البابا تواضروس يترأس القداس من كنيسة العذراء بمناسبة يوبيلها الذهبي    ارتفاع سعر الذهب اليوم في مصر ببداية تعاملات السبت 24-5-2025    ارتفاع أسعار الدواجن في الأسواق اليوم 24-5-2025 (موقع رسمي)    أول رد من "ترانس جاس" بشأن حدوث تسرب غاز بكفر الشيخ    وزير الزراعة يبحث مع محافظ الوادي الجديد دعم مزارعي المحافظة وتعزيز المشروعات الإنتاجية    وزير الري يلتقي عددا من أعضاء مجلسي النواب والشيوخ لمناقشة طلبات المواطنين    وزيرة البيئة ونظيرتها الفرنسية تناقشان تعزيز ملف مواجهة التلوث البلاستيكي    عاجل- رئيس الوزراء يشارك في احتفالية مرور 123 عامًا على تأسيس مرفق الإسعاف المصري    ضربات روسية غير مسبوقة على كييف: 14 صاروخًا باليستيًا و250 مسيّرة تُشعل سماء العاصم    الاتحاد الأوروبي مستعد للتوصل لاتفاق تجاري مع واشنطن يستند إلى الاحترام لا على التهديدات    الصين تؤكد دعمها لطلابها في الخارج وتحذر من الإجراءات الأمريكية ضد هارفارد    تشكيل بيراميدز المتوقع لمواجهة صن داونز في نهائي دوري أبطال أفريقيا    موسم تاريخي ل"رجال يد الأهلي" بعد التتويج ب6 بطولات والابطال يتحدثون    13 لاعبا ولاعبة يتأهلون لربع نهائي بطولة بالم هيلز المفتوحة للإسكواش    السيطرة على حريق بحوشين فى مركز طما شمال سوهاج دون إصابات    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 24-5-2025 في محافظة قنا    محافظ أسيوط يتفقد قافلة طبية مجانية ومعرضًا فنيًا لطلاب الفنون التطبيقية بجامعة بدر    توافد طلاب الإعدادي بسوهاج على اللجان لأداء امتحاني الدراسات الاجتماعية و الرياضيات "فيديو"    نتيجة الصف الثاني الابتدائي بالجيزة 2025.. رابط مباشر وخطوات الاستعلام ومواعيد الامتحانات    السكة الحديد: تأخر القطارات على بعض الخطوط لإجراء أعمال تطوير في إطار المشروعات القومية    مواعيد مباريات اليوم السبت في الدوري الإيطالي والقنوات الناقلة    ضبط عاطل بتهمة الاعتداء على طفل جنسيا في الحوامدية    اليوم.. أولى جلسات محاكمة 6 متهمين فى واقعة انفجار خط غاز الواحات    تامر حسني يدعم كزبرة بعد أول حفل يجمعهما: «كمل يا وحش.. أخوك في ضهرك»    الاَن رابط نتيجة الصف الثاني الابتدائي بالقاهرة 2025.. استعلم عنها فور ظهورها رسمياً    اليوم.. محاكمة متهمين ب«داعش العمرانية»    أغرب حكايات اضطراب النوم من داخل معمل «السلطان»    122 ألفا و572 طالبا بالصف الثاني الإعدادي بالدقهلية يؤدون امتحاني اللغة الأجنبية والهندسة    أخصائية اجتماعية تكشف أسباب ظهور سلوكيات عصبية الأطفال    د. هشام عبدالحكم يكتب: خد وهات.. لتبسيط المفاهيم الصحية    ميلاد جديد ل«تاريخ لا يغيب».. العالم يترقب «سيمفونية الخلود» على أرض الأهرامات    هزة أرضية بقوة 3 ريختر تضرب جزيرة كريت في اليونان    «مش شبه الأهلي».. رئيس وادي دجلة يكشف