التفاف على توصيات الأمم المتحدة .. السيسي يصدّق على قانون الإجراءات الجنائية الجديد    القيادة المركزية الأمريكية: نفذنا 22 عملية أمنية ضد "داعش" طوال الشهر الماضي    إعلام: زيلينسكي وأجهزة مكافحة الفساد الأوكرانية على شفا الحرب    أبوريدة: متفائل بمنتخب مصر فى أمم أفريقيا والوقت لا يسمح بوديات بعد نيجيريا    نقابة الموسيقيين تنفى إقامة عزاء للمطرب الراحل إسماعيل الليثى    غضب واسع بعد إعلان فرقة إسرائيلية إقامة حفلات لأم كلثوم.. والأسرة تتحرك قانونيا    وزير الإسكان: بدء التسجيل عبر منصة "مصر العقارية" لطرح 25 ألف وحدة سكنية    فرصة مميزة للمعلمين 2025.. التقديم الآن علي اعتماد المراكز التدريبية لدى الأكاديمية المهنية    المستشار بنداري: أشكر وسائل الإعلام على صدق تغطية انتخابات نواب 2025    واشنطن تدعو لتحرك دولي عاجل لوقف إمدادات السلاح لقوات الدعم السريع    الاحتلال الإسرائيلي يشن سلسلة اقتحامات وعمليات نسف في الضفة الغربية وقطاع غزة    عماد الدين حسين: إقبال كبير في دوائر المرشحين البارزين    الإنتاج الحربي يلتقي أسوان في الجولة ال 12 بدوري المحترفين    بتروجت: اتفاق ثلاثي مع الزمالك وحمدان لانتقاله في يناير ولكن.. وحقيقة عرض الأهلي    انطلاق معسكر فيفا لحكام الدوري الممتاز بمشروع الهدف 15 نوفمبر    سحب منخفضة ومتوسطة.. الأرصاد تكشف حالة الطقس اليوم الخميس 13 نوفمبر 2025    أمطار تضرب الإسكندرية بالتزامن مع بدء نوة المكنسة (صور)    انفجار ضخم يهز منطقة كاجيتهانة في إسطنبول التركية    قرارات جديدة بشأن مصرع وإصابة 7 في حادث منشأة القناطر    مرور الإسكندرية يواصل حملاته لضبط المخالفات بجميع أنحاء المحافظة    قفزة في سعر الذهب اليوم.. وعيار 21 الآن في السودان ببداية تعاملات الخميس 13 نوفمبر 2025    وزير المالية السابق: 2026 سيكون عام شعور المواطن باستقرار الأسعار والانخفاض التدريجي    فيفي عبده تبارك ل مي عز الدين زواجها.. والأخيرة ترد: «الله يبارك فيكي يا ماما»    بالصور.. علي العربي يتألق على السجادة الحمراء لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي    خالد النبوي.. فنان يروي الحكاية بصدق الإبداع ودفء الإنسان    الولايات المتحدة تنهي رسميا سك عملة السنت بعد أكثر من قرنين من التداول    يقضي على ذاكرتك.. أهم أضرار استخدام الشاشات لفترات طويلة    عقار تجريبي جديد من نوفارتيس يُظهر فعالية واعدة ضد الملاريا    طريقة عمل فتة الحمص بالزبادي والثوم، أكلة شامية سهلة وسريعة    أسعار السمك البلطي والكابوريا والجمبري بالأسواق اليوم الخميس 13 نوفمبر 3035    ممثل المجموعة العربية بصندوق النقد الدولي: مصر لا تحتاج لتحريك سعر الوقود لمدة عام    إذا قالت صدقت.. كيف تتمسك مصر بملفات أمنها القومي وحماية استقرار المنطقة؟.. من سرت والجفرة خط أحمر إلى إفشال محاولات تفكيك السودان وتهجير