بعد ثلاثة أيام يهل علينا يوم الثالث والعشرين من يوليو, اليوم الخالد في الذاكرة المصرية, اليوم الذي انطلقت فيه شرارة الثورة تبشر بعهد جديد تحررت فيه مصر من ربقة الاستعمار ومن الملكية ومن الأحزاب المتناحرة ومن الاقطاع وكم كانت اشراقة ذاك اليوم جميلة عندما قدر لي ان التقي مع طلائع الثورة التي جاءت الي الاذاعة في مبناها4 شارع الشريفين والي استديوهاتها في5 شارع علوي وكم كانت فرحتي وسعادتي غامرة وانا أصافح مجموعة من الضباط وعلي اكتافهم البنادق وفي مقدمتهم البكباشي أنور السادات الذي عرفته علي الفور دون بقية زملائه فالرجل كان علي مدي سنوات الاربعينيات من القرن الماضي مليء السمع والبصر, أخباره منشورة في الجرائد ومغامراته علي كل لسان, فهو ضالع في حادثة عوامة الراقصة حكمت فهمي التي كانت تأوي جاسوسا المانيا يدعي أنه ضابط في جيوش الحلفاء وكان يتخذ من العوامة ملجأ له ويبث من خلال جهاز لاسلكي أخبار مصر واخبار الجيوش الانجليزية, ثم كان انور السادات واحدا من المتهمين في حادث اغتيال الوزير الوفدي أمين عثمان المتزوج بانجليزية والذي قال ان الرباط بين مصر وانجلترا أشبه بالزواج الكاثوليكي إضافة الي ذلك كانت اخبار اعتقاله في معتقل مافوسه بالمنيا وهروبه من المعتقل يملأ الصحف والمجلات ثم انه ظل علي مدي شهور عديدة يكتب في مجلة المصور ذكرياته والاحداث التي مربها في حياته وعجبت ان هناك من ينكر علي السادات انه ذهب الي الاذاعة في فجر يوم23 يوليو سنة1952 وانه قرأ البيان في حين انني كنت المذيع الذي قدمه في ذات الصباح أمام الميكروفون وانطلق صوته المعبر الهادئ وفي لغة عربية سليمة خالية من أي خطأ نحوي يعلن قيام الثورة. كانت منطقة وسط القاهرة في ذاك الصباح تبدو هادئة كعادتها في كل صباح اللهم الا من سؤال يلح علي ألسنة المارة عن السبب في وجود بعض العربات المصفحة التابعة للجيش متناثرة أحادها في الشوارع المحيطة بمبني الاذاعة ثم هذا الطابور من الجنود الذي يكاد يغلق مداخل شوارع الشريفين وشريف والبورصة, ففي هذا التساؤل طاف بذهني وانا اتقدم نحو شارع الشريفين خاصة عندما استوقفني ضابط برتبة الملازم أول يسألني من ولما عرفته بنفسي أفسح لي الطريق واقتادني زميل له حتي وصلنا الي مدخل استديوهات الاذاعة في5 شارع علوي وهو المبني الذي هدم وبني بدلا منه المركز الرئيسي للبنك الأهلي, وعندما دخلت الي استراحة المذيعين امام الاستديوهات كان المنظر الذي قصصته في السطور السابقة, الضباط وعلي اكتافهم البنادق يحيطون انور السادات, رحب بي الرجل بما أعطاني حرعة من الأطمئنان واعتذر في اسلوب مهذب ان هناك بيانات بيتلوها من خلال الميكروفون أحسست في هذه اللحظة ان ما كان يطوف في صدورنا من آمال تتلخص في طرد المستعمر والحياة الكريمة عندما كنا نقوم بالمظاهرات ونحن طلبة في الجامعة أحسست بان هذه الآمال علي وشك ان تحقق, وحدث ماحدث عندما بدأنا الارسال الاذاعي في السادسة والنصف صباحا من انقطاع للبث من محطات أبو زعبل بتدخل من وزير الداخلية في ذات الوقت مرتضي المراغي ومحافظ القاهرة كامل القاويش, ولكن شاء المولي عز وجل للثورة ان تنجح وان يذاع بيانها الاول عندما تبلغ كثافة الاستماع الي الاذاعة ذروتها لحظة إذاعة نشرة الأخبار الاولي في السابعة والنصف وبعد دقات الساعة قدمت مندوب القيادة السيد انور السادات الذي قرأ البيان وغادر الاستديوهات وتولي اذاعة البيان بعد ذلك عدد من الضباط ممن احتلوا مبني الاذاعة وعندما انتهت فترة الاذاعة الصباحية وتوجهت الي مكتب المذيعين في4 شارع الشريفين كانت الشوارع المحيطة بالمبني تعج بالجماهير تحيي جنود القوات المسلحة: هذا يقدم لهم شاي الصباح وذاك يحضر السندويتشات في فرحة غامرة وسعادة بالغة انه يوم لاينسي في تاريخ مصر.