«الأزهر»: الاتجاه الحداثي يعمل على إلغاء قدسية النص وتفكيك مكونات الهوية    مركز جامعة القناة لخدمات ذوي الهمم يعقد ورشة عمل لأولياء الأمور استعدادا للامتحانات    مفتي الجمهورية يتوجه إلى البرتغال للمشاركة بمنتدى «كايسيد» للحوار العالمي    مطالب بتوسيع دائرة التغطية، اجتماعات برلمانية لقياس الأثر التشريعي لقانون التأمين الصحي    سها جندي: عازمون على توفير كافة سبل الدعم للمواطن البسيط    «دكان الفرحة».. صندوق تحيا مصر يصل إلى الطلاب الأولى بالرعاية في جامعة جنوب الوادي    الحكومة: بدء التشغيل التجريبى بالركاب غدا لمحطات الخط الثالث لمترو الأنفاق    اليوم.. قطع مياه الشرب عن 3 مناطق في الإسكندرية    رسالة مصر.. التوقيت والدلالة.. وماذا سيفعل العرب؟!    فلسطين: التصعيد الإسرائيلى فى رفح خطأ كبير والإدارة الأمريكية تتحمل المسؤولية    مصر تعزى أفغانستان فى ضحايا الفيضان المُدمر    عاجل.. 55 ألف مشجع في مباراة الأهلي والترجي التونسي بإياب نهائي إفريقيا    تنس الطاولة، محمد البيلي يحجز مقعده في نهائي كأس أفريقيا    بعد إعلان رحيله.. ماذا قدّم فاران بقميص مانشستر يونايتد؟    انطلاق امتحانات الشهادتين الابتدائية والإعدادية الأزهرية في الإسكندرية غدًا    "لآخر دقة"، وائل كفوري يطرح أحدث كليباته على يوتيوب (فيديو)    وزيرة الثقافة توجه بفتح المتاحف التابعة للوزارة مجانًا للجمهور احتفاءً باليوم العالمي للمتاحف    تضامن الفيوم: 66 ألف مريض عيون استفادوا من القوافل الطبية    صحة النواب توافق على دعم إضافى 50 مليون جنيه لمستشفيات الصحة النفسية    4 نصائح ذهبية لتعزيز الكوليسترول الجيد- فوائده مذهلة    الهجمات الإسرائيلية على غزة: أحمد أبوالغيط يعبر عن استنكار جامعة الدول العربية    داعية إسلامي: يوضح ما يجب على الحاج فعله فور حصوله على التأشيرة    قرار حاسم من «التعليم» ضد 5 طلاب بعد تسريبهم الامتحان على «السوشيال ميديا»    ضبط متهم بإدارة كيان تعليمي وهمي في الإسكندرية    قائمة الأهلي في نهائي أفريقيا أمام الترجي.. كولر يستبعد 13 لاعبًا    توقعات إيجابية للاقتصاد المصري من المؤسسات الدولية لعام 2024/ 2025.. إنفوجراف    أبو الغيط: العدوان على غزة وصمة عار على جبين العالم بأسره    كوريا الجنوبية تعزز جاهزية الجيش للرد على جميع التهديدات    درجة الحرارة الآن.. الأرصاد تكشف حالة الطقس اليوم الثلاثاء 14-5-2024 (تفاصيل)    خلال 24 ساعة.. ضبط 14028 مخالفة مرورية متنوعة على الطرق والمحاور    ضبط المتهمين بترويج العقاقير المخدرة عبر «الفيس بوك»    البنتاجون يرفض التعليق على القصف الأوكراني لمدينة بيلجورود الروسية    محافظ كفر الشيخ: اعتماد المخططات الاستراتيجية ل 23 قرية مستحدثة    مجلس الدولة: على الدولة توفير الرعاية للأمومة والطفولة والمرأة المعيلة    السيد عبد الباري: من يحج لأجل الوجاهة الاجتماعية نيته فاسدة.. فيديو    رئيس جامعة بنها يترأس لجنة اختيار عميد كلية الهندسة    نموذج RIBASIM لإدارة المياه.. سويلم: خطوة مهمة لتطوير منظومة توزيع المياه -تفاصيل    "مقصود والزمالك كان مشارك".. ميدو يوجه تحية للخطيب بعد تحركه لحماية الأهلي    طريقة عمل وافل الشيكولاتة، لذيذة وسهلة التحضير    5 أبراج تتميز بالجمال والجاذبية.. هل برجك من بينها؟    