أهالي غزة .. دور القاهرة حاسم في ضبط التوازنات الإقليمية    تعرف على ملاعب يورو 2028 بعد إعلان اللجنة المنظمة رسميا    ترامب يحمل «جين تاتشر» وكيندي استخدم مرتبة صلبة.. عادات نوم غريبة لرؤساء أمريكا    التصريح بدفن جثمان الزوجة المقتولة على يد زوجها فى المنوفية    حادث مرورى بنفق قناة السويس بالإسكندرية وعودة الحركة المرورية    حيثيات حبس البلوجر «سوزي الأردنية»: «الحرية لا تعني الانفلات»    إسرائيل تُفرج عن 4 أسرى فلسطينيين من غزة بعد عامين    دوامٌ مسائي لرؤساء القرى بالوادي الجديد لتسريع إنجاز معاملات المواطنين    "حقوق المنصورة "تنظم يومًا بيئيًا للابتكار الطلابي والتوعية بمفاهيم الاستدامة وترشيد الاستهلاك    محمود فوزي: قانون الإجراءات الجنائية الجديد سيقضي على مشكلة «تشابه الأسماء»    النيابة العامة تخصص جزء من رسوم خدماتها الرقمية لصالح مستشفى سرطان الأطفال    «ده مش سوبر مان».. مجدي عبد الغني: زيزو لا يستحق مليون دولار    ليلى علوي: مهرجان القاهرة السينمائي يحتل مكانة كبيرة في حياتي    محمود فوزي ل"من مصر": قانون الإجراءات الجنائية زوّد بدائل الحبس الاحتياطي    خبير لوائح: قرارات لجنة الانضباط «تهريج».. ولا يوجد نص يعاقب زيزو    تأكيد لليوم السابع.. اتحاد الكرة يعلن حرية انتقال اللاعبين الهواة بدون قيود    «يتميز بالانضباط التكتيكي».. نجم الأهلي السابق يتغنى ب طاهر محمد طاهر    قد يؤدي إلى العمى.. أعراض وأسباب التراكوما بعد القضاء على المرض في مصر    مقرمش جدا من بره.. أفضل طريقة لقلي السمك بدون نقطة زيت    شريف عامر: قانون الإجراءات الجنائية الجديد أحد أهم القوانين على مستوى العالم    قصر صلاة الظهر مع الفجر أثناء السفر؟.. أمين الفتوى يجيب    رئيس الإدارة المركزية لمنطقة شمال سيناء يتفقد مسابقة الأزهر الشريف لحفظ القرآن الكريم بالعريش    انطلاق اختبارات «مدرسة التلاوة المصرية» بالأزهر لاكتشاف جيل جديد من قراء القرآن    الرئيس السيسي يصدق على قانون الإجراءات الجنائية الجديد    «لو الطلاق بائن».. «من حقك تعرف» هل يحق للرجل إرث زوجته حال وفاتها في فترة العدة؟    محافظ أسيوط يحضر برنامج تدريب الأخصائيين على التعامل مع التنمر    دعاء الفجر | اللهم ارزق كل مهموم بالفرج واشفِ مرضانا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الجغرافيا والموروث الثقافي والمصالح.. عوامل تجعل الوحدة الوطنية قدرًا محتومًا فى مصر
نشر في بوابة الأهرام يوم 15 - 06 - 2011

تبدو "الوحدة الوطنية" في مصر قدرًا محتومًا رغم الحوادث الطائفية التي شهدتها مؤخرًا، والتي تفجرت بفعل "الاحتقان" الذي أصاب المجتمع طيلة أربعين عامًا امتدت منذ عام 1971 حتى قيام ثورة 25 يناير، التي من المؤمل أن تفتح بابًا واسعًا أمام المسلمين والمسيحيين في مصر نحو الانتقال من التعايش إلى الانصهار الوطني تحت راية دولة ديمقراطية عادلة.
