د. مجدي العفيفي ** وكان هذا الرجل هو المستحيل نفسه * ولا أزال في الطابق السادس ب «الأهرام» حمل السطر الأخير من المشهد رقم 27 من مشاهد الطابق السادس في الأهرام، استغاثة أنيس منصور إلى طبيبه بصوت مذبوح: (والله يا دكتور اعفني من حياتي كلها.. اعفني من مشكلاتي وعذابي.. إنني أحمل الكثير على كتفي.. أرحني يا دكتور.. هذه فرصة انتظرتها طويلًا.. اجعلني أنام هكذا يوًما أو شهرًا أو سنة.. أو اتركني أنام إلى الأبد..). لماذا؟ حكى لي أنيس منصور فكرة الموت طاردته بشكل غير مسبوق، أنه كان على موعد مع غروب الشمس في الإسكندرية.. وهو حريص على المواعيد.. والشمس لا تزال أجمل فتاة في عالمنا، على حد تعبيره، إنها حواء الأولى.. إنها مصدر حياة كل حواء وكل آدم.. وكل حواء في النبات والحيوان.. إنها أول كل شيء في عالمنا الصغير.. وانطلق من القاهرة على عجلات سرعتها مئة كيلومتر.. وبدأ السير بهمة وحماسة وأعراض ملل وأعراض خوف، ولكن حاول أن ينسى هذا كله والتفت إلى الطريق أمامه.. وإلى جواره جلس صديق هادئ لا يتحدث إلا قليلًا.. وفي المقعد الخلفي جلس صديقان.. أحدهما يدخن صامتًا والآخر ينام كطفل بلا هموم ولا متاعب.. وهكذا بدأت رحلتهم هادئة سريعة، يكمل أنيس منصور الرواية: فجأة قفزت إلى رأسي فكرة سخيفة.. فكرة مؤلمة.. الفكرة هي: أن قلبي «حاسس» أنني سأموت في هذا الطريق! وأخذت الفكرة تقوى وتقوى.. ولم يحدث لي هذا قط.. وقلت لعل رادار القلب قد أحس بشبح الموت وهو على بعد دقائق أو أميال مني.. هل أرجع؟ أرجع إلى أين؟ لا هرب من الموت! هل أعود بهؤلاء الأصدقاء الذين بدأوا يضحكون وكأنهم يعرفون ما يدور بخاطري! سألت أنيس منصور: ولماذا جاءت هذه الفكرة؟ ومن أين؟ قال لي إنه سأل نفسه هذا السؤال: هل أنا متعب، إنني فعلًا لم أنم ليلة أمس، هل أنا كاره لهذه الرحلة، فعلًا أنا أكره قيادة سيارتي مهما تكن المسافة، وكأني أقاوم هذا كله، بدأت أعتدل في جلستي وأتنفس بهدوء، حتى يبقى القلب نشيطًا يدق، ومددت يدي إلى الراديو ففتحته لأرفع روحي المعنوية، واعتدلت مرة أخرى في جلستي وقلت: إن هذا التفكير في الموت هو وحده الذي سيجعلني أموت، هو وحده الذي سيشغلني عن القيادة فأصطدم بأية سيارة، ولذلك يجب أن أطرد هذا التفكير، وكأنني أحسست أنني لم أحقق كل شيء في نفسي، قلت: عندما أصل إلى الإسكندرية سأنزل البحر، إنني لم أنزل بحرًا في حياتي، إن مياه كابري لم توقعني في غرامها ولا أمواج دوفيل ولا فتيات كان ونيس.. * ولا أزال في الطابق السادس ب «الأهرام». ويستمر التذكر في أجواء هذا المكان في الأهرام. وعلى الكورنيش أحس أنيس بشيء غريب، أن الهواء يفصل لي ملابس كلها من قماش مبلل، وأن الهواء كأي ترزي يستخدم الدبابيس لتظل الملابس على جسدي فهو يضع الدبابيس في كتفي وفي جنبي وفي ظهري وفي صدري، وظللت أنا أتكرمش وأتقلص حتى صغر حجمي، وتعبت من الطريق ومن الهواء، وذهبت إلى غرفتي لأستريح، لأستريح من الفكرة التي طاردتني، وعندما وضعت رأسي على «المخدة» تنبهت إلى أنني طردت فكرة الموت بالاستسلام له، أليس النوم موتًا صغيرًا؟! الموت ليس تجربة لو كان الإنسان يموت أكثر من مرة لأصبح الموت تجربة، هكذا كان يقول ثم يستمر: وأرى كل يوم هذه التجربة بصورة أخرى، ففي البيت الذي أسكنه، يعيش تحت السلم رجل عجوز لا يعرف أحد من أين جاء؟ ولا من كم سنة؟ ولا ماذا كان يعمل؟! ولا أعرف لماذا كلما رأيت هذا الرجل أتصور مدرسًا وقف في الفصل وفي يده كشف بأسماء الطلبة، وكلما نادي على اسم لم يسمع ردًّا، إن الفصل كله لم يحضر، ولكنه يسمع صوتًا، وهذا الصوت يدل على أن هناك شبحًا في الفصل.. وهذا الرجل يشبه هذا الفصل، فكل عضو من أعضائه غائب.. العين غابت، والأذن غير موجودة، والذراعان والساقان، كل شيء فيه غائب، كل ليلة أراه وأسمعه، وبين الحين والحين أسمعه يطلق أصواتًا غريبة.. أما طريقي إلى السلم فهو محفوف بالصفائح القديمة والأقفاص الفارغة، والرجل مشغول بأشياء غريبة. * ولا أزال في الطابق السادس ب «الأهرام». في بعض الأحيان يعود إلى البيت فيجد الباب الخارجي مربوطًا بالحبال، ويستعين بأحد العمال الواقفين أمام الباب ويمزق الحبال بالسكاكين، «وأدخل فأجد الرجل مشغولًا بتفريغ الصفائح، وليست الصفائح إلا ترًابا، وفي التراب ملاليم وقروش، وأحيانًا أجد الرجل وقد تمدد على السلم نصف نائم، ونصف ميت، ونصف إنسان.. إنه شيء بغير حياة، وتعودت أن أضع في جيبي علبة من الكبريت لكي أضيء طريقي؛ حتى لا أدوس عليه فأعجل بموته، وأتحول إلى قاتل في لحظات». كل ليلة أرى هذا الرجل، كل ليلة أرى رجلًا يموت، رجلًا قد تحول إلى تراب، إن هذا الرجل ميت فعلًا؛ لأن الموت ما معناه؟ الموت هو الحالة التي يصبح فيها كل شيء مستحيلًا، النظر مستحيل، والسمع مستحيل، والتنفس مستحيل، ثم لا يكون زمن، ولا يكون يوم ولا غد ولا أمس، وكلما ازدادت المستحيلات في حياة إنسان ازداد اقترابه من الموت، إنه لا يتكلم ولا يدري بأحد، إنه يدب على الأرض، ويدب في الحياة، إنه يطردني من الحاضر ويرميني في جحيم الماضي، إن هذا الرجل هو المستحيل نفسه، عاجز عن أي شيء.. إلا تعذيبي! أدعو الله أن يريح هذا الرجل؛ لكي أستريح! * ولا أزال في الطابق السادس ب «الأهرام». و..لأنيس منصور «مواقف» كثيرة ومثيرة من لحظات ما قبيل الموت... كنت أمد بصري إلى ال«الكوميدينو» بجوار سريره، لأجد مسودات كتبها بخط يده، عن بعض الذين أغاظهم الموت، وسخر منهم حتى النهاية، فقد أعطاهم الموت آخر فرصة ليقولوا كلمة واحدة.. فكانت كلمتهم مريرة، أحسوا أنهم خدعوا، وفوجئوا بأنهم انتهوا، وانكشفوا فقد توهموا أنهم لن يموتوا، وانكشف الموت الذي خدعهم بما في الحياة من جمال ودلال، حتى أنساهم أن للحياة نهاية. ومع هذا المشهد سنفتت لحظات ما قبيل الموت... إن أمهلني الموت.. وسلام قولًا من رب رحيم.