رأيه في إمام عاشور    تعاون شبابي عربي لتعزيز الديمقراطية برعاية "المصري الديمقراطي"    نبيلة مكرم عن أزمة ابنها: قررت اتشعبط في ربنا.. وابتلاء رامي كشف لي أنا جيت الدنيا ليه    نجاح مركز طب وجراحة العيون بكفر الشيخ في إجراء جراحة دقيقة لزراعة طبقية قرنية    جدول مواعيد مباريات اليوم والقنوات الناقلة    نشرة التوك شو| الاتحاد الأوروبي يدعم مصر ماليا بسبب اللاجئين.. والضرائب تفتح "صفحة جديدة" مع الممولين    هل يجوز الحج عن الوالد المتوفي.. دار الإفتاء توضح    خبيرة أسرية: البيت بلا حب يشبه "بيت مظلم" بلا روح    طائرات الاحتلال الإسرائيلي تستهدف خيمة تؤوي نازحين في منطقة الصفطاوي بمدينة غزة    صلاح سليمان: مباراة بتروجت مهمة للزمالك لاستعادة الانتصارات قبل نهائى الكأس    بالأسماء.. «تعليم الإسكندرية» تعلن قائمة المقبولين بمسابقة ال30 ألف معلم    صور عودة 71 مصريا من ليبيا تنفيذا لتوجيهات الرئيس عبد الفتاح السيسي    ترامب والشرق الأوسط.. خطط مخفية أم وعود حقيقية؟!    عمرو أديب: الناس بتقول فيه حاجة مهمة هتحصل في البلد اليومين الجايين (فيديو)    بعد وفاة زوجها.. كارول سماحة لابنتها: هكون ليكي الأمان والسند والحضن لآخر لحظة من عمري    "الثقافة" تصدر "قراءات في النقد الأدبي" للدكتور جابر عصفور    باختصار.. أهم الأخبار العالمية والعربية حتى منتصف الليل.. جوتيريش يرفض أى خطة لا تحترم القانون الدولى بشأن قطاع غزة.. ترامب يتوعد "أبل" ب25% رسوم جمركية.. وإصابة 12 فى هجوم بسكين بمحطة قطارات هامبورج بألمانيا    قبول 648 مدرسًا جديدًا ببني سويف ضمن مسابقة 30 ألف معلم    الأرصاد الجوية: طقس الغد شديد الحرارة نهارا والعظمى بالقاهرة 37 درجة    مصر تعيد 71 مواطنا مصريًا من ليبيا    وفاة 3 شباب إثر حادث سير أليم بكفر الشيخ    القيعي: الأهلي لم يحضر فقط في القمة.. وقرارات المسابقة «توصيات»    نصائح لتجنب الارتجاع المريئي، و7 أطعمة تساعد على تخفيف أعراضه    وفقا للحسابات الفلكية.. موعد وقفة عرفات وأول أيام عيد الأضحى 2025    ما حكم الكلام فى الهاتف المحمول أثناء الطواف؟.. شوقى علام يجيب    هل يحرم على المُضحّي قصّ شعره وأظافره في العشر الأوائل؟.. أمين الفتوى يوضح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الجغرافيا والموروث الثقافي والمصالح.. عوامل تجعل الوحدة الوطنية قدرًا محتومًا فى مصر
نشر في بوابة الأهرام يوم 15 - 06 - 2011

تبدو "الوحدة الوطنية" في مصر قدرًا محتومًا رغم الحوادث الطائفية التي شهدتها مؤخرًا، والتي تفجرت بفعل "الاحتقان" الذي أصاب المجتمع طيلة أربعين عامًا امتدت منذ عام 1971 حتى قيام ثورة 25 يناير، التي من المؤمل أن تفتح بابًا واسعًا أمام المسلمين والمسيحيين في مصر نحو الانتقال من التعايش إلى الانصهار الوطني تحت راية دولة ديمقراطية عادلة.
