البنت حنان لايعرف على وجه اليقين من الذى اقترح أن يبدأ الاعتصام قبل إجازة نصف السنة بيوم واحد، حتى يستطيعوا احتلال الكلية، ومنع دخول العيال الذين يعملون مع المباحث.. هل كان الولد البدين الذى عرف فيما بعد أن اسمه تيمور.. أم الولد حسنى الذى يظل يعدل من وضع النظارة على وجهه بشكل عصبى، ويصرخ دائماً بصوت رفيع حاد كأنه صفارة كمسارى الترام؟! فقد كانت غرفة تيمور التى لايوجد بها غير حصيرة قديمة، وبعض المسامير يعلق عليها ثيابه، وتحتل الدور الثانى والأخير فى ذلك البيت القديم الذى يقع على أطراف المدينة فى مدخل الإسكندرية مليئة بالوجوه التى تبدو من خلال دخان السجائر حادة الملامح تكاد تتشابك كأنها مساحة من البلاستيك الذى يذوب بطيئاً مكوناً شكلاً هلامياً ضخماً. فتح تيمور النافذة قليلاً فبدا الخلاء الواسع المظلم الذى يرتعش بين الحين والآخر على ضوء عربيات النقل المسرعة فيهتز زجاج الغرفة رغم قطع الكرتون التى وضعها تيمور بين الزجاج وبين الإطار الخشبى الذى صار بلا لون. لايعرف على وجه اليقين من صاحب هذا الاقتراح الذى بدا ساعتها عبقرياً ثم تحول إلى كارثة حيث أصبح الجميع محاصرين فى العراء كأنهم غزالة تفر من الصحراء إلى الصحراء، ومن الموت إلى الموت، ومن الأفخاخ المنصوبة فى الأمام إلى الطلقة التى تجىء من وراء؟! كانوا قد بدأوا يتوافدون منذ الصباح الباكر، ويتجمعون داخل المدرج الكبير فى كلية الهندسة، والذى كان يستخدم كمسرح أيضاً، وبدأوا فى تعليق اللافتات والمجلات التى تهاجم السادات، وتطالبه بالإفراج عن الطلبة فوراً.. كان يحيى قد لاحظ منذ الاجتماع الماضى اختفاء الشاب المتجهم وحسن الرشيدى.. فمال على الولد حسنى وسأله عنهما.. عدل نظارته بشكل عصبى حتى كادت تسقط على الأرض، وقال إن عصام جمع التبرعات وسافر إلى باريس هو والبنت فكرية، وباع القضية، وحسن الرشيدى اختفى فجأة ولا أحد يعرف عنه شيئاً، وإن كان البعض قد أكد أنه سافر إلى قريته فى المنصورة بناء على نصيحة أخيه عضو مجلس الشعب حتى تنتهى تلك الأزمة ولايتم القبض عليه، ويسبب حرجاً سياسياً لأخيه.. ابتسم بسخرية وقبل أن تتحول الابتسامة إلى صرخة مدوية تراجع.. فالموقف لايسمح الآن خاصة وهم على كف عفريت كما قال الولد تيمور. انتهى اليوم الدراسى.. انتشروا داخل المبنى، وأغلقوا البوابة الحديدية الكبيرة، وعلقوا اللافتات على سور الكلية.. جلس يحيى يكتب قائمة بالأطعمة والسجائر والأوراق والأقلام التى يحتاجونها للاعتصام بصفتيه مسئولاً عن لجنة الإعاشة، وذلك تحسباً لحصار قوات الأمن للكلية، وعدم الدخول أو الخروج.. أحس فجأة أن هناك من يراقبه.. ذلك الاحساس الذى يقتحم كيانك كله دون أن تدرى من أين يأتى ربما هى غريزة البقاء أو ذلك الخوف الأزلى منذ المطاردة فى الكهوف المفتوحة على العراء.. رفع رأسه ببطء.. تسمرت عيناه على ذلك الوجه الجميل، والعينين البنيتين اللتين تشبهان فنجان قهوة الصباح مع سيجارة بلومونت.. كانت البنت التى تدخن كثيراً واقفة بجوار تيمور وقد اختفت القلادة التى كانت تختبئ فى انفراجة النهدين، وظهرت مكانها سلسلة ذهبية رفيعة بها قلب صغير كأنه عصفورة بنت عشها على الصدر المرمرى الناصع البياض.. قال الولد تيمور بصوته الأجش: حنان.. زميلتك فى اللجنة. مذهولاً مد يده المرتبكة وسلم عليها أحس بارتعاشة أصابعها التى تركتها ترتاح قليلاً بين يديه ولم تحاول أن تسحبها بسرعة كعادة البنات. اسمك يحيى؟ أيوه ابتسمت ابتسامة ساحرة حطت على روحه المتعبة المنكسرة فأطلقتها من تواريخ الحزن القديمة وطقوس الموت فى العراء ثم حلقت فى ذلك الفضاء الذى يوشك على ارتداء عباءته الليلية كطائر جميل.. يتناثر ريشه الملون فى تلك المساحة المسكونة بالخوف والترقب، فتبدو للحظة كأنها مدينة مسحورة فوق ظهر جنى لايتوقف عن التحليق والغناء. بابا اسمه يحيى.. يعنى المفروض إنى بنتك. سحب يده بسرعة ولايدرى ماذا يفعل أو يقول فى تلك اللحظة الفاصلة.. هل كانت تلك البنت التى جننت العيال فى كافتيريا الآداب تحاول الاقتراب منه هو الوحيد الشارد بتلك الجملة.. أم كانت تصنع مسافة هائلة من سنوات العمر بينهما؟! لقد فرح فى اللحظة التى أطل فيها وجهها أمام عينيه، فلم يعد يرى غير هالة من النور، والآن.. هو معلق بين الدهشة والإحباط، معلق فى خيط رفيع يخاف أن ينقطع فجأة فيسقط فى تلك الهوة السحيقة المرعبة التى يحلم بها دائماً. ممكن نقوم دلوقت عشان نلحق نشترى الحاجات وأوعدك أجيبلك صورة تبحلق فيها زى ما أنت عاوز. شعر بالخجل.. أشاح بوجهه بعيداً.. طوى الورقة بسرعة ووضعها فى جيبه ثم تسللا عبر الباب الحديدى الصغير الذى يؤدى إلى الشارع الضيق خلف مبنى الكلية. أنا لحبيبى ركبا الترام حتى جامع سيدى جابر ثم سارا على مهل حتى طريق يتأكد أنه لايوجد من يراقبهما ثم استقلا تاكسياً قديماً، كان سائقه العجوز لايتوقف عن السعال.. بدأت تغنى بصوت هامس رائق كبدايات الفجر الصيفى أغنية فيروز التى يعشقها.. مرقوا الخياله ع البيت.. تركونى وراحوا.. لاوقفوا ولا ارتاحوا.. معهم حبيبى ماسمعنى.. بعدوا وبعد البيت..انسانى يا ليل.. ثم بدأ صوتها يرتفع قليلاً وهى تردد أغانى فيروز التى كان المثقفون يحبونها، نكاية فى أم كلثوم، التى كانت حفلاتها الشهرية مجرد خدعة حكومية لتغييب الناس، الذين يستعدون لها بالحشيش والأفيون.. أحس بنشوة عارمة لم يعرفها من قبل كأنها تغنى له وحده انفتحت حدود العالم فجأة.. وصار الكون فاكهة طازجة سقطت فى راحتيه، وراح يلتهمها بتلذذ ونشوة ود أن يقبلها وليذهب السائق العجوز إلى الجحيم ذلك الرجل اللئيم الذى لايتوقف عن النظر إليها عبر المرآة والابتسام.. زحفت يده ببطء فوق المقعد الجلدى الممزق حتى لامست يدها.. ارتعشت قليلاً وتوقفت عن الغناء لاحت على شفتيها ظل ابتسامة ثم بدأت تغنى مرة أخرى بصوت أكثر رقة وعذوبة.. أنا لحبيبى وحبيبى إلى. الحصار اقتحم العيال المباحث المدرج حاملين الشوم لإخراج المعتصمين بالقوة بعد أن حطموا النوافذ الزجاجية وبدأوا يطاردونهم عبر المدرج، وينهالون عليهم بالشوم لدرجة أن الولد حسنى تكوم على نفسه بجوار الباب الخشبى الكبير وهو يئن كأنه بيطلع فى الروح، ويحاول أن يجر جسده النحيل بعيداً ليحتمى بالمقاعد الخشبية.. بينما أسرعت البنات بالهرب عبر الباب الخلفى للمدرج لم تستمر المطاردة طويلاً فقد انسحب العيال المباحث بسرعة غريبة واختفوا فجأة.. وساد صمت مسكون بالألم والخوف كأن أرواحهم الطليقة قد انكسرت على حافة العجز