طرح فيلم «بنقدر ظروفك» في دور العرض 22 مايو    القومي لحقوق الإنسان: ضرورة تكافؤ الفرص بين الأشخاص ذوي الإعاقة وغيرهم    رئيس جامعة بنها يترأس لجنة اختيار عميد كلية الهندسة    يوسف زيدان يهدد: سأنسحب من عضوية "تكوين" حال مناظرة إسلام بحيري ل عبد الله رشدي    السجن المشدد من عام إلى 5 سنوات ل4 متهمين بالسرقة وحيازة مخدرات بالمنيا    صوامع وشون القليوبية تستقبل 75100 طن قمح    جيسوس يحسم مستقبله مع الهلال السعودي    رياضة دمياط تعلن مسابقة للأفلام القصيرة عن أحد المشروعات القومية.. تفاصيل    تعرف على إرشادات الاستخدام الآمن ل «بخاخ الربو»    المندوه يتحدث عن التحكيم قبل نهائي الكونفدرالية أمام نهضة بركان    استراتيجيات الإجابة الصحيحة على أسئلة الاختيار من متعدد لطلاب الثانوية العامة في العام 2024    الحكومة التايلندية توافق على زيادة الحد الأدنى الأجور إلى 400 باهت يوميا    ما مواقيت الحج الزمانية؟.. «البحوث الإسلامية» يوضح    ما حكم عدم الوفاء بالنذر؟.. دار الإفتاء تجيب    لطفي لبيب: عادل إمام لن يتكرر مرة أخرى    طارق الشناوي: بكاء شيرين في حفل الكويت أقل خروج عن النص فعلته    سلوى محمد علي تكشف نتائج تقديمها شخصية الخالة خيرية ب«عالم سمسم»    ميدو: هذا الشخص يستطيع حل أزمة الشحات والشيبي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كائنات الحزن الليلية
نشر في صباح الخير يوم 26 - 01 - 2010


المخبر
لا يعرف يحيى على وجه اليقين، إن كان قد سقط فى بحيرة النوم من شدة التعب.. أم طفا على حافة البحيرة ما بين الصحو والإغماء؟يرى الأشياء كأنها لوحة أغرقتها المياه، فتداخلت الألوان والملامح.. هل كانت تلك البنت التى تقف على حافة الإطار مرتعشة، هى البنت سهير.. أم تلك البنت التى ما زال يحتفظ بصورتها من الجريدة دون أن يعرف السبب؟! شيئاً فشيئاً.. تكسرت الملامح المشوشة وانفرطت كسرب من الفراشات الملونة، وبدت الأصوات البعيدة التى تحبو من وراء الباب الخشبى، ثم تستلقى بجواره، وسعال حاد ثم ضحكة شبقية مخنوقة، وفرملة سيارة مسرعة فى طريق الحرية، تبدو وكأنها اصطدمت برأسه، فتح عينيه فتحركت صور كثيرة سريعة فوق حائط الذاكرة الليلية المجهدة، سمع صوت أحد الأبواب وهو يفتح ويغلق، ورأى مدام عديلة قادمة من الطرقة نصف المظلمة، ترتدى قميص نوم قصيراً، يكشف عن ساقيها المكتنزتين، وقد تهدل شعرها المصبوغ بالحناء على كتفيها، دفعت الباب الخشبى فظل يتأرجح ويئن بصوت رتيب، لم تنتبه لوجوده، دخلت الغرفة وأغلقت الباب بهدوء، أشعل سيجارة، وبدأ يدخنها وهو مستلقٍ على الكنبة الناعمة، ويراقب الضوء الذى يتسلل كالعرسة من بين شيش النافذة، لاحت منه التفاتة ناحية باب الشقة، خيل إليه أن شخصاً يتحرك خلف الشراعة الزجاجية السميكة، نهض واقفاً واقترب من الباب بحذر، وقد توقع أن ينخلع فجأة، ويقتحم المخبرون الصالة المليئة بزجاجات البيرة الفارغة، كعادتهم دائماً فى ساعات الصباح الأولى، لكن الصمت المتوتر، كان يقعى على درجات السلم، ككلب ينتظر لحظة المداهمة، ود لو فتح كل الأبواب المغلقة على اللهاث والأجساد المتلاصقة، وأن يصرخ فيهم بعزم الروح: يا أولاد الكلب.