وهناك ستة عوامل تغذي رسوخ "الوحدة الوطنية" أولها التجانس العرقي، إذ إن المصريين من أشد شعوب العالم تجانسًا في الصفات العرقية والمقاسات الجسمية، ومن أكثرهم تشابها في السحنة والملامح.
ويمتد هذا التجانس من الجوانب البيولوجية إلى النفسية ليعزز التقارب النوعي بين المصريين كافة، ويعبر الأنبا شنودة بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية نفسه عن هذا الوضع بجلاء حين يقول: "وحدة مصر والمصريين من أسرار هذا البلد الخالد... هل هي الجغرافيا؟ هل هو الإنسان؟! ... كم أصابنا من البلايا على مدى التاريخ، ولكن وحدتنا بقيت تقاوم الزمن. فلا خوف على مصر، ولا تشابه بينها وبين غيرها. ولم تنجح القوى الأجنبية قط في التفرقة بين المصريين، فمصر تحمي وحدتها، لأنها وحدة محصنة ضد مصائب الجهل والفقر والتخلف والمخططات الأجنبية".
والعامل الثاني هو "هبة الجغرافيا"، فالمسيحيون ينتشرون في كل قرى ومدن مصر تقريبا، ولا يقطنون منطقة جغرافية محددة، كما هو الحال بالنسبة للأكراد في كل من العراق وسوريا وتركيا وإيران. وهذا الأمر يجعل علاقات الوجه للوجه قائمة يوميا بين مسلمي مصر ومسيحييها، ويزيد من تشابك المصالح المتبادلة، ولا يجعل فكرة الانفصال قائمة أبدا، أو لها أي معنى، ومن ثم استقر في وعي الجماعة الوطنية برمتها أنه لا مناص من العيش المشترك، ونشأت حاجة ماسة إلى تحسين مستوى هذا العيش.
كما أن الجغرافيا أتاحت فرصة كبيرة للدولة المركزية في السيطرة على الشعب، منذ فجر التاريخ. فالمصريون يعيشون في واد ضيق منبسط، يسهل ضبطه من الناحية الأمنية، ومن يتمرد على الوادي ويخرج إلى الصحراء يعرض نفسه لهلاك محقق.
وهذا الأمر جعل بوسع النظم المتعاقبة على حكم مصر أن تخمد أي محاولة للفتنة في مهدها، وبات مستقرا في وعي الناس أن السلطة متواجدة دوما، ويتصرفون في علاقاتهم اليومية على هذا الأساس.
أما العامل الثالث فيتمثل في "التشرب الحضاري" حيث إن مصر الحاضرة تتشرب كل طبقات الثقافات التي تراكمت عليها، هاضمة ما أتاها من الخارج، محتفظة في الوقت نفسه بكثير من أصالتها الأولى، لتبدو كما يقول الفرنسي إدوارد لين وثيقة من جلد رقيق، الإنجيل فيها مكتوب فوق هيرودت، وفوقهما القرآن، وتحت الجميع لا تزال الكتابة القديمة تقرأ بوضوح وجلاء.
وإذا كانت مصر الراهنة عربية الهوية والحضارة، فإن كثيرًا من المثقفين المسيحيين ينظرون إلى أنفسهم على أنهم "مسيحيون دينيا، لكنهم مسلمون ثقافة وحضارة"، وزاد من هذا التصور أن كثيرا من منظري "القومية العربية" الأوائل كانوا من المسيحيين، وهم إن انتقدوا "الخلافة الإسلامية" كنظام سياسي، فإنهم لم يستطيعوا أن يتجاوزا الإسلام كدين وحضارة لتلك البقعة الجغرافية من العالم.
والعامل الرابع يتعلق بوحدة الموروث الشعبي، فالفلكلور المصري واحد، لا يفرق بين مسلم ومسيحي. فعادات الأفراح والأحزان متشابهة، وطقوس الموالد واحدة، والجميع يتفاعلون مع الأساطير الشعبية بالدرجة نفسها.