وهناك ستة عوامل تغذي رسوخ "الوحدة الوطنية" أولها التجانس العرقي، إذ إن المصريين من أشد شعوب العالم تجانسًا في الصفات العرقية والمقاسات الجسمية، ومن أكثرهم تشابها في السحنة والملامح.
ويمتد هذا التجانس من الجوانب البيولوجية إلى النفسية ليعزز التقارب النوعي بين المصريين كافة، ويعبر الأنبا شنودة بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية نفسه عن هذا الوضع بجلاء حين يقول: "وحدة مصر والمصريين من أسرار هذا البلد الخالد... هل هي الجغرافيا؟ هل هو الإنسان؟! ... كم أصابنا من البلايا على مدى التاريخ، ولكن وحدتنا بقيت تقاوم الزمن. فلا خوف على مصر، ولا تشابه بينها وبين غيرها. ولم تنجح القوى الأجنبية قط في التفرقة بين المصريين، فمصر تحمي وحدتها، لأنها وحدة محصنة ضد مصائب الجهل والفقر والتخلف والمخططات الأجنبية".
والعامل الثاني هو "هبة الجغرافيا"، فالمسيحيون ينتشرون في كل قرى ومدن مصر تقريبا، ولا يقطنون منطقة جغرافية محددة، كما هو الحال بالنسبة للأكراد في كل من العراق وسوريا وتركيا وإيران. وهذا الأمر يجعل علاقات الوجه للوجه قائمة يوميا بين مسلمي مصر ومسيحييها، ويزيد من تشابك المصالح المتبادلة، ولا يجعل فكرة الانفصال قائمة أبدا، أو لها أي معنى، ومن ثم استقر في وعي الجماعة الوطنية برمتها أنه لا مناص من العيش المشترك، ونشأت حاجة ماسة إلى تحسين مستوى هذا العيش.
كما أن الجغرافيا أتاحت فرصة كبيرة للدولة المركزية في السيطرة على الشعب، منذ فجر التاريخ. فالمصريون يعيشون في واد ضيق منبسط، يسهل ضبطه من الناحية الأمنية، ومن يتمرد على الوادي ويخرج إلى الصحراء يعرض نفسه لهلاك محقق.
وهذا الأمر جعل بوسع النظم المتعاقبة على حكم مصر أن تخمد أي محاولة للفتنة في مهدها، وبات مستقرا في وعي الناس أن السلطة متواجدة دوما، ويتصرفون في علاقاتهم اليومية على هذا الأساس.
أما العامل الثالث فيتمثل في "التشرب الحضاري" حيث إن مصر الحاضرة تتشرب كل طبقات الثقافات التي تراكمت عليها، هاضمة ما أتاها من الخارج، محتفظة في الوقت نفسه بكثير من أصالتها الأولى، لتبدو كما يقول الفرنسي إدوارد لين وثيقة من جلد رقيق، الإنجيل فيها مكتوب فوق هيرودت، وفوقهما القرآن، وتحت الجميع لا تزال الكتابة القديمة تقرأ بوضوح وجلاء.
وإذا كانت مصر الراهنة عربية الهوية والحضارة، فإن كثيرًا من المثقفين المسيحيين ينظرون إلى أنفسهم على أنهم "مسيحيون دينيا، لكنهم مسلمون ثقافة وحضارة"، وزاد من هذا التصور أن كثيرا من منظري "القومية العربية" الأوائل كانوا من المسيحيين، وهم إن انتقدوا "الخلافة الإسلامية" كنظام سياسي، فإنهم لم يستطيعوا أن يتجاوزا الإسلام كدين وحضارة لتلك البقعة الجغرافية من العالم.
والعامل الرابع يتعلق بوحدة الموروث الشعبي، فالفلكلور المصري واحد، لا يفرق بين مسلم ومسيحي. فعادات الأفراح والأحزان متشابهة، وطقوس الموالد واحدة، والجميع يتفاعلون مع الأساطير الشعبية بالدرجة نفسها.
