د. مجدي العفيفي @ موقفان مع نجيب محفوظ وأنيس منصور * ولا أزال في الطابق السادس ب «الأهرام». كثيرون طلبوا - مشكورين - الاستفاضة في «ملف الاستقالة المستحيلة» في هذه السلسلة المستوحاة من وقفتي الطويلة للذكر والتذكير بلحظات مع عمالقتنا المفكرين في الطابق السادس بالأهرام، وهم عمالقة حقًا وصدقًا وفعلًا وقولًا ويقينًا غير مراوغ.. ولننظر حوالينا بعد رحيلهم الشخصي، ولابد أن نتساءل في حسرة حقيقية: ما هذا الفراغ الرهيب الذي لم يستطع أن يملأه أحد؟ لا أقول الاستنساخ.. فالاستنساخ في مثل هذه المواقف مستحيل، وفي مثل هذه الأمور مرفوض، فلكل مبدع بصمته العقلية، ولكل كاتب بصمته الأسلوبية، وكل حاملي المصابيح التنويرية، ومنابر الفكر الحر، وأصحاب الأقلام بعذاباتها وعذوبتها هم - كما أقول وأكرر منذ عشرات السنين -: (إنهم أولياء القلم الصالحون والمصلحون). بالتأكيد.. فراغات لا تزال هائلة. وأماكن لا تزال شاغرة.. وجماهير قراء لا يزال معظمهم ينتظرون شروقًا بعد غروب، وسطوعًا بعد أفول.. حتى وإن صح العزم ممن أدركتهم حرفة الكتاب لكن يبدو أن الدهر أبى، ولا يأبى، وهذه ظاهرة تستدعي النظر وتحتاج التعمق فيها. * ولا أزال في الطابق السادس ب «الأهرام». وعطفًا على قضية الاستقالة المستحيلة.. نتناول ورقيتن من أوراق اثنين من كبار مفكرينا ومبدعينا: نجيب محفوظ وأنيس منصور، بعد أن طرحنا آنفًا (رؤية استقالية) لأساتذتنا (توفيق الحكيم.. وقد شبه نفسه بشجرة الموز التي تطرح حتى تحاط بأشجار وليدة من حولها، وعندما تنضج هذه الأشجار تتوقف الشجرة الكبيرة عن الطرح).. ويحيى حقي: نضبت فنيا نظرًا لظروفي الصحية.. ولم يعد لدي ما أضيفه»، ثم (د. زكي نجيب محمود: كنت عند المقالة الأولى سنة 1928 ذا عينين وأذنين، وبات ما يربطني بالعالم من حولي خيوط متقطعة من الضوء، وأسلاك متهتكة من الصوت، وكان تبريره الثاني أن حياتنا الثقافية قد انهارت، ويرجع ذلك إلى أن الشعار الذي يدعو بذل الجهد الأقل للحصول على العائد الأكبر).. ثم يوسف إدريس.. (يموت الزمار وأصابعه تلعب..) * ولا أزال في الطابق السادس ب «الأهرام». واليوم نصغي إلى صوت نجيب محفوظ: «المبدع له عمر يتوقف عندما تنضب قواه الإبداعية، والقوة الإبداعية لها عمر محدد، قد تنتهي في وقت مبكر، وقد تبقى حتى آخر العمر، ولكنه يتوقف حتمًا إذا استهلكت.. هناك من يفتقر إلى الإبداع ويبقى يكتب لمجرد الاستمرار، وهناك من يشعر بالخوف والمرارة وينطوي ويذبل، وقلة تبقى نضارتها حاضرة، الكتّاب لا يتقاعدون إلا قسرًا. ملحوظة : المفارقة أن نجيب محفوظ اعتزل ذات يوم، قبل حوالي الخمسين سنة، قال لي - رحمه الله - إنه كتب ثلاثيته الشهيرة (بين القصرين.. قصر الشوق.. السكرية) في 1500 صفحة ثم قرر اعتزال الكتابة يأسًا فقد وضعها في الأدراج عشر سنوات، حتى جاءه سعيد جودة السحار