ويتجلى العامل الخامس في علاقات السوق، حيث إن المصالح التجارية الحياتية بين المسلمين والمِسيحيين في مصر تفرض على الجانبين تعايشا مستمرا.، فالأفراد في خاتمة المطاف ينحازون إلى مصالحهم الشخصية، وقد يبتعدون عن الهموم العامة إن وجدوها تؤثر سلبا على أرزاقهم، أو على الأقل يفصلون بين واجباتهم حيال المشكلة الكبرى ومقتضيات مصالحهم الفردية.
وفي القرون الفائتة استعان حكام مصر بمسيحيين في الإدارة والتجارة والري، نظرا لخبرتهم في هذه النواحي، وتماهي هؤلاء في نظام الدولة ودافعوا عنه. وفي الوقت الحالي يستعين المسلمون بأهل الحرفة من المسيحيين، ويسعى المسيحيون من أصحاب التجارة إلى كسب ود المسلمين لأغلبيتهم العددية، التي تجعلهم القوة الشرائية الأساسية في البلاد.
ويعتبر العامل السادس المتمثل في الخوف من عواقب الفتنة ذا أهمية كبيرة في منع انجراف الاحتقان الطائفي أو الحوادث العنيفة التي تتم بين حين وآخر على خلفيات طائفية إلى عنف مفرط أو حرب أهلية. فالخوف يشكل كابحا للطرفين من أن يتماديا في تصعيد أي خلاف طارئ ينشب بينهما، لأن استشراء الفتنة، يعني إزهاق أرواح وتدمير ممتلكات، لا أحد بوسعه أن يعرف حجمها
وتشكل هذه العوامل الستة أرضية قوية للتعايش المشترك والانصهار الوطني يستند التعايش ، الذي بدوره يستند ، في أي مكان وزمان ، على عدد من الشروط ، التي يجب توافرها من أجل تمتين الروابط بين الفئات الاجتماعية لأي دولة تموج بحال من التعددية ثقافية كانت أم لغوية أو دينية أو عرقية.
ومن بين هذه الشروط أن يكون الحوار متكافئا بين الأطراف المتشاركة في حياة واحدة، سواء كانوا أفرادا أو جماعات، وأن يعلو التحاور والتفاهم فوق أي عصبيات أو أفكار مسبقة عن الباقين، كما يجب الاستعداد للتعامل بتسامح مع الآخر وقبول الآراء المضادة، وعدم النظر إلى هذا التسامح على أنه علاقة بين طرفين أحدهما أقوى من الثاني، بل باعتباره ضرورة حياتية.
ومن المهم كذلك أن تكون هناك منظومة من القيم العادلة يتم الاحتكام لها في توزيع الثروة، وتحصيل المكانة الاجتماعية، والتساوي في الفرص السياسية المتاحة، أو المتوافرة، مهما كانت حدودها وحيويتها.
ومن شروط التعايش أيضا توافر شعور لدى الشعب المصري بمختلف شرائحه وطبقاته بأهمية فكرة التعايش الاجتماعي، وإدراك أنها باتت ضرورة للدولة المعاصرة، وتفهم فكرة الاختلافات الطبيعية بين البشر، من حيث اللغة والدين والعرق واللون والثقافة، وكيفية تطويعها بحيث لا تشكل عائقا أمام التعايش بين جماعات شتى، بل تحقق الحكمة الإلهية العظيمة في اختلاف الناس، من حيث الألوان والأجناس والأحجام واللغات واللهجات والمعتقدات ... الخ.