ويتجلى العامل الخامس في علاقات السوق، حيث إن المصالح التجارية الحياتية بين المسلمين والمِسيحيين في مصر تفرض على الجانبين تعايشا مستمرا.، فالأفراد في خاتمة المطاف ينحازون إلى مصالحهم الشخصية، وقد يبتعدون عن الهموم العامة إن وجدوها تؤثر سلبا على أرزاقهم، أو على الأقل يفصلون بين واجباتهم حيال المشكلة الكبرى ومقتضيات مصالحهم الفردية.
وفي القرون الفائتة استعان حكام مصر بمسيحيين في الإدارة والتجارة والري، نظرا لخبرتهم في هذه النواحي، وتماهي هؤلاء في نظام الدولة ودافعوا عنه. وفي الوقت الحالي يستعين المسلمون بأهل الحرفة من المسيحيين، ويسعى المسيحيون من أصحاب التجارة إلى كسب ود المسلمين لأغلبيتهم العددية، التي تجعلهم القوة الشرائية الأساسية في البلاد.
ويعتبر العامل السادس المتمثل في الخوف من عواقب الفتنة ذا أهمية كبيرة في منع انجراف الاحتقان الطائفي أو الحوادث العنيفة التي تتم بين حين وآخر على خلفيات طائفية إلى عنف مفرط أو حرب أهلية. فالخوف يشكل كابحا للطرفين من أن يتماديا في تصعيد أي خلاف طارئ ينشب بينهما، لأن استشراء الفتنة، يعني إزهاق أرواح وتدمير ممتلكات، لا أحد بوسعه أن يعرف حجمها
وتشكل هذه العوامل الستة أرضية قوية للتعايش المشترك والانصهار الوطني يستند التعايش ، الذي بدوره يستند ، في أي مكان وزمان ، على عدد من الشروط ، التي يجب توافرها من أجل تمتين الروابط بين الفئات الاجتماعية لأي دولة تموج بحال من التعددية ثقافية كانت أم لغوية أو دينية أو عرقية.
ومن بين هذه الشروط أن يكون الحوار متكافئا بين الأطراف المتشاركة في حياة واحدة، سواء كانوا أفرادا أو جماعات، وأن يعلو التحاور والتفاهم فوق أي عصبيات أو أفكار مسبقة عن الباقين، كما يجب الاستعداد للتعامل بتسامح مع الآخر وقبول الآراء المضادة، وعدم النظر إلى هذا التسامح على أنه علاقة بين طرفين أحدهما أقوى من الثاني، بل باعتباره ضرورة حياتية.
ومن المهم كذلك أن تكون هناك منظومة من القيم العادلة يتم الاحتكام لها في توزيع الثروة، وتحصيل المكانة الاجتماعية، والتساوي في الفرص السياسية المتاحة، أو المتوافرة، مهما كانت حدودها وحيويتها.
ومن شروط التعايش أيضا توافر شعور لدى الشعب المصري بمختلف شرائحه وطبقاته بأهمية فكرة التعايش الاجتماعي، وإدراك أنها باتت ضرورة للدولة المعاصرة، وتفهم فكرة الاختلافات الطبيعية بين البشر، من حيث اللغة والدين والعرق واللون والثقافة، وكيفية تطويعها بحيث لا تشكل عائقا أمام التعايش بين جماعات شتى، بل تحقق الحكمة الإلهية العظيمة في اختلاف الناس، من حيث الألوان والأجناس والأحجام واللغات واللهجات والمعتقدات ... الخ.
