د. جمال عبدالجواد يجرى افتتاح الجامعات الجديدة، وتطوير الجامعات القائمة، من أجل تأهيل الخريجين لسوق العمل، فبدا الأمر وكأن سوق العمل يقود نظرتنا للتعليم الجامعي، ويحدد خطط التطوير الواجب تطبيقها، وكأن الجامعة أصبحت تابعة لسوق العمل، وأن الإعداد المهنى للخريجين هو الوظيفة الأساسية للجامعة. أظن أن هذه العلاقة غير سليمة، وأن الكثير من الفرص تفوتنا عندما تتخلى الجامعة عن استقلالها عن سوق العمل. فالجامعة، فى شكلها النموذجي، هى مؤسسة لإنتاج المعرفة، ولتكوين خريجين لديهم معرفة راقية، يقفون عند آخر حدود المعرفة والعلم الإنساني، قادرين على إنتاج أفكار وتطوير ابتكارات وإطلاق مشروعات تتولى تحديد اتجاهات سوق العمل، لا أن تكتفى بالاستجابة لمتطلباته. مر التعليم الحديث فى مصر بمراحل عدة، ومن بينها المرحلة التى تلت الاحتلال البريطاني، عندما هيمن عليه المستشار الانجليزى لنظارة المعارف السيد دوجلاس دانلوب، الذى ركز اهتمامه على التعليم الأولي، بحجة عدم إهدار الموارد فى تعليم لا يحتاجه المجتمع المصري، فكل ما تحتاجه مصر هو موظفين يعملون فى الإدارة الحكومية، وتخريج هؤلاء لا يحتاج إلى أكثر من قدر يسير من التعليم. لقد تم انتقاد هذه السياسة من جانب الوطنيين والمثقفين المصريين؛ ولكن ألم يكن المستر دانلوب يربط بين التعليم وسوق العمل؟ هل كان فى مصر فى تلك المرحلة سوق عمل بخلاف الوظيفة الحكومية؟ لم يكن هناك قطاع خاص فى مجالات الصناعة والتجارة، ولم تكن الحكومة تستثمر فى هذه المجالات، فلم يكن سوق العمل يحتاج إلى علميين أو مهندسين أو اقتصاديين، فلماذا نرهق ميزانية البلاد بإنشاء مؤسسات تعليمية تدرس هذه العلوم، ولماذا نهدر حياة الشبان فى تعلم معارف لا يطلبها سوق العمل. كان إنشاء الجامعة المصرية، التى بدأت كجامعة أهلية بكل معنى الكلمة، تمردا على هذه الرؤية الاستعمارية. رأى المثقفون والوطنيون وقتها أن سياسة الاحتلال التعليمية تحكم على المجتمع المصرى بأبدية التخلف، وأن تزويد الطلاب بالمعرفة هو فى حد ذاته أمر ضرورى ومفيد للمجتمع، وأن الشبان المتملكين ناصية العلم والمعرفة، سيتولون نشرهما بين عموم المصريين، فيتعزز التنوير ويتسارع التقدم. ارتبط ازدهار الجامعة بأسماء كثيرة، ربما أهمها أحمد لطفى السيد وطه حسين وعلى مصطفى مشرفة، لكن ما علاقة كل هؤلاء بسوق العمل؟ أحمد لطفى السيد هو أول رئيس للجامعة، وأهم مفكرى التنوير المصريين، وأشهر من أسهم فى بلورة عقيدة القومية المصرية، وصاحب المقولة الشهيرة «أن الاختلاف فى الرأى لا يفسد للود قضية»، وأول من قرر قبول النساء طالبات فى الجامعة، وكلها أشياء ليست ذات علاقة بسوق العمل، لكنها بالتأكيد ركائز أساسية للنهضة المصرية الحديثة. بدأ طه حسين حياته الجامعية مدرسا للتاريخ اليونانى والرومانى الذى تعلمه فى فرنسا، قبل أن ينتقل إلى تدريس الآداب العربية، فما هى الصلة بين كل هذا وسوق العمل؟