ولذا يناط بالنخبة المصرية، بمختلف ألوانها، أن تبحث، من دون كلل ولا ملل، عن سبل تأصيل ثقافة التعايش، من زاوية مدى الارتباط بين الحكم المدني الذي يقوم على عدم تسييس الدين وبين قيام تعايش سليم معافى، وإمكانية تأسيس مشروع وطني يمهد لإعادة بناء دولة القانون المرتكزة على التعددية السياسية والثقافية واحترام حقوق الإنسان، وبذل جهد فائق في البحث عن سبل الاستفادة من إعادة قراءة تاريخ العلاقة بين الفئات والشرائح الاجتماعية المصرية، عبر فترات تاريخية، في فهم الواقع المركب والمعقد للعلاقة بينها، وإبراز القيم المشتركة والموحدة من خلال التنقيب في التراث الحضاري الشرقي، المفعم بعبر لا يمحوها الزمن عن آفات الشقاق، ومآثر التوحد القومي بين سكان الدولبة الواحدة.
ولا يجب أن يقف جهد هذه النخبة عند حد الإسهاب في وضع نظريات مجردة حول مفهوم التعايش ومظاهره وأساليبه ومخاطر غيابه أو حتى ضعفه. ومن الضروري أن تعكف النخبة على تحديد آليات التوفيق بين المطالب المتبادلة لعنصري الأمة المصرية، عبر تفعيل الحوار، وإعلاء قيم التسامح ليس باعتبارها شعارا تلوكه الألسنة ، لكن بتحويلها إلى واقع معاش يحيا بين ظهرانينا، وإيجاد آلية لإزالة المخاوف والهواجس المتعلقة بما حدث من تجاوزات أو ظلم في السابق لأي فئة اجتماعية.
ويتم هذا من خلال تعميق فكرة المواطنة، وإعلاء قيمة الانتماء إلى الوطن الأم، والاعتراف بالخصوصية الثقافية للآخر، واعتبارها جزءا لا يتجزأ من ثقافة المجتمع العامة.
ومن الضروري أن تتلافي السلطات المصرية كل العناصر التي تهدد فكرة التعايش، ومنها إنهاء التمييز على أساس الدين أو اللغة أو العرق أو اللون، أو أي شيء آخر، في الوظائف العامة، وفي تحصيل الفرص السياسية والاقتصادية، والوقوف بشجاعة وصبر لا يلين في وجه أي ثقافات وتأويلات دينية مغلوطة تؤدي إلى ظهور تطرف ديني متبادل يعمق الخلافات ويقوض الروابط، ويفتح الباب أمام التأثيرات السلبية والممقوتة التي تتركها مسألة الاستقواء بالخارج للحصول على مكاسب داخلية معينة، تقود في خاتمة المطاف إلى شق صف "الجماعة الوطنية" وتآكل قدرة الدولة المصرية على التكامل والتماسك.
وهناك أمور رئيسة لا بد من توافرها قبل أن نسعى في بناء شروط للتعايش، أو نطبق ما تعارف عليه الناس من شروط، إما بحكم التجربة، أو بفعل إعمال العقل.
أول هذه الأمور هو الفصل بين "الجماعة السياسية" و"الجماعة الدينية". وهذا شرط أساسي لتحقق "المواطنة" في مجتمع ما، ومن ثم ترسيخ جذر أساسي للتعايش. فالمصريون يجب أن يكونوا "جماعة سياسية" واحدة و"جماعتين دينيتين"، مسلمة ومسيحية. وهذا معناه أن تكون الحقوق والواجبات متساوية في كل ما ترتبه السياسة، بمختلف درجاتها، والشراكة متساوية في "الغنم" و"الغرم".
أما بالنسبة للدين، فيتم التعامل معه على أساس القاعدة الذهبية التي تقول "الدين للديان". وتنشأ العلاقة بين طرفي هذا المعادل على أساس المبدأ الذي استلهمته ثورة 1919 حين رفعت شعار "الدين لله والوطن للجميع"، وثورة 25 يناير 2011 ، التي رفعت شعار أثيرا مفاده: "مسلم ومسيحي يد واحدة".
والأمر الثاني هو الخروج من سجن التاريخ، فالسجال الدائر بين المسلمين والمسيحيين في مصر يجب ألا يحيل كثيرا إلى التاريخ، ويركز، بدلا من ذلك، على الحاضر المعيش.