ولذا يناط بالنخبة المصرية، بمختلف ألوانها، أن تبحث، من دون كلل ولا ملل، عن سبل تأصيل ثقافة التعايش، من زاوية مدى الارتباط بين الحكم المدني الذي يقوم على عدم تسييس الدين وبين قيام تعايش سليم معافى، وإمكانية تأسيس مشروع وطني يمهد لإعادة بناء دولة القانون المرتكزة على التعددية السياسية والثقافية واحترام حقوق الإنسان، وبذل جهد فائق في البحث عن سبل الاستفادة من إعادة قراءة تاريخ العلاقة بين الفئات والشرائح الاجتماعية المصرية، عبر فترات تاريخية، في فهم الواقع المركب والمعقد للعلاقة بينها، وإبراز القيم المشتركة والموحدة من خلال التنقيب في التراث الحضاري الشرقي، المفعم بعبر لا يمحوها الزمن عن آفات الشقاق، ومآثر التوحد القومي بين سكان الدولبة الواحدة.
ولا يجب أن يقف جهد هذه النخبة عند حد الإسهاب في وضع نظريات مجردة حول مفهوم التعايش ومظاهره وأساليبه ومخاطر غيابه أو حتى ضعفه. ومن الضروري أن تعكف النخبة على تحديد آليات التوفيق بين المطالب المتبادلة لعنصري الأمة المصرية، عبر تفعيل الحوار، وإعلاء قيم التسامح ليس باعتبارها شعارا تلوكه الألسنة ، لكن بتحويلها إلى واقع معاش يحيا بين ظهرانينا، وإيجاد آلية لإزالة المخاوف والهواجس المتعلقة بما حدث من تجاوزات أو ظلم في السابق لأي فئة اجتماعية.
ويتم هذا من خلال تعميق فكرة المواطنة، وإعلاء قيمة الانتماء إلى الوطن الأم، والاعتراف بالخصوصية الثقافية للآخر، واعتبارها جزءا لا يتجزأ من ثقافة المجتمع العامة.
ومن الضروري أن تتلافي السلطات المصرية كل العناصر التي تهدد فكرة التعايش، ومنها إنهاء التمييز على أساس الدين أو اللغة أو العرق أو اللون، أو أي شيء آخر، في الوظائف العامة، وفي تحصيل الفرص السياسية والاقتصادية، والوقوف بشجاعة وصبر لا يلين في وجه أي ثقافات وتأويلات دينية مغلوطة تؤدي إلى ظهور تطرف ديني متبادل يعمق الخلافات ويقوض الروابط، ويفتح الباب أمام التأثيرات السلبية والممقوتة التي تتركها مسألة الاستقواء بالخارج للحصول على مكاسب داخلية معينة، تقود في خاتمة المطاف إلى شق صف "الجماعة الوطنية" وتآكل قدرة الدولة المصرية على التكامل والتماسك.
وهناك أمور رئيسة لا بد من توافرها قبل أن نسعى في بناء شروط للتعايش، أو نطبق ما تعارف عليه الناس من شروط، إما بحكم التجربة، أو بفعل إعمال العقل.
أول هذه الأمور هو الفصل بين "الجماعة السياسية" و"الجماعة الدينية". وهذا شرط أساسي لتحقق "المواطنة" في مجتمع ما، ومن ثم ترسيخ جذر أساسي للتعايش. فالمصريون يجب أن يكونوا "جماعة سياسية" واحدة و"جماعتين دينيتين"، مسلمة ومسيحية. وهذا معناه أن تكون الحقوق والواجبات متساوية في كل ما ترتبه السياسة، بمختلف درجاتها، والشراكة متساوية في "الغنم" و"الغرم".
أما بالنسبة للدين، فيتم التعامل معه على أساس القاعدة الذهبية التي تقول "الدين للديان". وتنشأ العلاقة بين طرفي هذا المعادل على أساس المبدأ الذي استلهمته ثورة 1919 حين رفعت شعار "الدين لله والوطن للجميع"، وثورة 25 يناير 2011 ، التي رفعت شعار أثيرا مفاده: "مسلم ومسيحي يد واحدة".
والأمر الثاني هو الخروج من سجن التاريخ، فالسجال الدائر بين المسلمين والمسيحيين في مصر يجب ألا يحيل كثيرا إلى التاريخ، ويركز، بدلا من ذلك، على الحاضر المعيش.
