شحت أضواء الشقة..وغامت المائدة ومافوقها من حلوي وشموع..فاليوم يحتفل الأبناء بعيد ميلاده الحادي والستين..أخبرهم أنه لايحب أعياد الميلاد..فهي تذكره بتساقط عمره كأوراق الخريف يتطلع للبالونات التي تتدلي وتتهدل متأرجحة في أوشحة داكنة بعد أن فقدت ألوانها الزاهية..سكون يطبق مقبض يحيط به..رغم الضوضاء التي يحدثها الكاسيت والأحفاد..حاول أن يطرد الهم للحظات..لكنه لم يفلح..لتأكده أن هذه اللحظة التي يحياها بين الابناء والأحفاد لن تنبثق ثانية..الصغيرة داليا يتحلي وجهها بابتسامة رقيقة تمتزج بحمرة وجنتيها فيضفران معا..جمالا عفويا هادئا وهي تقبله..غادره الأبناء والأحفاد وافترش السكون صدره الواهن وهو يقلب في ألبوم الذكريات..لتقفز صورة زوجته بوجهها النحيل الوسيم وعينيها ذاتا الوميض الساحر..وصوتها الحنون الرقيق وهي تسأله: تحب أعمل لك إيه في الغداء النهاردة..؟ شربا معا من ينابيع الصفاء..طابت بها نفسه..دمعت عيناه وهو يقاوم انشطارا يزلزله..لماذا تمارس الحياة عنفها..وتأخذ منه شمس حياته وتترك له الليل الذي تمدد في داخله..منذ أن رحلت..وهو يستشعر أنه بدأ رحلة العودة..كل يوم يموت جزء منه..لم يتمكن من طي تلك الصفحة من الألبوم..لأنها تسكنه.. تقفز صورة أخري..الأصدقاء في حفل خروجه علي المعاش.. أو كما يسمونه سن التقاعد..كأنه إيذان بتوقف الحياة.. كم كان كئيبا ورماديا..وهم يقبلونه قبلات اللاعودة..رغم كثرة المحيطين به والهدايا..استشعر في قصائد المدح..نفاقا وتملقا..لم يبتهج له..ألقي نظرة أخيرة علي مكتبه الذي سيحتله آخر.. الخطوات ثقيلة..القدم تغرس في باطن الأرض.. تأمل السيجارة وهو يطفئها..وعمره الذي سينطفئ مثلها بعد لحظات علي وجهه امتعاض كثيف ولوعة..لاتغادره.. قفزت صورة ابنته عفاف التي أخذت الكثير من والدتها.. حتي اسمها..لتظل ذكري ترفض الرحيل بعد أسبوع سيسافر مع زوجها والأبناء الي أمريكا ليتسلم عمله الجديد..كملحق ثقافي بسفارتنا هناك.. وتقفز صورة ابنه أحمد هو يقلع بالطائرة الي ألمانيا في بعثة علمية قررتها الجامعة التي يشغل بها الأستاذية..ليجد نفسه وحيدا..مثل شجرة..تساقطت أوراقها..لاتمر فيها..نملة وحيدة في مملكة الحزن..الشمس مذبوحة في الأطباق الفارغة..بداخله حزن وحريق لايمكن لأنهار ومحيطات الدنيا إطفاؤه.. المطارات التي تقل الأحباب حزينة كحزنه الذي يشربه مع قهوة الصباح من فوح التفاح..وعبق البخور الذي أطلقه..أطلت زوجته..تسبقها ابتسامتها الحنون..تضمر جرحه..تغسله من الأوجاع.. تأخذه بعيدا عن ليل الرماد الطويل..حيث شجر الروح في الأعالي.. ويستسلم لموت هادئا. محمد محمود غدية/ المحلة الكبري [email protected]