أستمر في سيري, ساحبا دراجة هندي زرقاء تحطمت والتوت,وعيناي تسكبان مايتذوق لساني ملوحته ولايبصقه, أسير لاأفكر في شئ, إلا أنني قد حققت حلم الطيران ولو للحظة. قبل هذا بسنوات حين كنت في السادسة من عمري, أركبني جدي الحمارة أولا, قبل أن يركب هو لنتجه الي الغيط في موسم جني القطن, لكن بمجرد أن وضع قدمه ليركب, انطلقت الحمارة ليطير جسدي إلي أعلي, وأسقط فوق ذراعي, فوق كوم من الزلط في الناحية الأخري,صارخا باسم جدتي.1 يفاجئني رشوان بأن القصص حرام, فأحدق فيه مذهولا, رشوان الذي غضب حين مازحته أن أقصي أمنياتي أن أشتري جلبابا أبيض قصيرا كالذي يرتديه وقال في صرامة: الموت في سبيل الله أسمي أمانينا يا أخي. كان زلزال1992 هو السبب في انقطاعي فترة عنه, بعد أن قامت المدرسة بتغيير النظام الدراسي, وجعلت فصول المرحلة الإعدادية فترة مسائية, وجعلته مع فصول المرحلة الثانوية في الفترة الصباحية, لكن الأستاذ جاد مدرس العلوم فاجأني برسالة منه تطمئنني علي أحواله حين رددت عليها بأخري وجدته يحدثني في أمور الدين, الرسالة الرابعة رددت عليها بأنني أوافق علي طلبه وأقبل الانضمام إلي الإخوان المسلمين. البداية لم تكن هكذا يا زينب, أنا الولد الصغير الذي يبحث عن أي شيء يخرجه من وحدته, فوجئت في أول يوم لي في المدرسة الجديدة بعد انتقالي من القرية إلي المركز للدراسة في الصف الأول الإعدادي بالذي يعلق في جيبه ميدالية عليها سيفان متعانقان ومصحف, وكلمة وأعدوا كنت أعرف الرمز بسبب انتشاره علي حوائط مسجد القرية, والملصقات التي توزع علينا بعد صلاة الجمعة, أسأله ذاهلا: هو ده مش رمز.. قاطعني: وطي صوتك, وسألني عدة أسئلة, ثم قال: هعرفك علي واحد حيفيدك قوي. يوم الجمعة التالية انتظرني جارنا عبد الجليل علي أول الطريق ليخبرني أن هناك ضيوفا ينتظرونني, كنت عائدا من الحقل أسوق أمامي حمارة البرسيم, ارتدي فانلة مقطوعة عند الكتف وبنطلون جينز مخففا كتب عليه بالانجليزية رامبو, كانت هذه هي زيارته الأولي لي في البيت, عرفني فيها علي عبدالرازق الذي هتف عندما رأي إحدي قصص المغامرين الخمسة بين كتبي: هو انت منهم, يابني دي القصص حرام. كدت أصرخ: يانهار إسود, حرام؟ طبعا, لأن عندنا من القصص التاريخية, وقصص القرآن الكريم والقصص النبوي التي بها مواعظ وحكم ودروس مستفادة, ما يغنينا عن تأليف واختلاق القصص, والضحك علي ذقون الناس, ألا يعد تأليف القصص اختلاقا والاختلاق كذب والكذب حرام؟ أنظر إلي رشوان ذاهلا فأجده يؤمن علي كلامه بأن القصص بدعة, وأن كل بدعه ضلالة, وكل ضلالة في النار. عيناي المتسعتان بالدهشة حاولتا إثناءهما عن الرحيل المبكر بعد صلاة العصر بلا جدوي, وجارنا عبد الجليل الذي هرول بأكواب الليمون إلي باب المسجد ظل يذكرهما بعد ذلك طويلا. رشوان في الصف الثالث الثانوي, يكبرني بست سنوات, حين كنت أسير معه كان يجب علي نساء الشارع أن يتوارين من أمام عيني وعلي سميرة سعيدومحمد منير أن يلملما أمتعتهما ويرحلا من ذاكرتي, أن تنضم كتب بديلة إلي كتبي الدراسية عن عذاب القبر وسكرات الموت ورسائل الإمام الشهيد حسن البنا, وعلامات الساعة الصغري. كان علي الولد المراهق داخلي أن يختبئ خجلا كلما قابلته, أن أبدو صالحا أصلي التهجد كل ليلة, لا اقرأ مجلتي روز اليوسف والموعد, لا أحب جريدتي الدستور والمواجهة, لاأراقب أفخاذ راقصات أوبريتات الأفلام الأبيض