وعندي أن هذا الشد والجذب بين المؤسسة الكنسية والدولة ليس بالضرورة علاقة سلبية مضطربة, بل يمكن اعتباره تعبيرا عن آلام الحداثة والتقدم في المجتمع المصري ككاكتملت مشاكل الكنيسة القبطية مع مؤسسات الدولة, فبعد العديد من المشاكل الخاصة ببناء الكنائس والتي دائما ما تثار مع السلطة التنفيذية, تأتي المشكلة الدائرة الآن بشأن قانون الأحوال الشخصية وقضايا الطلاق لتثير المشاكل مع السلطة التشريعية والقضائية. وأخطر ما يحدث الآن هو التناول السطحي لهذه المشاكل جميعها, فالبعض يحاول ربطها بشخص البابا شنودة باعتباره الرجل القوي الذي يدير كل الملفات الخاصة بالأقباط علي مدي الأعوام الأربعين الماضية, والبعض علي الجانب الأخر يربطها بمناخ المحافظة الدينية الذي سيطر علي مصر في الفترة ذاتها. وينسي الجميع أن المشاكل المثارة حاليا, جميعها بلا استثناء, تمثل الشكل الأخير من التحولات المؤلمة التي مازالت تتفاعل في المجتمع والتي صاحبت التحول نحو الدولة الحديثة منذ أوائل القرن التاسع عشر, والإخفاقات التي تصاحب الضربات المتتالية التي يكيلها المحافظون الدينيون, مسيحيين ومسلمين, لنفس الدولة علي مدي الأعوام القريبة الماضية, ناهيك عما حدث من إنهاك للدولة من القائمين عليها من البيروقراطية المصرية ومن الحكومات المتتابعة. وينسي الجميع أن الشد والجذب بين المؤسسة الكنسية ومؤسسات الدولة قائم وبشكل مستمر منذ سبعينيات القرن التاسع عشر, فحتي ذلك التاريخ كان كل ما يتعلق بالأقباط وشرائعهم الدينية والاجتماعية في يد سلطة واحدة هي المجمع المقدس الذي يتكون من أعلي الرتب الكهنوتية, ولكن في عام1874 أصدر الخديو إسماعيل وبإيعاز من النخبة القبطية العلمانية, قرارا بانشاء المجلس الملي للطائفة القبطية, وأوكل للمجلس بعضا من سلطات المجمع المقدس وأهمها النظر في الأحوال الشخصية, كان المجلس يتكون من العلمانيين وبرئاسة البطريرك. ومنذ ذلك التاريخ وقضية العلاقة مع الدولة قائمة ولم تهدأ, فالسؤال المطروح بوضوح منذئذ ومازال قائما هو ما الذي تعنيه الدولة الحديثة لرجل الدين في مؤسسة تقليدية, وما الذي يمكن أن يقوم به العلماني في المسافة بين المؤسسة الكنسية والدولة. والملاحظ في هذ الشأن أنه كلما كانت الدولة قوية وملتزمة بمعايير الحداثة, وكلما كانت النخبة القبطية العلمانية علي وعي كاف بمسئولياتها, كانت الدولة قادرة علي إصدار القوانين والقرارات وتفعيلها, وكلما تراجعت حداثة الدولة وتدهورت أوضاع النخبة القبطية تقدمت المؤسسة للمطالبة بما قد أخذه النظام القانوني الحديث منها من صلاحيات. وعندي أن هذا الشد والجذب بين المؤسسة الكنسية والدولة ليس بالضرورة علاقة سلبية مضطربة, بل يمكن اعتباره تعبيرا عن آلام الحداثة والتقدم في المجتمع المصري ككل, فمثل هذا الشد والجذب هو الطريق نحو بناء الحدود الواضحة لدور الدولة ومؤسساتها ودور المؤسسات الدينية وعلاقة كل منهما بالفرد الذي يفترض, نظريا علي الأقل, أنهما في خدمته. وقانون الأحوال الشخصية للمسيحيين الحالي هو خير مثال لغموض العلاقة بين مؤسسات الدولة الحديثة والمؤسسة الدينية, فالقانون الحالي يعتبر الزواج سرا مقدسا طبقا لطقوس الكنيسة الارثوذكسية, وهو كأي سر كنسي تقوم بها المؤسسة وهي فقط التي تستطيع تنفيذه أو كسره. والأهم من ذلك أن القانون يجعل من الكاهن هو الموثق الرسمي المعترف به لدي الدولة لعقد الزواج ومن ثم لا يوجد عمليا أي نوع من الزواج علي أساس من الشريعة المسيحية بدون رجل الدين أو خارج نطاق الطوائف المسيحية المعترف بها في مصر. ففي إطار مثل هذا القانون لم تخطئ المؤسسة الكنسية عندما أعلنت رأيها فيما يقع في صميم اختصاصها الذي هو' السر المقدس', كما أنها تتحدث عن أمر واقع بموجب القانون هو أنها غير ملزمة بإتمام' سر الزيجة' لمن لا يؤمن بتعاليمها وتعليماتها كما إنها لا يمكن أن تأخذ التعليمات الخاصة بالمقدس من اي مصدر سوي مصادرها المقدسة. وفي إطار القانون ذاته فإن القاضي علي حق في الحكم بأن مثل هذه المعايير الكنسية تنطوي علي انتهاك واضح لقوانين أخري ومواد دستورية وحقوق فردية أقرتها معايير الحداثة والدولة الحديثة. المشكلة إذ تكمن في القانون الذي لا تكتمل له شروط الحداثة, ولا ترضي المؤسسة الكنسية عنه كونه مناقضا للقداسة. وليس الحل في إجبار المؤسسة الكنسية علي ما لا ترغب, وليس الحل في تجاهل أوجاع شريحة من المواطنين مهما صغرت وترك الأمر بكامله للكنيسة. والحل الوحيد الممكن في نظري هو أن تعمل النخبة السياسية والقانونية علي إنجاز قانون جديد للأحوال الشخصية للمسيحيين يلتزم الخطوط العامة للشرع المسيحي, ومفصل به الأحكام الخاصة بكل طائفة علي حدة كما ترتضيها. ويجعل تصريح الزواج مناطا بالجهة القانونية, وأن يترك مساحة للموثق المدني لمن يريد أن يتزوج زواجا مسيحيا بغير موثق كنسي. بمثل هذا القانون تنتقل المسئولية كاملة للفرد ليختار طريقه في تكوين الأسرة أو أن يعدله, فإن اختار سبيل الكنيسة القبطية مع علمه بامتناع الطلاق فهذا مطلبه وان اختار غيرها لا يقف في وجهه عائق قانوني, وإن اختار زواجا مسيحيا دون سلطة روحية من أي طائفة فهذا قراره وهذا ما ينبغي أن يكفله القانون دون أن يرغم المؤسسة الروحية علي شئ لا ترتضيه.