فتح الباب، وتعمد أن يغلقه خلفه بعنف، ثم هبط درجات السلم بسرعة، عندما عبر الباب الحديدى الكبير الصدئ، رأى المخبر واقفاً أمام العمارة المقابلة، وقد رفع ياقة البالطو الصوفى، حتى غطت نصف وجهه، وكان ينفخ فى يديه بين الحين والآخر، انتبه لخروج يحيى، نظر إليه بغل شديد كأنه سبب وقوفه فى تلك الساعة، دون مكان يحتمى به من البرد، أو كأنه يريد أن يحمله وحده عذابه الذى لا ينتهى، وغلبه الذى يحمله فوق ظهره كالقتب، كاد يحيى أن يبتسم ثم خاف من تلك النظرات التى تقتحمه، وتبحث عن مجرد سبب للانتقام منه، آه لو عرف ذلك المخبر ما الذى يحدث فى تلك الشقة؟! لمات من الغيظ والقهر، وربما صعد درجات السلم بحثاً عن الدفء البشرى، والجسد الذى يفرغ فيه حقده على الدنيا كلها، آه لو يعرف كيف يناضلون بين أفخاذ النسوة حتى الصباح، ثم يهدهم التعب، ويتعالى لهاثهم وشخيرهم، وينتفض الجسد الأنثوى، ثم يستكين تماماً وتنفتح المسام لتستقبل أول ضوء يتسرسب عبر النوافذ؟ نظر إلى تلك النوافذ المغلقة، عبر الشارع بسرعة، منطلقاً إلى محطة الترام، وقد أقسم ألا يعود إلى تلك الشقة مرة أخرى.
حسن الرشيدى
لم يستطع أن يستوعب تلك الصدمة، التى طوحت به من تلك المدينة الفاجرة التى كشفت صدرها للبحر، وردته طفلاً يحبو بين حقول الفول، فى تلك المدينة التى ترتدى الملاية اللف السوداء ما تزال.. التى تخفى نصف وجهها.
لم يستطع أن يفك طلاسم ذلك النضال الليلى، الملىء بالفحيح والصرخات المكتومة، التى أفقدته فى لحظة متناهية فى الصغر، بكارته الثورية الريفية، ودفعته إلى منطقة المنتصف، ما بين النضال النهارى الذى يدفع إلى عربات الأمن المركزى، والنضال الليلى، الذى يدفع إلى تفاصيل الجسد العارى، تساءل بينه وبين نفسه.. هل ما حدث خلف الأبواب المغلقة، ضمن طقوس المدينة العارية الرأس، لم تستطع تركيبته الريفية أن تتهجى أبجديتها؟! أم ضمن طقوس اليسار، حيث لا وجود للملكية الخاصة، وكل شىء مباح؟! ولماذا كانت تنظر إليه البنت فريدة، تلك النظرة الغريبة قبل أن تختفى مع أمها؟! هل كانت دعوة أم استفهاما أم دهشة-! هو الآن عاجز تماماً عن فهم ما حدث، عاجز عن العثور عن تلك الشعرة الرفيعة، ما بين الخطأ والصواب، وضع عبدالله فنجان القهوة أمامه.. أشاح بوجهه بعيداً، وراح يراقب البنات التى تتهادى عبر زجاج الكافيتريا، لأنه لم يكن فى مزاج يسمح له بسماع حكايات عبدالله السمجة، نظر إليه بدهشة، ثم انصرف إلى آخر الكافيتريا، وجلس يراقبه هو بالذات.
