وفي المحصلة; لن تغيب حيثيات مسار العدوان الإسرائيلي ضد قطاع غزة عن نواتجه, فمعركة غزة ستكون خاسرة للاحتلال, وفق طريقة فرضها وقائمة الأهداف التي وضعها لنفسه, بينما ستضع مصير الحكومة الإسرائيلية في مرحلة لاحقة علي محك انتخابات مبكرة.