وهذا المنحى يرفع المسؤولية عمن يعيشون الآن وهنا، عما جرى في القرون الغابرة، فلا يطيل المسيحيون في الحديث عن اضطهاد لحق بهم بعد دخول الإسلام مصر، ولا يفتش المسلمون عما ارتكبته الكنيسة في حق "الوثنية" المصرية بعد دخول المسيحية مصر، ويتيهون على المسيحيين بإنقاذهم من ظلم الرومان واضطهادهم الشديد.
ورغم أن التاريخ ملئ بالمواقف المشرقة والمشرفة للطرفين، فإن الاكتفاء بها لا يفيد في الوقت الحاضر. وعلى النقيض يؤدي استدعاء المواقف المشينة من ذمة التاريخ إلى تأجيج الوضع الراهن.
ويرتبط العامل الثالث بالاعتراف المتبادل بالمتجاو، وهذ يعني أن يقوم المسلمون بالاعتراف أن بينهم متطرفين في تصوراتهم واعتقاداتهم ، ينظرون إلى المسيحيين على أنهم "كفار" ويسعون إلى معالجة هذه المغالاة ، وهذا القصور في الفهم. وعلى الجانب الآخر، يعترف المسيحيون أن بينهم متطرفين ينظرون إلى المسلمين على أنهم "هراطقة".
وهذا الاعتراف لا ينتظم أبدا في محاولة من كل طرف لإثناء الآخر عن معتقده، بل يجب أن يكون بداية للبحث عن "التعايش الإيماني"، وتعزيز المشترك الأخلاقي الذي يزخر به الإسلام والمسيحية، وتصحيح التصورات الخاطئة والمغلوطة عند فصيل من الحركة الإسلامية المسيسة التي لا تزال تتعامل مع المسيحيين على أنهم "ذميون"، وعند قطاع من المسيحيين ينظر إلى المسلمين على أنهم "غزاة".
فلا معاملة أهل الذمة تصلح لنظام اليوم ولا المسلمون المتواجدون في مصر حاليا قدموا جميعا من جزيرة العرب، بل أغلبهم مصريون تحولوا من المسيحية إلى الإسلام، وبالتالي ففيهم من "القبطية" ما في إخوانهم من المسيحيين.
ويتمثل الأمر الرابع في الفصل بين النص والممارسة، فالنصان القرآني والإنجيلي يحملان من القيم ما يكفي حال التمسك بها لبناء تعايش مشترك واحترام متبادل بين المسلمين والمسيحيين، ولا يجب أن يتحملا ما يفعله الطرفان ببعضهما، فهذا من قبيل السلوك البشري الذي يعد انحرافا عن مقاصد الأديان وغاياتها. وبالتالي فإن الحاجة تصبح ماسة وملحة للرد على التأويلات الخاطئة للنصوص
ويتعلق الأمر الخامس بالمسار المدني ، وهو التصور الذي يقوم على أساس قاعدة أن "فصل الدين عن السلطة ضرورة، وفصله عن الحياة جريمة". وهذا معناه ألا تحاول الكنيسة لعب دور سياسي، فهذا خارج اختصاصها وفوق طاقتها، ولا تستمر "الجماعات والتنظيمات الإسلامية" في "تسييس الدين".
والبديل لهذا هو "تديين السياسة" أي منحها إطارا أخلاقيا، نحن بأشد الحاجة إليه لمواجهة الفساد والاستبداد. وهذه مسألة يجب أن تسن لها قوانين وتشرع لها شرائع وضعية.
ويتطلب هذا تغيير السياق العام، فكثير من المثقفين وأعضاء النخبة السياسية والاجتماعية من المسلمين والمسيحيين، على حد سواء، يرون أن حل مشاكل مسيحيي مصر، لن يتم، على الوجه الأكمل، إلا في إطار إصلاح سياسي شامل، تستقر فيه قواعد دولة مدنية ديمقراطية، تقوم على مبدأ "المواطنة" وتداول السلطة، وتفتح الباب أمام حرية التعبير.