والأسود, أن يقتلني الإحساس أنه يزرع في شعري جهاز تنصت, ويرسل من يراقبني, ويعرف كل ذنوبي الصغيرة فألتزم أكثر, أن أحفظ الله غايتنا, والرسول إمامنا والقرآن دستورنا, والجهاد سبيلنا, والموت في سبيل الله أسمي أمانينا. مش كفاية إنك تحفظ, لازم تفهم, وتؤمن. يقولها رشوان بتؤدة ويقين يرجني من الداخل, أتخلي عن وجهي, أرتدي وجها آخر, أحاول جاهدا أن أظهر في جبهتي علامة الصلاة بالإكثار من السجود وحك الجبهة بالأرض, ألا أخطئ حتي لا أفقد الصديق الذي انتشلني من الوحدة التي أكلت روحي. كان رشوان هو صاحب فكرة أن نصدر مجلة تعبر عن أفكارنا, أسميناها النذير, وكتبناها بخط اليد, صورناها, ووزعناها في المدرسة علي الأصدقاء الذين نتوسم فيهم خيرا, حذرني من أن تسقط في يد أحد الوكلاء أو المدرسين لأنهم شغالين في أمن الدولة, كان الوحيد الذي يضع اسمه علي المجلة هو عبد الرازق, عبد الرازق الذي صرخ في وجهي ذات يوم: بذمتك صليت الصبح النهاردة؟. حينها تركته وهرولت مبتعدا غاضبا, وربما هربا من الإجابة علي السؤال, بعد يومين سمعت أنه اتاخد. كانت كلمة جديدة في قاموسي, مرعبة وقاسية, لأول مرة أشعر بخطورة ما أنا منهمك فيه, قال لي رشوان يومها: ولا يهمك, كل معركة وليها شهداء, وبعدين أنا حذرتكوا من الوكيل الزفت ده, المجلة إزاي وقعت في إيده. الأستاذ جاد مدرس الانجليزي فاجأني بكتاب صغير اسمه الدعوة الفردية أو كما قال: د.ف الكتاب ده باعته ليك صاحبك. حين قابلته عرفت أن الكتاب يعلمنا كيف نستقطب الآخرين إلي صفوف الجماعة في سبع خطوات, وضحك وهو يضيف: لكن أنا عملته معاك في أربع خطوات بس, عشان كنت عضوا جاهزا. فشلت في ضم أي صديق لصفوف الجماعة, مما جعله يطلب مني رسائله التي أرسلها لي حتي يقوم بحرقها, وكتاب ففروا إلي الله ومجلات الاعتصام واللواء الإسلامي والدعوة القديمة التي أعارها لي, ويصرخ في وجهي: مش عارف تجيب أخ واحد, أنت مش نافع في أي حاجة. كانت المرة الأولي التي أراه فيها غاضبا ويداه ترتعشان في عنف, نفس الارتعاشة التي كان يرتعشها ونحن في صلاة التهجد في مسجد الحق وهو يدعو: يامن ذل كل شيء لعزته, يا من انقاد كل شيء لخشيته, يا من تشققت الجبال من مخافته يامن قامت السماوات والأرض بأمره, سبحانك لا اله إلا أنت. لم تكن قدماي تحتملان الوقوف كثيرا, فكنت أجلس أثناء الصلاة, وأجلس معه كثيرا فلا يستطيع إقناعي بكراهية عبد الناصر ولا أستطيع إقناعه بكراهية السادات, يقول لي: أنا حاسس أنك بتنفلت من بين صوابعي, إنت الوحيد اللي مش قادر أتحكم فيه, الوحيد اللي بيناقشني لكنه لم يعرف أنني كنت محتارا بين سماحته, وعنف عبد الرازق, بين رشوان الذي أحب إنقاذه لي, وجماعته التي أحببتها لأجله. الأستاذ جاد استدعاني ذات يوم وقال لي: صاحبك أتقبض عليه. أهرول معه إلي مقر أمن الدولة في طما لأري عربة السجن تتأهب للانطلاق,وجهه يبص علي من نافذة العربة المسورة..عيناه تضيئان, ويرفع إصبعي يده اليمني بعلامة النصر. 