والمطاردة.. اختبأ كل واحد فيهم داخل نفسه بعيداً عن الآخرين كأنه يخجل من مواجهتهم، وكلما زاد الصمت.. زاد الحزن والمرارة لدرجة أن الولد نجيب أجهش بالبكاء ولم يحاول واحد فيهم الاقتراب منه حتى لايشعره بالخجل والعجز.. فجأة.. ارتفع صوت حنان وسط هذا الصمت المهزوم، وهى تغنى أغانى الشيخ إمام.. بدأت الحناجر المشروخة المتعبة تتقافز خلف صوتها كحمامة تحمل دمها النازف وتقاوم الموت تفرد جناحيها وترفرف »بألم محاولة الطيران ثم تجمعت الحناجر فى حنجرة واحدة تصرخ وراء البنت حنان.. رجعوا التلامذة..« ياعم حمزة للجد تانى عندما هدهم التعب وانفرطت تلك الحنجرة على ساعد الليل كحبات المسبحة صعدوا إلى مصلى الكلية وأحضروا الحصير الموجود به فرشوا نصفه على الأرض والتف كل واحد بحصيرة وناموا.. الأولاد فى جانب.. والبنات فى جانب.. ظل يحيى يبحث عن البنت حنان بين تلك الأكفان التى لايبدو منها سوى رءوس أقرب إلى رءوس المومياوات الفرعونية القديمة حتى وجدها بجوار الستارة القديمة كان شعرها يغطى نصف وجهها، ويبدو النصف الآخر كالهلال فى سماء غائمة حزينة.. نظرت إليه طويلاً.. خيل إليه أنها ابتسمت ثم أغلقت عينيها تذكر قصيدة أحمد شوقى ودخلت فى ليلين فرعك والدجى.. ولثمت كالصبح المنور فاك.. أحس بحنين جارف إليها، ود أن يلمس شعرها، ويقبل هذا الهلال النائم فى فضاء الأساطير تعالى شخير حاد من الحصيرة المجاورة دفعها برفق.. فعاد الهدوء مرة أخرى. الهروب انطلقت الصرخة طويلة حادة متلعثمة الأمن المركزى هايقتحم الكلية فتح يحيى عينيه فزعاً رأى الولد تيمور يقف فى منتصف المدرج، وهو ينتفض بشدة، وصوت لهاثه العالى الأقرب إلى الحشرجة يغطى على إيقاع الكلمات أخبرهم أن قوات كبيرة من الأمن المركزى قادمة من طريق الحرية، ومن ناحية شريط الترام أسرعوا بالخروج من الكلية كانت قوات كبيرة من قوات الأمن المركزى تأتى من الاتجاهين بالخطوة السريعة، وقد رفعوا الدروع والهراوات ويصيحون صيحات عالية منتظمة كأنهم مصارعون فى الحلبات الرومانية القديمة لوهلة.. شعروا بالخوف وكان الأسفلت قد تحول إلى رمال متحركة يغوصون فيها جميعاً ثم اندفعوا إلى مبنى اتحاد الطلبة المواجه للكلية كسروا الباب الزجاجى ووضعوا المقاعد والموائد خلف الباب بعد لحظات حضر رئيس الجامعة على عجل وبعد مفاوضات مع الأمن تم الاتفاق على أن يقوم الطلبة المطلوبون بتسليم أنفسهم فى مقابل أن يسمح الأمن لبقية الطلبة بالانصراف دون التعرض لهم. فى موكب حزين أشبه بموكب المقصلة.. خرج رئيس الجامعة والطلبة المطلوبون بينهم تيمور ومراد وخلفهم يحيى وحنان.. منعهم الأمن من الاقتراب أكثر من ذلك، فوقفا يراقبان العيال وهم يختفون داخل العربات السوداء والولد تيمور يرفع يده ملوحاً لهما ويبتسم ابتسامة أقرب إلى ارتعاشة الحزن وانكسار الروح.. انطلقت العربات بسرعة فرت الدموع من عين البنت حنان ورسمت خطين أسودين على خديها أمسك بيدها فانهارت فى البكاء وارتمت فى صدره.. ضمها بقوة حتى شعر بضربات قلبها المتسارعة ود لو توقف الزمن عند ذلك المشهد.. تختفى البيوت والناس، ويظلان هما فقط متعانقين حتى يتحولا إلى جسد واحد يمر الزمن القاتل دون أن يراهما فيظلان على حدود الدنيا قلبين صغيرين