ليطبعها في دار مصر عام 1955، وإذا بالسينما تطلقها في فضاء الإبداع وتحقق شهرة ليس كمثلها شهرة بل تصبح من كلاسيكيات السينما، وكان محفوظ يعتقد أيضًا «أنه كتب كل ما عنده، واستمر هذا الاعتزال مدة سبع سنوات قضاها في القراءة والتأمل والتفكير، حتى جاءت هذه الانطلاقة الروائية الكبيرة وبعدها «ثرثرة فوق النيل» و«الحرافيش» و«ميرامار» و«أولاد حارتنا» وغيرها.. وظل يكتب حتى أيامه الأخيرة، وبرهن نجيب محفوظ أن الكاتب يعيش ليكتب.. يعيش ليحكي.. يعيش ليقص». * ولا أزال في الطابق السادس ب «الأهرام». وعبارة «كتب كل ما عنده» اقتبستها وأنا أسأل أستاذي أنيس منصور، قبل رحيله عام 2011 وكنت أراجع معه في شهوره الأخيرة مذكراته «أعجبني هؤلاء»: هل قلت كل ما تريده؟ أجاب: عندي إحساس دائم بأنني لم أقل بالضبط ما أريد، ولكنني أحاول ثم أكرر المحاولة وتتكرر المعاني؛ ولذلك أستخدم في التوضيح كأنما ولعل، أي كأن المعنى كذا وكذا، وأشعر بأنني لم أقل بما فيه الكفاية، فأعود وأنا أعود إلى الكثير من المعاني، فبعض فصول كتبي قد تحولت بعد ذلك إلى كتب، أي أنني أوجزت المعنى في صفحات قليلة ثم عدت إليها بمعلومات ورؤى أكثر وأعمق، بل لاحظت أيضًا أنني لا أجد حرجًا في تكرار عناوين كتبي، وقد يبدو ذلك غريبًا عند القارئ، ولكن لا أجد ذلك إلا دليلًا واضحًا على أن المعاني لا تزال في مكانها من عقلي تحتاج إلى أن أعود إليها، فعندي إحساس بأنني سوف أعود مرة أخرى، وأنني لم أصل إلى نهاية أي طريق، وأنني دائمًا في مفترق الطرق، وكل خطوة هي عندي مفترق الطريق، وأنني أخذت الاتجاه إلى الأمام، ولكن لا بد أن أعود وأختار المعنى الآخر، أنظر إلى الأمام، أو أنظر إلى الخلف، أقاوم الملل، أقاوم التدفق، أي التيار المندفع من داخلي، لا أعرف كيف أوقفه أو أتوقف». وفي منظوره أن أصحاب الرسالات الكبرى لا بد أن يعتزلوا الناس ليروا الدنيا من بعيد، فالعزلة ضرورية لكل صاحب مذهب في العالم والفن، وأن المفكرين يشبهون النحل الذي لا يعرف من دنياه إلا الهبوط على الأزهار والعكوف على بناء الخلية، فقواهم من أجل الآخرين، فهم طراز نادر من الرجال، وجميع المبدعين غردوا خارج السرب، لا بد من التمرد على سياسة القطيع. وإذا نظرت حولي إلى كل المفكرين العرب، وأكثرهم من الأدباء والشعراء في الخمسين عامًا الماضية.. فماذا أجد؟ أكثرهم رومانسيون.. شعراء.. خطباء.. فمؤلفو الروايات اختفوا وراء ما فيها من رمزية.. وتواروا وراء أبطالها يغمزون ويلمزون، فإن سألتهم: ما هذا؟ قالوا: إنهم أبطالنا ولهم حياتهم المستقلة. ولا أزال في الطابق السادس ب «الأهرام». ولأنيس منصور - في هذا السياق - أكثر من ومضة لا تزال تضيء ولا تزال تبهر.... لا سيما طائر الشوك يسمع نفسه وهو يغرد معتقدًا أن هذا يقربه للموت، كأنه أحس أنه بلغ درجة الكمال، وليس بعد ذلك إلا الموت..