2 ترك رشوان فراغا كبيرا في حياتي, كان يملأه بحكاياته, كتبه, ندواته, بطولات فرسان قصصه التاريخيين, صوته الذي يتهدج وهو ينشد بصوت منغم جميل مع عبد الرازق في زاوية المدرسة, وأنا أنصت إليهما محاولا تقليدهما مؤامرة تدور علي الشباب, ليعرض عن معانقة الحراب, مؤامرة تدور بكل بيت, لتجعله ركاما من تراب,وجهه الذي يضئ عندما يحكي عن حسن البنا الذي كان في مثل عمري تقريبا عندما رأي تمثالا عاريا فوق مركب علي ضفاف النيل في المحمودية فاتخذ موقفا إيجابيا وقرر أن يغير المجتمع من حوله. يحفظ نص الحكاية, يرددها علي مسامعي كل مرة دون تقديم كلمة أونسيان حرف وبخاصة أن هذا الشاطئ تتردد عليه السيدات والفتيات يستقين منه الماء, فذهب إلي صاحب المركب ونصحه بإنزال هذا التمثال, فلم يستمع لنصيحته, فذهب الإمام الشهيد فورا إلي ضابط النقطة, وذكر له مارأي, فقام الرجل علي الفور, وهدد صاحب المركب, وأمره بإنزال التمثال, حالا, ولم يكتف الضابط بذلك, بل ذهب في صباح اليوم التالي إلي المدرسة, وأخبر الناظر في إعجاب وسرور, فسر الناظر وأذاع الخبر علي التلاميذ في طابور الصباح, بتساؤله الذي لاأجيب عليه في كل مرة, فقط أطرق إلي الأرض تقدر تبقي زيه؟ كل هذا انتهي تضحي كل الأشياء بلا جدوي: الناس والأصحاب والشوارع, والمدرسة,والأغاني والكتب, كل شئ يا زينب, البكاء هو الحل الوحيد: أن نغلق علي أنفسنا أبوابنا ونبكي. أبكي كثيرا هذه الأيام, العمر تسرب مني بين البكاء وحلم الطيران الذي لايتحقق, لا أعرف كيف ولماذا تنتابني حالات البكاء التي بدأت بعد وفاة أمي وأصبحت تصيبني بشكل دوري كأنها مرض مزمن,يضيق العالم حولي, تنطفئ الحياة, يرتعش جسدي, البكاء المكتوم يهزني وينهمر من عيني, تعودت علي هذه الحالة, صارت مع مرور الوقت مهربا, حين تضغط الحياة علي, أهرب للبكاء المكتوم الذي يخرج من مسام جسدي, أصبحت طقسا أحضره للخروج من كآبتي, لأصبح طليقا متآلفا مع من حولي. المرة الأولي التي حدث فيها هذا كنت في الصف الثالث الإعدادي, ضاقت الحياة علي لأسباب لم أعد أذكرها, فقط أذكر أنها كانت المرة الأولي التي أجهز فيها طقس البكاء حتي أخرج من حالة طالت أكثر مما يجب,أغلقت جميع منافذ الحجرة, أطفأت النور, اخترت ركنا قصيا في الحجرة, دفنت وجهي بين ركبتي وبكيت, انفجرت في بكاء هستيري, أختي جاءت مهرولة علي صوت النهنهة, حاولت أن تعرف سبب بكائي لكنها لم تعرف, أنا أيضا لم أكن اعرف ما هذا الذي يضغط علي روحي بقوة حتي يقفز من جوانبها البكاء معربدا في جسدي. أبي قال إنني ملبوس ويجب أن أذهب للشيخ اشرف, وأنا أخاف من المشايخ يا زينب, أخاف من ضربهم لإخراج العفاريت من جسدي, حين التف الجميع حول شعرت إنني في مشهد هزلي, في مشهد النهاية من أحد أفلام حسن الإمام الأبيض والأسود. طوال الوقت يداهمني هذا الشعور: أنني في كابوس سأستيقظ منه مهما طال, تمثيلية أقوم فيها بدور لا أحفظه جيدا, كل من حولي يحفظ دوره جيدا, أنا فقط الذي أرغب في الخروج علي النص, يجب أن أبكي جيدا, حتي تحضر أختي لتربت علي كتفي, أكف عن تناول الطعام حتي يدرك من حولي غرابة طبائعي, فيقومون بدورهم في التمثيلية ويسألونني ماذا بك؟, كل له دور يعرف متي يتقدم ليطرح سؤاله, متي يقف ليقول الإجابة قبل أن يدير ظهره وينصرف وهو ينصت لصوت تصفيق الجمهور علي براعته في أداء الدور, لم أعد أحب دوري, أشعر أنه ممل ومكرر,هل لهذا يشعرون بالغضب مني لأني لا ألتزم بالنص بماهو مقرر علي قوله وفعله, هل لهذا أهرب من مكان إلي آخر, بحثا عن نص جديد, الجميع يحفظون نصوصا ويسمعونها, يؤدونها أمامي وهم يلعبون حواجبهم ويخرجون ألسنتهم ليغيظوني, كأنهم يقولون لي: أنظر كيف نحفظ أدوارنا جيدا أيها الفاشل, أنظر كم نحن ناجحون في التمثيلية. أشعر أنني مثل أحمد فكرة مجنون