وهذا المنحى يرفع المسؤولية عمن يعيشون الآن وهنا، عما جرى في القرون الغابرة، فلا يطيل المسيحيون في الحديث عن اضطهاد لحق بهم بعد دخول الإسلام مصر، ولا يفتش المسلمون عما ارتكبته الكنيسة في حق "الوثنية" المصرية بعد دخول المسيحية مصر، ويتيهون على المسيحيين بإنقاذهم من ظلم الرومان واضطهادهم الشديد.
ورغم أن التاريخ ملئ بالمواقف المشرقة والمشرفة للطرفين، فإن الاكتفاء بها لا يفيد في الوقت الحاضر. وعلى النقيض يؤدي استدعاء المواقف المشينة من ذمة التاريخ إلى تأجيج الوضع الراهن.
ويرتبط العامل الثالث بالاعتراف المتبادل بالمتجاو، وهذ يعني أن يقوم المسلمون بالاعتراف أن بينهم متطرفين في تصوراتهم واعتقاداتهم ، ينظرون إلى المسيحيين على أنهم "كفار" ويسعون إلى معالجة هذه المغالاة ، وهذا القصور في الفهم. وعلى الجانب الآخر، يعترف المسيحيون أن بينهم متطرفين ينظرون إلى المسلمين على أنهم "هراطقة".
وهذا الاعتراف لا ينتظم أبدا في محاولة من كل طرف لإثناء الآخر عن معتقده، بل يجب أن يكون بداية للبحث عن "التعايش الإيماني"، وتعزيز المشترك الأخلاقي الذي يزخر به الإسلام والمسيحية، وتصحيح التصورات الخاطئة والمغلوطة عند فصيل من الحركة الإسلامية المسيسة التي لا تزال تتعامل مع المسيحيين على أنهم "ذميون"، وعند قطاع من المسيحيين ينظر إلى المسلمين على أنهم "غزاة".
فلا معاملة أهل الذمة تصلح لنظام اليوم ولا المسلمون المتواجدون في مصر حاليا قدموا جميعا من جزيرة العرب، بل أغلبهم مصريون تحولوا من المسيحية إلى الإسلام، وبالتالي ففيهم من "القبطية" ما في إخوانهم من المسيحيين.
ويتمثل الأمر الرابع في الفصل بين النص والممارسة، فالنصان القرآني والإنجيلي يحملان من القيم ما يكفي حال التمسك بها لبناء تعايش مشترك واحترام متبادل بين المسلمين والمسيحيين، ولا يجب أن يتحملا ما يفعله الطرفان ببعضهما، فهذا من قبيل السلوك البشري الذي يعد انحرافا عن مقاصد الأديان وغاياتها. وبالتالي فإن الحاجة تصبح ماسة وملحة للرد على التأويلات الخاطئة للنصوص
ويتعلق الأمر الخامس بالمسار المدني ، وهو التصور الذي يقوم على أساس قاعدة أن "فصل الدين عن السلطة ضرورة، وفصله عن الحياة جريمة". وهذا معناه ألا تحاول الكنيسة لعب دور سياسي، فهذا خارج اختصاصها وفوق طاقتها، ولا تستمر "الجماعات والتنظيمات الإسلامية" في "تسييس الدين".
والبديل لهذا هو "تديين السياسة" أي منحها إطارا أخلاقيا، نحن بأشد الحاجة إليه لمواجهة الفساد والاستبداد. وهذه مسألة يجب أن تسن لها قوانين وتشرع لها شرائع وضعية.
ويتطلب هذا تغيير السياق العام، فكثير من المثقفين وأعضاء النخبة السياسية والاجتماعية من المسلمين والمسيحيين، على حد سواء، يرون أن حل مشاكل مسيحيي مصر، لن يتم، على الوجه الأكمل، إلا في إطار إصلاح سياسي شامل، تستقر فيه قواعد دولة مدنية ديمقراطية، تقوم على مبدأ "المواطنة" وتداول السلطة، وتفتح الباب أمام حرية التعبير.
