لم يعد الإعلام اليوم مقصورا علي القنوات التقليدية, تليفزيون بقناتين وراديو بثلاث محطات وحفلات حية في عدد محدود من الأماكن ودمتم ففي عصر الأقمار الصناعية والإنترنت أصبحت القنوات لا حصر لها ولا لأشكالها, فالقنوات الفضائية واليوتيوب والفيس بوك والتويتر والمدونات والمنتديات أصبحت جميعا قنوات للميديا, ونوافذ يطل منها الإنتاج الفني بكل أشكاله. وكانت النتيجة المباشرة لهذا كله فيما يخص المديح, تراجع المداح الفرد, والمبتهل الواحد, وحلت محله فرق الإنشاد, بعد أن ارتبط المديح في أذهان الكثيرين ب العرض الفني. وربما كانت فرقة حسين الجريتلي المشهورة باسم الورشة هي أولي الفرق التي دخلت هذا المجال عام1997, حيث كانت تقدم عرضا من عروض السيرة الهلالية هو عرض غزل الأعمار ولارتباط السيرة الهلالية بالمديح منذ ظهورها,فقد كان لابد من تدريب العارضين علي الغناء, وهو ما تحقق علي يد سيد الضو. ومع نجاح عرض غزل الأعمار بدأت الورشة في إفراد مساحة خاصة للإنشاد والمديح, واكتشفت أصواتا رائعة أهمها الشيخ زين محمود الذي قدمنا له سابقا. غير أن إنتاج الورشةلم يكن يوما مخصصا بالكامل للإنشاد والمديح, وظلت هكذا طوال سنوات تألقها حتي مطلع الألفية الجديدة, لكن الورشة فعلت شيئا مهما وهو أنها فتحت الباب لدخول الفرق الحرة, وحتي فرق الدولة عالم الإنشاد. ولا يمكن الآن عمل حصر لفرق الإنشاد خاصة وأن الإنترنت, الفيس بوك واليوتيوب تحديدا قد أتاح ظهور فرقة كل يوم فيكفي أن تصور حفلة واحدة بكاميرا ديجيتال, وتبثها عبر موقع اليوتيوب, أو تنشئ لها صفحة علي الفيس بوك حتي يصبح لديك فرقة معترف بها, ولا يعني هذا بالطبع سوء حالة هذه الفرق, فبعضها كما سنري حقق مستوي رائعا من الأداء, فقط نريد التأكيد علي بساطة الحدث. ومن أهم فرق الإنشاد حاليا فرقة المولوية المصرية التي أسسها وأنشدها د. عامر التوني الذي ولد وتربي في مركز ملويبالمنيا, ودرس في أكاديمية الفنون بالهرم, وقد حاول التوني من خلال فرقته طرح التراث المولوي المصري علي الساحة العالمية ليؤكد للعالم اجمع أن مصر لها خصوصية تراثية بين الأمم, مما يؤكد هويتها الثقافية والتراث المولوي هو تراث الإنشاد والرقصات الصوفية المعروفة باسم التنورة, والتي اجتهد عامر في تأكيد مصريتها. كما حاول التوني أن يضرب بيديه في أعماق التاريخ لاستخراج تراث المولوية في مصر, فلجأ إلي تلك الحقبة التي كانت تحيا فيها المولوية في مصر منذ دخول الفتح العثماني حتي ثورة1952 متتبعا الآثار الموسيقية من الموشحات والابتهالات والمديح الموروثة عن أكبر المشايخ, واستعراض كل الأشكال الاحتفالية للطرق الصوفية في مصر أمثال الطريقة الميرغنية والشاذلية والرفاعية والبيومية وغيرها من الطرق الصوفية التي تستخدم القوالب الموسيقية الدينية المختلفة. ومن خلال الدراسات البحثية في المعاهد والجامعات والمقالات والكتب التي تناولت المولوية والاشكال الادائية لها, كما استعان بالمؤسسات الثقافية التي تهتم بتوثيق وحفظ التراث, وساعده في ذلك دراساته العلمية التي أشرنا اليها بأكاديمية الفنون, من جمع خيوط قديمة وواهنة تشكل تاريخ المولوية في مصر, كما كان للأثر الصوفي, بداخله لنشأته في الصعيد, وفي بيئة ريفية تنتشر فيها الطرق الصوفية, كل هذا جعله يتسلح بالمعرفة التي استطاع من خلالها ان يكون فهما صوفيا انطلق منه بالنظر إلي تراث التصوف العالمي, وصيغ تقديمه بداية من تركيا إلي الهند والبوسنة وغيرهما من البلدان, ولم يكتف بذلك كله بل راح إلي ما هو أعمق من ذلك, تتبع سير