1 عزيزي جونيور.. تحياتي.. مساء نفس اليوم, انتبهت من نومي علي صوت طرقات بعيدة وتهيأت للنزول عن الكنبة كي أفتح الباب, إلا أنها لم تكن كنبتي ولا كانت طرقات خالتك أم عبدالله هي التي سمعتها علي الباب. بل كان فراشا غريبا وحجرة غريبة وتوفيق نائم علي حافة فراش آخر وهو يضع ساقا علي ساق كعادته, ووراءه دولاب بمرآة بيضاوية, تذكرت فورا أننا بالفندق الصغير بعدما جئنا اليوم إلي المحلة الكبري لتنفيذ الجزاء الذي وقع علي, وأن توفيق سيعود غدا ويتركني وحدي, وانقبض صدري وتمنيت لو أن ذلك كان حلما, وأن بوسعي العودة معه إلي البيت. 2 عندما فتحت الباب وجدته واقفا أمامي يبتسم لي بوجه أسمر وعينين كبيرتين.. وقال في خجل: الحمدلله علي السلامة ياعبدالله.. أنا سليمان. تراجعت قليلا: أهلا وسهلا.. اتفضل. هز رأسه مرحبا بتوفيق الذي اعتدل, وظل واقفا من دون أن تتلاشي ابتسامته, وقال إنه قادم لكي يأخذنا إلي المقهي.. كل الزملاء ينتظروننا هناك. كان شعره ناعما وطويلا علي أذنيه ويرتدي فانلة خفيفة من الصوف الرمادي لها ياقة وفتحة قصيرة بأزرار مغلقة, ولم يلبث أن ضغط جرسا علي جوار مفتاح النور, وعندما صعد رزق أسرع يفتح له الباب وطلب منه أن يأتي بمقعد آخر, وعاد من عند الباب وهو يقول: أي حاجة تحتاجها اطلبها.. الناس هنا بتحبك وتسمع كلامك. وأنا استغربت من هذا الكلام ولاحظت أنه يحمل حقيبة من الجلد البني في حجم كتاب كبير ومعلقة بحزام له رقعة عريضة علي كتفه.. وقال إنه سينتظرنا أمام الباب حتي نرتدي ثيابنا.. طلبنا منه ألا يغادر.. وبدلنا ثيابنا أمامه وهو يجلس علي حافة الفراش مطرقا إلي الأرض. 3 عندما عدنا آخر الليل من المقهي كنت عرفت شيئا عن المكتب وزملاء العمل.. لقد التقوا بنا وهم يرتدون الجلابيب, وكان عبدالغفار الذي قال عنه توفيق إن: صاحبك عبدالغفار بتاع السجاير اللف ده راجل مسخرة.. قد خلع البدلة والطربوش وارتدي جلبابا له فتحة مدورة ويضع علبة الدخان اللف داخل جيب الصديري القطني اللامع بأزراره الصدفية المتقاربة. كان هناك واحد آخر من الإسكندرية اسمه فتوح الحاجة, وآخر من مكان لم أنتبه إليه, وزميلان من أهالي المدينة يعملان موزعين داخلها وواحد يدعي صبحي.. كما علمت أن المدير يدعي فؤاد سركيس ويسكن فوق المكتب, وإن سليمان الذي أخذنا من الفندق يهوي كتابة الشعر وجاء من القاهرة قبل عام أو أكثر. كنت سأعمل طوافا يطوف علي مجموعة من القري راكبا دراجة, بينما كان هو الطواف الآخر الذي يمر علي مجموعة أخري من القري راكبا حمارا.. وعندما سأله توفيق: لماذا لا يركب دراجة مثل عبدالله, قال إن الطرق بين القري في الخط الذي يعمل عليه لا ينفع لها إلا الحمار بسبب المدقات الضيقة.. كانوا تحدثوا عن كتابته للشعر وهم يتبادلون الابتسام من وراء ظهره, بينما هو يجلس مطرقا. وعلق أحدهم قائلا: لا تنس أنه يسلي نفسه بإلقاء الشعر علي الحمار طول السكة, وأن هذه ميزة لن يجدها في أحدي البهائم التي تعمل معه في المكتب.. وضحكنا جميعا بينما ظل هو ينظر إلي قدميه بوجهه المبتسم. بعد ذلك قمنا وأخبروني أنني سوف أستأجر الدراجة بجنيه ونصف في الشهر, بينما المصلحة ستدفع لي ثلاثة جنيهات, نفس الأمر يطبق مع الحمار, وأنه يتناول معظم أكله من الغيطان التي مر عليها. 4 لما وصلنا عند العجلاتي القريب من الكنيسة, رحب بنا وجلس بعضنا ووقف الباقي أمام الدكان الذي علقت علي جدرانه الداخلية وعلي جانبي واجهته مجموعة من الدراجات.. كانت وصلته أخبار الطواف الجديد وكان يعدها الآن ويضبط أسلاكها وهي مقلوبة تحت الرصيف. وبعدما ضغط المزيتة الصغيرة الحمراء علي الجنزير, أمسك البدال ولفه عدة مرات ورأيت عجلات الدراجة المقلوبة وهي تدور أمامي في الهواء, ثم إنه استوقفها بكف يده وأنا سمعت احتكاك الكاوتش بهذه الكف حتي توقفت تماما, ثم مال قبض عليها وقلبها أمامه واستقرت علي العجلتين, حينئذ أمسك بها من منتصف المقود واستدار إلي باسما, وقال: عجلتك؟! وللكلام بقية..