أما مصطفى مشرفة فكان متخصصا فى الفيزياء النووية، بينما لم يتم بناء أول مفاعل نووى فى البلاد إلا بعد وفاته بأكثر من عشر سنوات. لا أستطيع أن أرى العلاقة بين كل هؤلاء وسوق العمل، وأزعم أنه لو أن الآباء المؤسسين للتعليم الجامعى فى بلدنا وضعوا الجامعة فى حالة استتباع لسوق العمل، لكنا فقدنا قامات كبيرة أسهمت فى نهضة وتقدم هذه الأمة، ولكانت الجامعة مجرد تطبيق مطور لنظرية الانجليزى دانلوب. انتقاد الاستغراق فى الربط بين التعليم وسوق العمل لا يعنى الرضا عن حال مئات الآلاف من الخريجين من جامعاتنا، لكن مشكلة هؤلاء ليست فى أنهم لم يتلقوا تعليما مرتبطا بسوق العمل، ولكنهم لأنهم لم يتلقوا معرفة ذات قيمة من أى نوع، وإنما تم تلقينهم قشورا، لا هى مرتبطة بسوق العمل، ولا هى مرتبطة بأى شيء حقيقى آخر، وفى هذا فعلا إهدار لموارد وطاقات كثيرة. المشكلة هنا ليست فى الانفصال بين التعليم الجامعى وسوق العمل، ولكن فى إفراغ التعليم الجامعى من مضمونه، وتفضيل الشهادة على المعرفة، وفى تركيز الطلاب والأهالى على الفوز بشهادة حتى لو لم يرتبط ذلك بمعرفة حقيقية. فهل هناك من معنى لحفلات الغش الفردى والجماعى سوى هذا؟ وهل من تفسير لسعادة الطلاب بإلغاء أقسام من المقررات الدراسية سوى الاستهانة بالتعلم والعلم، واعتباره شيئا ثانويا يأتى متأخرا فى أهميته كثيرا وراء الشهادة. لكن هل نتوقع من مئات الآلاف من الطلاب الذين نجحوا بالكاد فى الثانوية العامة أن يتحولوا إلى طه حسين أو مصطفى مشرفة؟ بالطبع لا، فهذا ليس ممكنا لا فى مصر ولا فى أى بلد آخر. لهذا تميز بلاد العالم الناهضة التى تسعى للنهضة بين جامعات متوسطة الحال يلتحق بها الأغلبية من الطلاب، فتؤهلهم لسوق العمل، ليشغلوا مئات الآلاف من الوظائف فى قطاعات البنوك والصناعة والخدمات. أما الصفوة من الطلاب فيلتحقون بجامعات النخبة الممتازة التى لا تشغل نفسها بسوق العمل، لأن ما ينتجه خريجوها من المعرفة، وما يبدعونه فى مجالات العلم والتكنولوجيا والثقافة والمعرفة المختلفة، هو الذى يحدد الاتجاهات المستقبلية لسوق العمل. مشكلتنا الحقيقية ليست فى غياب الجامعات المرتبطة بسوق العمل، ولكن فى نقص جامعات الصفوة صاحبة التقاليد الأكاديمية الرصينة، المتفرغة لإنتاج المعرفة، فكل ما لدينا هو عدد قليل من الجامعات القديمة، خاصة القاهرة وعين شمس والإسكندرية والمنصورة وأسيوط، والتى لديها قدر من التقاليد الأكاديمية المتوارثة، والتى تجاهد للإبقاء عليها، تحت ضغط مئات الآلاف من الطلاب العاديين الملتحقين بها، وضغط العشرات من الجامعات الجديدة المتوافقة مع سوق العمل، سواء كانت جامعات خاصة أو أهلية أو تكنولوجية، والتى تقترب من أن تكون معاهد للتأهيل المهنى المتطور. مطلوب اجتهادات جديدة لصياغة العلاقة بين الجامعة والعلم والسوق، فالإجابات السهلة، حتى لو بدت بديهية، ليست دائما صائبة.