يطاردان القمر. أمضى تلك الليلة الحزينة عند الولد حسنى فى غيط العنب، وفى الصباح.. نزلا إلى المطعم الذى يملكه والده فى نفس المنزل القديم تناولا الفول والطعمية وشربا شاياً غامقاً ثم انطلقا إلى محطة الرمل لمقابلة حنان التى تسكن فى عمارة فخمة تطل على الميدان الواسع حيث ذلك التمثال الذى يعطى ظهره للمدينة ويواجه.. البحر كان الميدان يبدو هادئاً فى مثل هذا الوقت من الصباح.. وعربات الترام الواقفة فى سكون تبدو كنسوة ينتظرن ساعة المخاض، وتبدو ساعة السنترال وقد تجاوزت العاشرة، وحنان لم تأت بعد أحسا أن عشرات العيون المدربة على المطاردة قد بدأت تفض بكارة الميدان فأسرعا إلى الشاطبى سيراً على الأقدام حيث بدأ الطلبة فى التجمع.. عرفا من الولد عزت أن المباحث ألقت القبض على البنت حنان لحظة خروجها من العمارة كما تم القبض على البنت فريدة وأمها بعد مداهمة الشقة فجراً. لم تمض إلا لحظات قليلة على بداية الهتاف ضد السادات حتى انشقت الأرض عن قوات الأمن المركزى وبدأت المطاردة الوحشية رأى يحيى وهو يحاول الفرار الولد حسنى متكوماً على الأرض وهم يضربونه بعنف ثم يحملونه ويلقون به داخل السيارة ثم سمع صرخته الحادة المسرسعة.. يا أولاد الكلب. الرحيل وحيداً منكسراً ضائعاً عارياً حتى العظم جلس على حافة المدينة فى ذلك الشاليه القديم المطل على البحر فى العجمى الذى يصبح مهجوراً فى مثل هذا الوقت من العام.. فى الصبح.. يجلس مكتوما وراء النافذة الصدئة يراقب السفن وهى تعبر الخط الفاصل ما بين السماء والبحر، وفى الليل.. يلتف بتلك البطانية القديمة وينكمش فوق السرير الكبير الذى ينشع رطوبة يداهمه صوت الموج وصفير الريح الذي يبدو كقاطرة على وشك الرحيل.. ثم ينشق الجدار عن وجه البنت حنان وهى تغنى وتستلقى على الرمل كجنية مسحورة تنام العصافير فوق شعرها الجميل الناعم، وتحط النوارس المتعبة فوق صدرها ثم تحلق فى فضاء الغرفة المظلمة فيستحيل مساحة من النور يرى أمه والولد على الجميل، وتلك الصورة المصغرة فى الجريدة القديمة.. يرى امرأة عجوزا طيبة شعرها أبيض تأخذه فى حضنها فيظل يتلاشى حتى يختفى تماماً فى أوردتها. عندما سقط الضوء على الجدران الكابية واختفت تلك الوجوه نهض واقفاً.. أشعل سيجارة، وبدأ يراقب البحر من خلف النافذة.. توقفت عيناه مندهشة حائرة عند تلك الكتلة السوداء التى تجلس فوق مقعد متحرك ما بين مساحة الأزرق والأصفر.. وتبدو النوارس البيضاء وهى تحط على حافة الماء.. فتح النافذة قليلاً وقد داهمته رغبة عارمة فى متابعة ذلك المشهد الذى يبدو كلقطة سينمائية حزينة بعد لحظة.. جاء شاب نحيل يرتدى ملابس رياضية.. أقعى بجانبها قليلاً ثم نهض وبدأ يدفع المقعد عندما استدارت قليلاً وسقط الشال الأسود عن كتفيه انتفض يحيى بعنف وتسارعت دقات قلبه حتى كاد أن يتوقف.. كان وجهها جميلاً نورانياً.. ولها سنتان إحداهما فوق الأخرى كأنهما عاشقان فى لحظة عناق لاينتهى وإن كانت قد قصت شعرها قليلاً.. أعاد الشاب الشال إلى كتفيها ثم واصل دفع المقعد.. صرخ يحيى من أعماقه سهير. لكن صوته لم يخرج.. ظل مصلوباً يتابع المقعد وهو يبتعد قليلاً قليلاً ثم يختفى فى انحناءة الشاطئ.. ولاشىء غير خطين رفيعين متعرجين فوق الرمل.