لا يعرف كم مر عليه وهو جالس فى الكافيتريا، حتى الولد على البحر لم يأت كعادته كل صباح، ولم تظهر البنت التى كانت تدخن كثيراً، وتختفى القلادة الذهبية فى انفراجة النهدين، وأدرك ساعتها أن عينيها البنيتين الواسعتين كفنجان قهوة الصباح، سوف تحطان فوق نافذته المطلة على الخلاء، كعصفورتين صغيرتين، وتبنيان عشهما فوق صوته المجروح، فهل كان إحساساً كاذبا، مثل كل المشاعر التى راوغته فى تلك المدينة، منذ أن فقد نبوءة جده القديمة-! فوجئ بحسن الرشيدى يدخل الكافيتريا وحده، وهو يتمايل فيبدو بطوله الفارع كنخلة تهتز تحت وطأة الريح، جلس أمامه وطلب شاياً، بدأ يضغط على جانب أنفه بأصبعه، ويتنفس من فتحة واحدة، فيصدر صوتاً أشبه ببدايات الشخير.
- إنت إيه اللى مشاك فجأة؟!
- ما اعرفتش اعمل إيه.. فمشيت. - المفروض ما كنتش أقولك الكلام ده، بس لازم تعرف.. مدام عديلة قالت عليك مباحث، وحذرتنا منك، لكن أنا دافعت عنك. - رد بسخرية وغيظ: تقصد مباحث الآداب طبعاً. - عيب يا يحيى.. إنت كده بتغلط فينا كلنا.
انتفضت عروقه كلها، وارتفع صوته لدرجة أن عبدالله توقف فى منتصف الكافيتريا، وهو يحمل طلبات الزبائن، وبدأ يبربش بعينيه.
- كلكم ولاد كلب أوساخ. متشكر يا عم يحيى، عموماً أنا مش ها أتناقش معاك دلوقت، بعدين نتفاهم عشان الاعتصام.. ده إذا حبيت تبقى معانا-!
ضغط بإصبعه على جانب أنفه الأيسر، وأخذ نفساً عميقاً، بدا وكأنه يخرج ما فى حلقه، شعر يحيى بالقرف الشديد، فأشاح بوجهه بعيداً، نهض حسن الرشيدى وانصرف دون أن يشرب الشاى، قال يحيى بصوت هامس!
فى ستين داهية
لقد أدرك الآن.. لماذا كانت تلك المرأة تراقبه طوال الجلسة، وعندما يضبطها متلبسة لا تشيح بوجهها بعيداً، ولا تخفض عينيها التى تندب فيها رصاصة، بل تظل تنظر فى عينيه بشكل جرىء لا يليق بامرأة فى مثل سنها، أدرك أيضاً لماذا كانت تنظر إليه البنت فريدة التى نسيها خراط البنات، فصارت نصف أنثى.. ونصف رجل، ومن أعطى تلك المرأة الحق فى أن تنصب نفسها ماوتسى تونج الثورة المصرية، ملعون أبو مدام عديلة وفكرية وفريدة وحسن الرشيدى، وملعون أبو نضال العوالم فى الأسرة المتأرجحة ما بين الشهوة والاحتيال، ما بين الأجساد المفتوحة على الجهات الأربعة، وبين الأجساد المنغلقة حتى لحظة الموت الفجائى. شعر برغبة عارمة أن يرى على البحر، ذهب إلى قصر الثقافة، كان الولد بدر واقفاً على الباب كجمل على وشك أن يبرك، يتأرجح إلى الأمام والخلف فى إيقاع رتيب، عندما رآه.. حاول أن يعتدل فى وقفته، فكاد يسقط على الأرض.. ضحك ببلاهة، ومد يده الضخمة ليسلم عليه، سأله عن على، فقال إنه تزوج بنت عم عرفة الفراش، ولم يعد يأتى إلى القصر، إلا ليلاً.. يجلس ساعة أو ساعتين على الأكثر، وتظل عيناه مشدودتين إلى سقف الغرفة التى تمتلئ بالعرائس، وإذا تحدث معه أحد، لا ينظر إليه، ولا يرد عليه، كأنه قد مات فوق ذلك المقعد الخشبى، أو كأن روحه معلقة ما بين السماء والأرض، ثم ينهض بهدوء.. يعبر الممر الطويل المخصص كقاعة للفنون التشكيلية، ثم يهبط الدرجات الرخامية وهو يكاد ينكفئ على وجهه، لا يلتفت وراءه.. ولا يضحك تلك الضحكة التى تشبه النهنهة، ولا يلقى عليهم تحية المساء.. فقط.. يمضى وقد مال جسده إلى الأمام، كأن شيئا ما يشده إلى الأرض، ثم يختفى فى شارع بور سعيد، فى أحد الأيام.. دخل عليه الولد بدر، فوجده جالساً فوق المقعد وقد أسند رأسه إلى الحائط، وراح يبكى بمرارة غريبة، هو الذى لم يكن يبكى أبدا، اقترب منه وربت على كتفه .