الصالحين والأنبياء والرسل منذ بدء الخليقة, ودرس الفلسفات وأشكال التصوف الأولي في الأديان الأخري حتي وقع علي أول متصوف علي وجه الأرض, فوجد أنه مصري. وكانت المفاجأة حين وجد مكانه بالتحديد في الصعيد بل من نفس البلد الذي تربي فيه التوني مدينة ملوي بمحافظة المنيا ذلك المتصوف الأول هو تحوت فراح يدرس في متون تحوت والمعروفة لدي الغرب بمتون هيرمس أو هيرمتكا أو الهيرمسات وجد وبعد هذا كله استطاع التوني أن يصدر البيان الفكري للمولوية المصرية ليكون أول مانيفستو للمولوية في العالم يفسر فيها تصوره للتصوف, والرموز والحركات والإيقاعات بالتالي. وبخلاف المولوية هناك فرقة سماع الصوفية التي اسسها د. انتصار عبد الفتاح وهي إحدي الفرق التابعة لصندوق التنمية التي الثقافية, مركز الغوري للإبداع والتراث الموسيقي وقد تأسست الفرقة كذلك من خلال رؤية وفلسفة تؤكد أهمية الحفاظ علي هذا التراث المهم وتقديمة بالطريقة والأسلوب القديم. والفرقة تعمل علي إحياء القوالب القديمة مثل فن أداء التواشيح والمقامات النادرة والطوائف التراثية المختلفة لإنشاد بردة البوصيري ونهج البردة برؤية معاصرة واستلهام فنون الخط العربي وتوظيف معمار قبة الغوري وذلك من خلال ورشة عمل تحت عنوان( منشد الغوري) التي تعمل علي اكتشاف الأصوات الشابةالجديدة بالاضافة إلي أعمدة هذا الفن وشيوخه الكبار من أقاليم مصر المختلفة, والسعي والطموح أن تكون هذه الفرقة نواة لمدرسة لتعليم فن أصول الإنشاد القديم, وقد سافرت الفرقة إلي مهرجان سماع مراكش الدولي ولاقت هناك نجاحا كبيرا. وحتي الآن يقوم د. انتصار عبدالفتاح, مؤسس الفرقة ومدير مركز ابداع الغوري, بقيادتها, ويقول ان كلمة سماع هي كلمة صوفية خاصة بالإنشاد الصوفي, والفرقة تحاول إحياء هذا الفن الجميل وهو فن الإنشاد, خاصة الإنشاد الصوفي والإنشاد التراثي القديم. ومن الفرق التي قدمت المديح والإنشاد كذلك فرقة ضي التي تتألف من فنانين كبيرين رغم أنهما من الشباب, هما أحمد الصاوي وأحمد الطويلة. الطويلة هو مطرب من محافظة كفر الشيخ, وهو شقيق الروائي المعروف وحيد الطويلة, جرب كثيرا الغناء علي الطريقة الحديثة لكنه كان دائما وابدا مطربا منشدا بالدرجة الأولي, وقد اشتهر الطويلة طويلا في أجواء المثقفين بأدائه لرائعة عبدالوهاب مضناك جفاه مرقده, حيث كان واحدا من ابدع من أنشدها, وهي التي لفتت انتباه الجميع لموهبته الفذة في الإنشاد. أحمد الصاوي هو ملحن شاب بالكاد تجاوز الثلاثين من عمره, لفت الانتباه إلي موهبته منذ ما يزيد علي عشر سنوات ولم تقتصر موهبته علي التلحين وبفضل فهمه لمفردات الموسيقي المصرية, وموسيقي التصوف كان مؤهلا للتدريس في كبري جامعات سويسرا, رغم عمره الذي لم يكن قد تجاوز الثانية والعشرين. كون أحمد الطويلة وأحمد الصاوي فرقة للإنشاد الديني, وقدما من خلالها أشعار ابن الفارض والحلاج وكبار شعراء الصوفية, ونجحت لياليهما في جذب جمهور كبير من شباب الأغنية العادية إلي سماع لون غنائي مختلف. ورغم تلقي الثنائي أحمد, الطويلة والصاوي لعدة عروض للعمل والحياة خارج مصر في البلاد الأوروبية خاصة سويسرا وإيطاليا إلا أنهما لمسا من خلال تجربتهما أهمية التراث الصوفي, خاصة مصري المذاق, ليس بالنسبة للمصريين وإنما للعالم أجمع, وأن ما نعتبره هنا في مصر من قبيل كلام الإنشاء يعتبره العالم مادة خصبة للحفاظ علي التراث الإنساني وهكذا فضلا البقاء في مصر, والاستمرار في تقديم العروض الصوفية ولو كان هذا من خلال المراكز الثقافية محدودة الانتشار قليلة التمويل.