القرية الذي لايعرف أحد حكايته, نضحك عليه أو نمصمص شفاهنا شفقة ونحن نراقبه يقفز الي أعلي وهو يسير في الشارع, وهو جالس بجوار المقابر, أسفل أعمدة الإضاءة, أسفل سور المدرسة, يقفز واقفا علي قدميه وهو يصيح فكرة ثم ينفجر في البكاء, لم يعرف أحد أبدا ماهي الفكرة التي تواتيه فينفجر في هذا البكاء الوحشي, ما الذي يخبئه خلف الهمهمات التي يقولها ردا علي أي سؤال يطرح عليه, لماذا يطير عاليا وهو يصيح فكرة يضحك هشام حين أحكي له: أنا حاسس إنك هتبقي زيه. اقود الدراجة متجها الي المدرسة, شاردا علي طريق السيارات السريعة, ترتطم الدراجة بسيارة تمر مسرعة, يطير جسدي لأعلي, أعبر فوق وجه السيارة, أسقط الناحية الأخري, في المكان الذي سقطت فيه أمي من قبل يازينب. كان جسدي رائعا وهو يطير, وهو معلق في الهواء بلا حدود ولاشيء يلمسه, أقوم من علي الأرض, قائدة السيارة غطت وجهها بكلتا كفيها وهي ترتجف,أشد الدراجة من تحت السيارة, أجرها ولا أنظر خلفي إلي الناس الذين تجمعوا, ولا إلي الرجل الذي يسحب جملا يهدر ويصرخ في: ماتحاسب يابني. صرخة جدتي التي وصلتني من الناحية الأخري صارخة باسمي لم أعرها اهتماما ولم أرد عليها, الصرخة التي حملت اللوعة كلها: ياضناااي.. أستمر في سيري, ساحبا دراجة هندي زرقاء تحطمت والتوت,وعيناي تسكبان مايتذوق لساني ملوحته ولايبصقه, أسير لاأفكر في شئ, إلا أنني قد حققت حلم الطيران ولو للحظة. قبل هذا بسنوات, حين كنت في السادسة من عمري, أركبني جدي الحمارة أولا, قبل أن يركب هو لنتجه الي الغيط في موسم جني القطن, لكن بمجرد أن وضع قدمه ليركب, انطلقت الحمارة ليطير جسدي إلي أعلي, وأسقط فوق ذراعي, فوق كوم من الزلط في الناحية الأخري,صارخا باسم جدتي. كان ذلك بعد وفاة أمي بشهور, وكنت أتمني لو استمر هذا الطيران عدم الاتزان العمر كله, كانت هذه هي بداية حلم الطيران الذي لم ينته, أتذكر هذا الآن,لم أكن أعرف لماذا لم يواصل جسدي طيرانه فيختفي في الفضاء, لماذا لم يواصل يومها تحليقه حتي يصافح النجوم والملائكة والأرواح الشاردة؟ جدي هرول حافيا بجسدي الي سيارة توقفت في قرية مجاورة عند رجل أعد بمجرد أن تحسس ذراعي المتجلط طبقا من البيض المخفوق وضعه فوق يدي وربط خشبتين صغيرتين بطول ذراعي لم تفعلا شيئا اصطحبني أبي إلي امرأة ترتدي السواد, أمرت بقالبي طوب كبيرين أحمرين وضعتهما في النار, تركتهما منذ الضحي إلي العصر حتي احمرا, أصبحا جمرتين, قطعتين من الجحيم, أمرت بإحضارهما, وضعتهما في ماجور, جاءت ببطانية كبيرة غطت جسدي وذراعي التي تتمدد فوق الجمرتين,أبي يمسك بي بقوة من الخلف مثبتا جسدي في الأرض, وهي تضع قدمها في بطني وتشد ذراعي في عنف فوق الجمرتين, ذراعي التي لانت من الحرارة من البخار الذي حولها إلي ماء يسقط فوق القالبين الملتهبين فيحدث صوتا مريعا لانت في يدها في سهولة, فشكلتها في يسر,يدي لم تجبر تماما, وموضع قدمها في بطني أذكره إلي الآن, ومعدتي لم تكف عن الشكوي منذ ذلك اليوم. يتكور جسدي وأرتعش, أضحي لقمة ملقاة تحت الحائط ترتعش بين فكي قطعة جائعة, يهزني البكاء, يعلو صوتي بالنحيب حين يعجز جوفي عن تحمله,يخرج من جسدي مهرولا, من تحت البطانية الملفوفة حولي ككفن, تضمني جدتي في حنان وتبكي, تقف زوجة أبي ناظرة ولاتتكلم, تعد أختي ليمونا لا أشربه, يقول أبي في تصميم هذه المرة: الواد ملبوس, ولازم يروح للشيخ أشرف.