مالك يا أستاذ على ؟
لم يرد عليه.. نهض واقفا، ومضى بطيئاً متعباً متعثراً فى السجادة الكبيرة، التى ضاعت ألوانها، واختفى أسبوعا كاملا، ثم عاد أكثر صمتاً وأكثر حزناً. ويده لا تتوقف عن الارتعاش . الحزن
حط الحزن على صدره وسرق روحه، رفرف بجناحيه أمام وجهه، فصارت الصور تتحرك بسرعة، كشريط سينمائى فر من آلة العرض، حاول أن يهشه بعيداً، فنشب مخالبه فى اللحم، وانبثق الدم ساخناً لزجاً، شعر بألم حاد فى صدره، حاول أن يصرخ بعزم الروح، لكن الصرخة انكسرت على حافة الحلق، وتحولت إلى شهقة خافتة مكتومة، وتكوم الجسد بجوار المائدة الحديدية الباردة، غطوه بورق الجرائد، ثم ركبوا ترام آخر الليل، واختفوا فى المدى، دون أن يقرأوا عليه الفاتحة، طوحت الريح الشتوية الباردة بالجريدة، فصار الجسد عارياً، يرتعش كفراشة زرقاء تحاول الطيران، فتردها الريح إلى بحيرة الماء، عندما حرك الجرسون المائدة الحديدية،، ليغلق المقهى.. طار الجسد بعيداً وحط على حافة البحر.
- الحساب ياأستاذ هانشطب
فتح عينيه ببطء.. كان المقهى خالياً تماماً من الزبائن، وقد أنزل الجرسون الباب الصاج إلى المنتصف، نظر فى ساعته، كانت قد تجاوزت الواحدة، لابد أن تاج عاد من الترسانة البحرية، ودفع الحساب ونهض واقفاً، أنحنى قليلاً حتى لا يرتطم رأسه بالباب وخرج، أخذ نفساً عميقاً، وراقب البخار وهو يخرج من فمه، ويبدو تحت ضوء عمود النور الوحيد غريباً، سار محتمياً بالأبواب والشرفات الواطئة من المطر الذى بدأ يتساقط، كأنه كان ينتظر أن ينصرف من المقهى، حتى يصطاده فى العراء، ويطارده فى تلك الشوارع الترابية الضيقة، أسرع الخطى وقد وضع يديه فى جيوب البنطلون القطنى الخفيف، وصل إلى بيت تاج.. خيط بيده على النافذة، وانتظر قليلاً.. لم ير ضوء لمبة الجاز وهى تتحرك عبر المدخل، وترسم خيالا يظل يكبر فوق الجدار، بل ظل الضوء الأصفر الشاحب يرتعش فوق جدران الغرفة، وصوت عبدالحليم يتسلل عبر الراديو الترانزستور، وهو يغنى أى دمعة حزن لا.. أعاد الخبط مرة أخرى، وقد ازداد ارتباكه وخوفه، فلا مكان يستطيع أن يذهب إليه فى هذه الساعة، نادى عليه وقد خنقته الدموع:
- افتح ياتاج الدنيا برد نفس الصمت.. ونفس الضوء المرتعش الخائف مثله.. وعبدالحليم مايزال يغنى .. لا عرفنا لحظة ندم.. ولا خوف من الأيام.. صعبت عليه نفسه.. صار وحيداً متعباً وقد تحولت الأمطار إلى سيول، والشوارع الترابية إلى بركة من الوحل.. صرخ بعزم ما فيه:
- كلكم ولاد كلب أوساخ
ثم بكى بمرارة وحرقة، وقد التصقت الملابس على جسده، فبدأ يرتعش بشدة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.