ومن شروط تغيير السياق العام إطلاق حرية تشكيل الأحزاب السياسية، وحقها في العمل بين الجماهير، وتعبئتهم خلف برامجها "السياسية"، بدلا من تركهم يعودون إلى انتماءاتهم الأولية، ومنها الدين والعشائرية والوضع الجغرافي، لاستخدامها في المجال السياسي.
وهناك مسألة ضرورية في هذا الشأن تتمثل في الامتثال لحل المشكلات على أرضية وطنية، فأي مشكلة للتعايش بين المسلمين والمسيحيين في مصر يجب أن تحل على أرضية وطنية، وبأجندة مصرية، ويشارك فيها مصريون.
فالاستقواء بالخارج، أو حرث الأرض أمام تدخل أجنبي، سيقود إلى نتائج غاية في الخطورة، سيتأثر بها المسيحيون المصريون قبل المسلمين. فلا الأجنبي بوسعه أن يحمي أحدا، ولنا في تجربة مسيحيي العراق بعد احتلاله عبرة وعظة، ولا الخارج من الممكن أن يضحي بمصالحه من أجل أحد، ومن يعتقد في غير ذلك وأهم.
وهناك أكثر من أداة يمكن استخدامها في تعزيز التعايش بين المصريين جميعا، أولها التعليم وذلك بتضمين المناهج التعليمية ما يحض على التعايش، ويحرص عليه، وتنقيتها مما قد يقود إلى كراهية طرف لآخر. فإذا كانت التعليم في مصر يتم على ركائز ثلاث هي "تعلم لتعرف" و"تعلم لتعمل" و"تعلم لتكون" فيجب أن نعزز من تواجد الركيزة الرابعة وهي "تعلم لتتعايش".
والأداة الثانية تتمثل في الإعلام: وهو وسيلة مهمة، لو استخدمت على الوجه الأكمل، ومن دون انفعال ولا افتعال، فإن بوسعها أن تقلل من أي احتقانات، وترسخ في عقول الناس ونفوسهم قيم التسامح والاعتراف بالآخر واحترامه.
أما الأداة الثالثة المنتج الثقافي، الذي يجب أن يحوي كل ثقافة الأمة المصرية، عبر التاريخ، في جميع الأنواع الأدبية والفنون بمختلف ألوانها.
وترتبط الأداة الرابعة بمنظومة القوانين، أي وجود حزمة من التشريعات التي تقنن التعايش، وتحدد مرجعية عامة له، يلتزم بها الجميع.
والأداة الخامسة تتجسد في المشروعات القومية، التي يجب أن تستوعب جميع المصريين، من دون تفرقة، وتوجه طاقاتهم إلى عمل وطني مفيد، بدلا من الفراغ الذي يزيد الشقة بين الناس، ويرفع درجة الطاقة الغضبية لديهم.
والأداة السادسة هي الجهاز البيروقراطي، الذي إن وجدت معايير سليمة للتعيين والترقي فيه، رفع الظلم عن كثيرين سواء من المسيحيين أو حتى من فقراء المسلمين ومهمشيهم، وزال سبب مهم لاحتقان مسيحيي مصر.
وتتمثل الأداة السابعة في المجتمع الأهلي، والذي يمكنه حال وجود جمعيات خيرية دينية مشتركة بين المسلمين والمسيحيين أن يزيد من أواصر التعايش بين الجانبين.
وتتجسد الأداة الثامنة في علماء الدين من الجانبين، والذين بوسعهم، إن خلصت النوايا وصح الفهم، أن يحضوا المصريين على التعايش، ويبينوا لهم ضروراته، وأصوله في الشرائع السماوية ذاتها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.