يبدأ الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن، عهده بالبيت الأبيض محاطًا بتلال من المخاوف والآمال، ومساحات التوجس والخوف أكبر بكثير من الرجاء والأمل، لأنه سيقع على عاتقه تنفيذ مهمة شاقة وعاجلة، وهي لململة الجبهة الداخلية المنقسمة بشدة وحدة، جراء تصرفات وسياسات سابقه دونالد ترامب، وكان ختامها المشهد المخزي والمفزع لأنصاره وهم يقتحمون الكونجرس ويعيثون فيه تخريبًا وتشويهًا. تشوهات الداخل الأمريكي ليست بسيطة ولا هينة، وتزداد مخاطرها مع احتمالات متصاعدة بألا يقف مؤيدو ترامب صامتين ليفسحوا المجال لبايدن لأداء مهامه واتخاذ قرارات مصيرية لا سبيل للتهرب منها ولا تأجيلها في هدوء وسكينة، وأن تمثل ضرباتهم المقبلة مزيدًا من التعدي على النموذج الديمقراطي الذي كانت الولاياتالمتحدة تفتخر وتزهو به، وتقدمه لبقية شعوب العالم على أنه أفضل ما يمكنها تصديره إليهم وعليه علامتها الأثيرة وخاتم الجودة "صنع في أمريكا". بايدن وفريقه الرئاسي يدركون قبل غيرهم أنهم سيواجهون خلال السنوات الأربع القادمة حقول ألغام، وظروفًا قاسية حتمتها ما عاصرته البلاد من تعرجات ومنحنيات صعبة بأعوام حكم ترامب. في ضوء هذا التشخيص المعلوم سلفًا، يمكننا التساؤل: أين سيكون موقع وأولوية الملفات الخارجية على أجندة إدارة بايدن العجوز؟ ما سيتعين علينا التأكد منه والثقة فيه أن القضايا الخارجية ستزاحمها تعقيدات وحوادث الداخل، وأنها لن تتصدر الأولويات، وأغلب الظن أن الاستثناء من القاعدة سيرتبط بالأزمة النووية الإيرانية، نظرًا لإلحاح الحليف الإسرائيلي على التشدد مع طهران وطموحاتها النووية، وتسخين أمريكا لتوجيه ضربة عسكرية لها، بسبب قلق إسرائيل المعلن مما تشكله قوة إيران من تهديد لأمنها القومي، خاصة مع التمدد الإيراني علي حدودها مع لبنان وسوريا، وهو ما تصر وتحرص تل أبيب على تسويقه دوليًا، لتبرير تعديها المتواصل عسكريًا على سيادة وأراضي البلدين. الحسابات الأمريكية في مواجهة إيران ستحكمها عوامل وعناصر دقيقة، رغم الضغوط الإسرائيلية المتزايدة على واشنطن، منها موقف الحلفاء الأوروبيين من الأزمة ودفعهم باتجاه العودة لمربع الاتفاق النووي المبرم سابقًا، الذي تخلت عنه إدارة ترامب، وأن يصبح التفاوض مقدمًا على لغة التهديد والوعيد، فلا أحد يرغب في اندلاع حرب لا تبقي ولا تذر، وستلقي بظلال قاتمة بتكاليفها الباهظة على الاقتصاد الأمريكي والدولي، وذاك سيكون غير مستساغ وغير مرغوب فيه، لا سيما وأن الاقتصاد العالمي لم يتجاوز بعد وحتى حين عثرة خسائره من تفشي وباء كورونا قبل عام مضى. علاوة على التكاليف، وانتظار الرد أو الانتقام الإيراني، عقب شن حرب على طهران، فإن إدارة بايدن تعي جيدًا أن وضعها الدولي ليس في أفضل حالاته نتيجة اختيار ترامب الانكفاء على الداخل، وسحب القوات الأمريكية من مناطق نفوذ كالعراق وأفغانستان، وبروز منافسين أشداء للولايات المتحدة، مثل الصين وروسيا اللتين نجحتا في كسب مواقع نفوذ لهما بالشرق الأوسط وإفريقيا والقارة الأوروبية، وأصبح لهما قولهما الفصل في تسوية عديد من الأزمات الدولية تحت سمع وبصر واشنطن.
هذه الحقائق تشير إلى أن الخيار الأمثل الذي تتحصن به الإدارة الأمريكية الجديدة سيكون الوسائط والوسائل الدبلوماسية، وآلية التفاوض وليس المغامرات الخارجية غير مأمونة العواقب والخسائر، ومن بينها احتمال أن تصبح الولاياتالمتحدة هدفًا لهجمات إرهابية انتقامية عند استخدامها ذراعها العسكرية ضد إيران أو غيرها من الدول التي تقف علي جبهة العداء والخصومة مع واشنطن.
أوروبيًا، تراجع كثيرًا النفوذ الأمريكي ولم يعد بالقوة المعهودة والمألوفة، حيث تحاول فرنسا أخذ زمام قيادة القارة ومعها ألمانيا، وتحتاج الولاياتالمتحدة لجهد مكثف لاستعادة ما فقدته من نفوذ وسط الشركاء الأوروبيين الذين يريدون الخروج من العباءة الأمريكية.
وتساور المخاوف المسئولين الأمريكيين من أن استئثار بلادهم بزعامة العالم بات محل شك، وأن اللاعبين الأقوياء كالصين وروسيا ينافسون بضراوة، وتتزايد حظوظهم، خصوصًا الصين التي أزاحت اليابان من مكانتها كثاني أكبر قوة اقتصادية، وتسعى لإزاحة أمريكا من وضعها كأكبر قوة عظمى اقتصاديًا وسياسيًا في القريب العاجل، تلك الحيثيات ستجعل صناع القرار الأمريكيين يبتعدون ولو مرحليًا عن الأدوات الخشنة في تعاملاتها ومواقفها الدولية، للمحافظة على مصالحها، وتعزيز مقدراتها العلمية والاقتصادية والسياسية وعلى مكانة مرموقة يحتفظون بها، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وانهيار الاتحاد السوفيتي السابق.
يتبقى تخوف معلن فيما يخص الأجندة الخارجية للإدارة الأمريكية القادمة بشأن قيام بايدن باستغلال الديمقراطية وحقوق الإنسان كوسيلة ضغط على بعض الدول، وهو تخوف مشروع وله ما يعضده، لكن يجب أن يسبقه تساؤل ضروري، هو هل أمريكا مستعدة لفقد مزيد من الحلفاء والأصدقاء على الساحة الدولية بمحاولتها التدخل في جوانب من صميم الشئون الداخلية وسيادة الدول، بغية دعم فصيل معين، ويلحق به أن هناك تحولات وتطورات جذرية جرت بالأعوام الماضية داخليًا ودوليًا غيرت تمامًا من أوضاع وتصورات كانت مستقرة لدى مؤسسات صناعة القرار بالولاياتالمتحدة، وأنه قبل أن تلقن الآخرين دروسًا في الديمقراطية وحقوق الإنسان ومعاييرهما عليها ابتداءً أن تنظر لمثالب وسلبيات البيت من الداخل ومعالجتها، وأن تراعي وتحترم خصوصية كل طرف وظروفه على أرض الواقع.