ومن شروط تغيير السياق العام إطلاق حرية تشكيل الأحزاب السياسية، وحقها في العمل بين الجماهير، وتعبئتهم خلف برامجها "السياسية"، بدلا من تركهم يعودون إلى انتماءاتهم الأولية، ومنها الدين والعشائرية والوضع الجغرافي، لاستخدامها في المجال السياسي.
وهناك مسألة ضرورية في هذا الشأن تتمثل في الامتثال لحل المشكلات على أرضية وطنية، فأي مشكلة للتعايش بين المسلمين والمسيحيين في مصر يجب أن تحل على أرضية وطنية، وبأجندة مصرية، ويشارك فيها مصريون.
فالاستقواء بالخارج، أو حرث الأرض أمام تدخل أجنبي، سيقود إلى نتائج غاية في الخطورة، سيتأثر بها المسيحيون المصريون قبل المسلمين. فلا الأجنبي بوسعه أن يحمي أحدا، ولنا في تجربة مسيحيي العراق بعد احتلاله عبرة وعظة، ولا الخارج من الممكن أن يضحي بمصالحه من أجل أحد، ومن يعتقد في غير ذلك وأهم.
وهناك أكثر من أداة يمكن استخدامها في تعزيز التعايش بين المصريين جميعا، أولها التعليم وذلك بتضمين المناهج التعليمية ما يحض على التعايش، ويحرص عليه، وتنقيتها مما قد يقود إلى كراهية طرف لآخر. فإذا كانت التعليم في مصر يتم على ركائز ثلاث هي "تعلم لتعرف" و"تعلم لتعمل" و"تعلم لتكون" فيجب أن نعزز من تواجد الركيزة الرابعة وهي "تعلم لتتعايش".
والأداة الثانية تتمثل في الإعلام: وهو وسيلة مهمة، لو استخدمت على الوجه الأكمل، ومن دون انفعال ولا افتعال، فإن بوسعها أن تقلل من أي احتقانات، وترسخ في عقول الناس ونفوسهم قيم التسامح والاعتراف بالآخر واحترامه.
أما الأداة الثالثة المنتج الثقافي، الذي يجب أن يحوي كل ثقافة الأمة المصرية، عبر التاريخ، في جميع الأنواع الأدبية والفنون بمختلف ألوانها.
وترتبط الأداة الرابعة بمنظومة القوانين، أي وجود حزمة من التشريعات التي تقنن التعايش، وتحدد مرجعية عامة له، يلتزم بها الجميع.
والأداة الخامسة تتجسد في المشروعات القومية، التي يجب أن تستوعب جميع المصريين، من دون تفرقة، وتوجه طاقاتهم إلى عمل وطني مفيد، بدلا من الفراغ الذي يزيد الشقة بين الناس، ويرفع درجة الطاقة الغضبية لديهم.
والأداة السادسة هي الجهاز البيروقراطي، الذي إن وجدت معايير سليمة للتعيين والترقي فيه، رفع الظلم عن كثيرين سواء من المسيحيين أو حتى من فقراء المسلمين ومهمشيهم، وزال سبب مهم لاحتقان مسيحيي مصر.
وتتمثل الأداة السابعة في المجتمع الأهلي، والذي يمكنه حال وجود جمعيات خيرية دينية مشتركة بين المسلمين والمسيحيين أن يزيد من أواصر التعايش بين الجانبين.
وتتجسد الأداة الثامنة في علماء الدين من الجانبين، والذين بوسعهم، إن خلصت النوايا وصح الفهم، أن يحضوا المصريين على التعايش، ويبينوا لهم ضروراته، وأصوله في الشرائع السماوية ذاتها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.